نص الشبهة:
ما هو موقف الإسلام من الاستنساخ البشري؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين..
وبعد..
فإن النظرة إلى الاستنساخ البشري تكون من زاويتين:
الأولى: أن ننظر إلى هذه العملية من زاوية كونها عملاً مخبرياً، وأعمالاً وحركات تؤدي بالتالي من خلال التصرف بالخلايا، أو ما إلى ذلك.. إلى إنتاج كائن بشري..
فإذا كان السؤال عن هذا الأمر، من هذه الزاوية، فربما لا يرى الفقيه الراصد لهذا العمل الإنتاجي في مراحله المختلفة، ما يعتبره إخلالاً أو تجاوزاً للحدود الشرعية، ولا هو من موارد انطباق أيٍ من العناوين المحرمة عليه، كالقتل، والتعدي على الكائنات الحية التي يريد الشارع أن يحفظها، أو غير ذلك..
كما أنه ليس من موارد الخيانة، أو الكذب أو غير ذلك مما ثبتت حرمته الشرعية..
فلا يجد الفقيه في مثل هذا الجهد العملي، والممارسة الواقعية أي مبرر للحكم بالحرمة الشرعية، أو أي مبرر للمنع القانوني..
الثانية: أن ننظر إلى هذا الأمر من زاوية انسجامه مع السياسة الإلهية في إنشاء المجتمعات البشرية، وإرساء منطلقات وركائز الشخصية الإنسانية القادرة على تحقيق الغايات الكبرى من الخلق..
وربما يجد الفقيه أنها متناقضة مع ذلك كله، وأنها من أسباب هدم البناء العام للمجتمع الإنساني، وتدمير تلك الركائز الأساسية في عمق الذات الإنسانية، الأمر الذي يحمل معه حتمية ضياع الأهداف الكبرى من الخلق، وإسقاط كل جهود الأنبياء والأولياء، ومن تبعهم واهتدى بهديهم من المصلحين والمخلصين..
إن أي فقيه إذا وجد نفسه أمام هذه الحقيقة، فإنه سيدرك: أن كل الدلائل والشواهد متظافرة وقائمة ومشيرة إلى أن الله سبحانه هو الله العالم الحكيم، المدبر، والرؤوف الرحيم لا يرضى بالإقدام على مثل هذا الأمر، ولابد أن يمنع منه، وأن يعاقب عليه..
ولبيان هذه الحقيقة نقول:
إن الله سبحانه وتعالى قد أجرى ـ وهو المدبر الحكيم ـ في هذا الكون سنناً، وجعل له نظاماً يمكّن الإنسان من أن يخطط، ويسعى، ويسهم في إثارة كوامن الطبيعة من خلال بعث دفائن العقول وتجليات مواهب المعرفة..
أما العشوائية، فهي طريق السقوط ثم الاندثار، والفناء.. وهي السد المنيع أمام تفاعل الإنسان مع كل هذا الوجود، ولتذبل من ثم زهرة الحياة فيه، وتذوي وتتلاشى.
أما هذا الإنسان الطموح جداً، فإن الله سبحانه حين منحه فرصة التعاطي مع مفردات هذا الوجود، فإنه قد رسم له حدوداً، وألزمه بقيود من شأنها أن تحفظ مسيرة الحياة في خط الصحة والسلامة، واطراد التكامل الإيجابي، ونيل، أو فقل تحقيق الأهداف الإلهية السامية بعيداً عن أي استغلال غير مسؤول لما يتهيأ له من قدرات، من خلال استغلال المعرفة بنظمه ونواميسه.
وبعبارة أوضح وأصرح: إنه تعالى يريد لهذا الإنسان أن يصل إلى أهداف معينة، لا يمكنه الوصول إليها إلا من خلال الانطلاق من مواقع السلامة، والتزام نهج يرسمه هو له، وإلا فسيكون مصيره الدمار، والخيبة والبوار.
ولكن هذا الإنسان حين وجد فرصته هذه، ما فتئ يحاول بإصرار أكيد التملص من كل القيود، والتنكر لكل الحدود، وقد جره إصراره هذا إلى الكثير من السقطات، بل والنكبات..
أما الحدود والقيود التي ألمحنا إليها، فإنها تنطلق من الخطة التي تمكن من حفظ ونيل تلك الأهداف السامية.. هذه الخطة التي تتجلى في منظومة من التشريعات الإلهية الشاملة، التي جاءت وفق الحكمة، وعلى أساس الرحمة والعلم التام والشامل أيضاً..
وهذا بالذات هو ما يفرض التزاماً صارماً بتلك الحدود والقيود، التي تتلاءم مع منطلقات التشريع وشؤونه، وتنسجم مع طبيعته وحالاته، فلا تكون ثمة أية مفارقة بين أي من ذلك كله، صغرت أو كبرت؛ لأن ذلك إذا التقى مع تدني مستوى الالتزام بالتشريع، وبالأوامر والزواجر، وغابت الهيمنة على حركة الإنسان، فسيحدث أكثر من فجوة في البناء العام، فيكون الخلل الكبير والخطير، وتنشأ التعقيدات الكثيرة التي تكون سلبياتها مرفوضة من وجهة نظر الخالق العليم، والشارع الحكيم..
يضاف إلى ما تقدم:
أن من نافلة القول التذكير: بأن من هذه القيود والحدود ما جاء على شكل خطابات وبيانات، أعطت التوجيه المرتكز على التفصيل الصريح لخصوصية الحد، وموقعه، ومداه، تماماً كما هو الحال فيما دل على تحريم الخمر، أو الكذب، أو ما إلى ذلك..
ومنها ما جاء على شكل بيانات وخطابات إلهية ترتكز على عناوين ذات صفة عامة، قد تجد منطبقاتها في أكثر من مجال في الدائرة الأوسع والأشمل..
ولعل أبسط مثال نسوقه على ذلك هو النواهي والزواجر عن عنوان الإفساد في الأرض، وتحريم الإخلال بنظام الحياة العامة..
ليسير ذلك جنباً إلى جنب مع الأوامر الصارمة بالعمل الصالح.. وبالعدل والإحسان.. وما إلى ذلك. وبديهي أن قرائح البشر قادرة على استنباط أساليب لا مجال لحصرها، سواء في مجالات الإصلاح، أم في مجالات الإفساد. ويبقى باب التجديد في كلا المجالين مفتوحاً ما دام هناك إنسان تدفعه طموحاته، وتدعوه شهواته إلى الإفساد، أو يفرض عليه وجدانه ونبله وكبرياؤه وتدعوه مبادؤه وقيمه للإقدام وللإحجام عن كل ما له تأثير على نظام الحياة وفيه حسناً أو سوءاً فيقدم هنا ويحجم هناك.
ولعلنا بعد كل تلكم التمهيدات أصبحنا قادرين على تلمس الموقع والقيمة الشرعية لموضوع الاستنساخ، الذي يسعى إنسان هذا القرن للوصول إليه.
حيث لا بد أن يدرس هذا الأمر في دائرة الصلاح والفساد، وعلى أساس حفظ النظام الإلهي العام، وعدم الإخلال فيه، والتزام حدود التشريع.. فيما يرتبط بسلامة الأهداف السامية، والانسجام مع السياسات الإلهية للبشر في حركتهم في هذه الحياة. وأن لا يتسبب ذلك بنشوء تعقيدات، وظهور خلل في مجالات الحياة المختلفة، مثل قضايا الإرث، أو الزواج، أو غير ذلك من أنواع العلاقات التي تفرض حقوقاً, أو تنشأ عنها إلزامات والتزامات إيمانية وشرعية.. خصوصاً حين نسمع عن اكتشاف هذا الإنسان لجانب من خريطة الجينات الوراثية، الأمر الذي سيجعله قادراً على التلاعب بالشخصية المستنسخة حسبما يحلو له وكيفما يشاء. ولا يمكن الاستسلام في أمر خطير كهذا له مساس بالسياسة الإلهية للبشر, وله تأثيرات خطيرة في كل مسيرتهم، وفي كل حركة الإنسان وعلاقاته في الحياة.. بالإضافة إلى ما ينشأ عنه من تعقيدات مختلفة في مجال العلاقات والحقوق.
نعم، لا يمكن الاستسلام فيه إلى رؤية ساذجة ومحدودة، ولا تصح، ولا تجوز دراسته في دائرة طموحات بشرية، قد تكون مرفوضة في دائرة الحكمة الإلهية البالغة.
إضافة إلى ما تقدم نقول:
إن ملاحظة الآيات القرآنية توحي: أن الله تعالى قد تحدث عن أمر التوالد والتناسل على أنه هو الأساس الطبيعي لانطلاقة الحياة، في نطاق نشوء سلسلة هامة وحساسة من المشاعر والأحاسيس والحالات، ومن النظم والعلاقات، والارتباطات المختلفة، حتى العاطفية منها. كما أن ذلك قد أصبح منشأ لحقوق وواجبات، اجتماعية وشرعية وغيرها.. تسهم في تأهيل الإنسان للسير في صراط السلامة، فيما يرتبط بنيل الأهداف الإلهية التي خلقت الحياة وكل هذا الوجود من أجلها، بعيداً عن منطق العبثية والعشوائية.
وقد نجد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تظهر هذه الحقيقة، فهو تعالى يقول: ﴿ … يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ … ﴾ 1.
ويقول تعالى: ﴿ … فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ … ﴾ 2.
ويقول تعالى: ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ ﴾ 3.
وقال سبحانه: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ 4.
فلا مجال لاختيار الدخول في سياق التمرد على النظام العام، الذي رضيه الله سبحانه وتعالى، ليكون الأسلوب الأمثل في تكوين الأسرة والمجتمع الإنساني، وأساساً ترتكز عليه وإليه العلاقات البشرية، وينبثق منه التكوين الاجتماعي والنفسي والعاطفي وما إلى ذلك..
لأن هذا الاختيار يمثل إخلالاً صريحاً ولا أقل من أنه ظاهرة يشك كثيراً في جدواها، وصلاحيتها لأن تكون مرتكزاً وأساساً لانطلاقة الحياة بصورة صحيحة وسليمة.. خصوصاً ونحن نواجه تحدياً إبليسياً صريحاً يقول: ﴿ … وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ … ﴾ 5.
وقد أثبتت التجربة أن للأوامر الإبليسية دورها الكبير على أكثر الناس إلا من عصمهم الله بالإيمان والورع والتقوى، وما أقل هؤلاء، وما أشد ندرتهم..
وأخيراً.. فإن علينا أن لا نهمل الإشارة إلى حقيقة: أن طريقة خلق آدم وعيسى (عليهما السلام) إنما اقتضاها واقع له خصوصياته المتميزة التي تمنع من اطراد هذا الأسلوب، بل هي تبقيه في دائرة الخيار والاختيار الإلهي.. ولا يمكن، أو فقل لا نحرز أن يكون هو الأسلوب الذي فسح المجال للبشر أن يمارسوه بأمانة وجدارة.
ولذلك فهو لا يصح أساساً شرعياً لتبرير التصدي لممارسة الاستنساخ البشري، أو ممارسة أي أسلوب آخر حتى ما يسمى بطفل الأنبوب ـ إلا من خلال مبررات أخرى قادرة على إثبات الشرعية بوضوح ـ وأين؟ وأنى؟!.
وخلاصة الأمر: إنه لا بد من التزام الحدود الشرعية، والقيود، والأحكام، والمناهج التي وضعها خالق الكون والحياة، وواضع نواميسها، من أجل حفظ الحياة، واطّرادها في خط السلامة والصلاح للانتهاء بها إلى غاياتها وأهدافها النبيلة الكبرى، في تحقيق مضمون العبودية الحقيقية له تعالى. على أن يرافق ذلك حصانة كافية تمنع من نشوء أية سلبيات مرفوضة من الناحية التشريعية، فإن ذلك كله يمثل الأساس الصحيح والقوي لأي موقف من محاولات ما يسمى، بالاستنساخ..
فما دام الأمر لا يبحث في ضمن هذه الدائرة، بل ينظر إليه من زوايا أخرى، بعيدة ونائية عن هذا المسار، ويتعامل معه وفق حسابات بشرية محدودة الرؤية مجهولة الآفاق، تستبطن في عمقها الراسخ طموحات ومآرب، وأهواء ومشارب محدودة.. وقاصرة ومريبة أحياناً.. مع عدم الالتزام ـ ولو بالحد الأدنى ـ بالنهج الإلهي القويم، وعدم الوقوف عند حدوده، أو التقيد بقيوده. ومن دون أي سعي أو وعي لأهدافه الكبرى، الأمر الذي يشير إلى حقيقة التمرد على الأوامر والزواجر الإلهية، ويختزن في داخله عمق الجهل بالنظام الإلهي الأمثل، الذي لا يحق لأحد الإخلال به، ولا التعدي عليه.. هذا فضلاً عن الجهل الذريع بالأهداف والغايات..
نعم.. مادام الأمر كذلك، فلا يمكن لأحد أن يرضى.. أو أن يغض الطرف عن العبث بأقدس شيء وأغلاه. وحيث يضع البشرية في مواجهة خطر التصدع، والاختلال.. فإن هذا سيكون بلا شك أبشع الجرائم وأخطرها.
عصمنا الله من الزلل في القول، وفي العمل، إنه ولي قدير 6.
- 1. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 6، الصفحة: 459.
- 2. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 5، الصفحة: 332.
- 3. القران الكريم: سورة القيامة (75)، الآيات: 37 – 39، الصفحة: 578.
- 4. القران الكريم: سورة الطارق (86)، الآيات: 5 – 7، الصفحة: 591.
- 5. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 119، الصفحة: 97.
- 6. مختصر مفيد.. (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، السيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الرابعة»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1423 ـ 2002، السؤال (225).