لم يعد الإرهاب مجرد ظاهرة عادية أو سطحية يمكن السكوت أو التغاضي عنها، أو المرور عليها بدون التوقف عندها، والاهتمام بها. فقد أصبحت واحدة من أخطر الظواهر التي بحاجة إلى مجابهة، ومجابهة فكرية وثقافية بالذات، ذلك بعد أن تحول الإرهاب إلى نمط ذهني قابل للتعميم بين فئات الشباب خصوصاً.
ولم يعد الإرهاب كذلك، مجرد ظاهرة عابرة تتلاشى وتزول بنفسها، أو بانقضاء أجلها، وتنقطع كلياً بلا عودة أو انبعاث، ومن دون تدخل أو تأثير أو مواجهة.
كما أن الإرهاب لم يعد مجرد ظاهرة بسيطة تنحل وتضمحل بسهولة، فقد تحول إلى ظاهرة مركبة لا تخلو من تعقيد، نتيجة تعدد وتداخل العناصر والأبعاد المؤثرة فيها، أو المتأثرة منها.
يضاف إلى ذلك أن الإرهاب ليس ظاهرة عدمية خالية من المعنى، حتى لو ظهر لنا فعل الإرهاب بصورة عدمية، وخالية من المعنى، أو نقيضاً في نظرنا لأي معنى له قيمة أخلاقية أو جمالية. فهذه الاستحالة لا تتناقض واعتبار أن هذه الظاهرة لها حقلها الدلالي، ومنطقها التأويلي، ولها بنيتها الثقافية، ومنابعها المرجعية. نقول هذا الكلام لكي نحيط بأبعاد هذه الظاهرة، ونصل إلى منطقها الداخلي، ونقبض على حقلها الدلالي.
وهذا يدعونا إلى تحويل الإرهاب إلى مقولة فكرية وثقافية، لكي نقوم بتشريح ثقافي لهذه المقولة، المهمة التي تتطلب الكشف عن جميع المعاني المتصلة بهذه الظاهرة، واستجلاء تمامية الحقل الدلالي لها، واستظهار منطقها التأويلي. من أجل الوصول إلى تلك النصوص والمقولات والتصورات التي تسوغ لفعل الإرهاب وتشرع له، وتحرض عليه. لنقدها وتفكيكها والإطاحة بها.
ويمثل التراث المرجعية التمامية لمنظومة تلك النصوص والمقولات، وتعد هذه المنظومة هي من أكثر المنظومات الثقافية تراثية في النطاق الإسلامي، واستغراقاً في التراث، وتشبثا به، بطريقة كما لو أنه في منزلة الدين، أو يتماهى مع الدين، وهذا هو جوهر المشكلة في هذه المنظومة. وعند تحليل هذه المشكلة في وجهتها العامة نجد أنها تتحدد في أمرين، الأول له طبيعة منهجية ويتصل بطريقة التعامل مع التراث، والثاني له طبيعة معرفية ويتصل بطريقة استنباط المعارف والأفكار.
إشكالية البعد المنهجي في التعامل التراث، تكمن في عدم وضوح المنهج، أو غيابه عند العودة إلى التراث والتعامل معه. فالذي يحصل في مثل هذه الحالة هو الارتداد إلى عالم التراث بحيث يصبح التراث هو العالم الكلي لأصحاب هذا النهج، بالشكل الذي يجعل هؤلاء يعيشون القرن الحادي والعشرين، وكأنهم في القرن السابع أو الثامن الهجري، وبمنطق وذهنية ذلك العصر. أما هذا العصر فهو غائب عن الأذهان بإرادة أو بدون إرادة، وهو العصر الذي يجهله أصحاب هذا المنطق ولا يعترفون به، ولا يريدون أن يمت لهم بصلة، لأنه عصر الجاهلية الحديثة حسب منطقهم وخطابهم.
أما إشكالية البعد المعرفي فتتحدد في جعل التراث المصدر الأساسي إن لم يكن الوحيد في تكوين واستنباط المعارف والأفكار. حيث تصبح جميع المقولات والتصورات والبراهين والاستدلالات، وحتى الشخصيات والنماذج، منبعها ومصدرها هو التراث، وحسب الفهم الذي تحدد لها في تلك الأزمنة والعصور. وكأن المعرفة الإنسانية تظل ثابتة وجامدة بدون حركة وتغير وتراكم. وهذا بخلاف منطق المعرفة وقوانينها، ومن أشد ما يناقضها. فالمعرفة لها حركة لا تهدأ ولا تتوقف، وتظل في حلة تراكم لا نهاية له، ولها قابلية العبور بين الأزمنة والأمكنة والعصور. فالمعرفة هي الأكثر عبوراً بين التاريخ، ولا يمكن حصرها وتحديدها، ولا حتى إيقافها في حقبة معينة من التاريخ، وهذا هو قوة المعرفة وسر عظمتها. فنحن اليوم ما نزال نتذكر تلك المعرفة التي وصلتنا من العصر اليوناني القديم، ونستعيد الحديث عنها بلا توقف، وهي المعرفة التي استطاعت أن تعبر كل هذا التاريخ الطويل، وتصل إلينا وكأنها جزء من معارفنا الراهنة، وسوف تصل لاحقا إلى الأجيال من بعدنا. فالمعرفة هي أمضى سلاح في تفتيت ذهنية الإرهاب1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 22 فبراير 2006م، العدد 14424.