من أبرز ما يميِّز المجتمع الاسلامي عن غيره من المجتمعات الجاهلية قديمها وحديثها: برُّ الوالدين وتبجيلهما وتعظيمهما وحفظهما على كل حال في الصحة والمرض، في السراء والضراء، في العافية والبلاء، وثنَّى الله تعالى بعد توحيده وعبادته دون غيره بالتوصية بالوالدين، عندما قال جلَّ جلالُه: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا … ﴾ 1.
فالتقرُّب من الوالدين، بمن فيهم الجدُّ والجدَّة عبادة بحدِّ ذاته لا ينتهي بتقدُّم عمر الإبن ولا بزواجه ولا بانتقاله الى بيتٍ مستقل ولا بأن يُصبح له أولا وأحفاد ولا بأن يصير من أهل المنصب والشهرة… فكل هؤلاء، ولو بلغوا السِّتين والسبعين من العمر يبقى واجبُ برِّ والديهم قائماً، وإهمالُهُ عق و له عواقب يراها في الدنيا وتلقاه في الآخرة، نعوذ بالله تعالى.
فالدرجة العلمية والمواقع الرسمية والمناصب الاجتماعية… لا تُسقط حقَّ الوالدين ولا تُبرِّر إهمالهما أو أذيَّتهما لا سمح الله، فهما «جنَّتك ونارك» كما ورد عن نبي الرحمة والهدى سيدنا محمد (ص)2.
واقعنا اليوم!
نرى اليوم ممارسات لم نألفها من قبل في طريقة تعاطي الأولاد مع آبائهم وأمَّهاتهم، ناتجة عمَّا يرونه من نماذج سيِّئة من خلال التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى، التي لا تبخل علينا بمشاهد يومية لأولاد من البنين والبنات ممَّن يتصرفون مع أهلهم بطريقة في أحسن حالاتها تنمُّ عن استهتار وخفَّة ولا مبالاة ووقاحة… وهناك حالا أخرى مُخْجلة. وما يزيد في هذه الصورة القبيحة إهمال الأهل لتربيتهم على المفاهيم والقيم الإسلامية، ثم المدارس التي تتجاوز في كثير من الأحيان أخلاقيات وسلوكيات لا تستقيم الحياة الاجتماعية والأُسرية إلا بها، بتوهم الإهتمام بالمواد العلمية واللغات.
وهنا، لا نستطيع إلاّ وأن نُشير الى أهمية سلوك الأهل أنفسهم مع آبائهم وأمَّهاتهم لأنَّهم يُشكلون قدوة لأبنائهم، بل في مرحلة ما هم القدوة الوحيدة والأقرب والأكثر تأثيراً.
فلا شك أنَّ الولد الذي يرى إحتراماً وتبجيلاً من والديه تجاه جدَّيه، سوف ينعكس هذا على مسلكه وطريقة عيشه بل وعقله الباطني ومخزونه العقلي لينفعه يوماً إذا تغيَّرت الأحوال أو استجدت الظروف. رُوي عن مولانا الامام الصادق (ع) أنَّه قال: «برُّوا آباءكم يبرُّكم أبناؤكم»3.
سلوك الآباء والأمهات سببُ برهما
فعندما يرى الأبناء أمامهم نموذجاً صالحاً يُلقي السلام على والديه، ويُبادر للإتصال بهم ولو هاتفياً، ولا يُهمل تفقّدهم، ويُقبِّل أيديهم ووجناتهم إذا لقيهم، ويجلس متأدِّباً أمامهم، ويُسرع الى قضاء حوائجهم، ولا يتأفَّف من طلباتهم، ويُديم الابتسام في وجوههم، ويحرص على رضاهم، ولا يبخل بإدخال السرور إليهم، ويؤمن ببركة وجودهم ودعائهم… عندما يرى الأبناء هذه المشاهد فلا شك أنَّهم سوف يتأثرون بها، وإن بدرجات متفاوتة، خاصة أن تتابع نقط الماء على الصخر لا بد أن يترك أثراً ما.
بالمقابل عندما يرى الأبناء آباءهم وأمهاتهم كثيري التأفف من والديهم، ويشتكون منهم ويتذمّرون ويغضبون.. ويُهملون صِلَتَهم، ويتهرَّبون من مسؤولياتهم، ويتأفَّفون من طلباتهم، ويَنسون حاجاتهم، ويظنُّون أنّ وجودهم يُشغلهم عن مصالحهم المادية والاجتماعية وأنهم يأخذون من أوقاتهم… عندما يرى الأبناء هذا، فلا غرابة أن يسيروا على هذا النهج.
برُّ الوالدين بعد موتهما!
ومن عظمة بر الوالدين التي أمر بها الاسلام العزيز، أنها لا تنتهي في مرحلة أو سنة… بل حتى بعد موتهما.
وهذا دال على الرأفة والرحمة والحنان، هذه الصفات التي ينبغي أن تكون في كل مسلم تجاه أخيه.. فكيف إذا كانا أباً وأماً؟
وبرُّهما بعد موتهما إنَّما يكون بالترحم عليهما كُلَّما ذكرهما (والعلماء أيضاً، الذين هم آباؤنا الروحيون) كأن يقول: رحمةُ الله عليه، أو رضوان الله عليه، أو قُدِّس سرُّه الشريف، أو أسكنه الله فسيح جنانه.
ويكون أيضاً بذكرهما بالخير وذكر مآثرهما الطيِّبة وأفعالهما الخيِّرة لتكون للناس عبرةً وموعظة.
ويكون بالتصدُّق عنهما والدعاء لهما والصلاة والصوم مع إهداء الأجر والثواب لهما، كذلك الحج والعمرة.
ويكون بزيارة قبرهما والمكوث عنده مع قراءة القرآن والدعاء، فيفرحان بهذه الزيارة كما يفرح أحدنا بهديَّة تصله.
وعندما سُئل الامام الصادق (ع) عن رجل يقوم على قبر أبيه وقريبه وغير قريبه هل ينفعه ذلك؟
قال (ع): «نعم، إنَّ ذلك يدخل عليه كما يدخل على أحدكم الهدية يفرح بها»4.
رُوي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قوله: «زوروا موتاكم فإنَّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب الرجل حاجته عند قبر أبيه وأمه بعدما يدعو لهما».
ويكون بالوقف عن روحهما مسجداً أو سبيل الماء أو طباعة كتاب مفيد.. كصدقة جارية يتنعّمان بها… أو وفاء ديونهما، أو إكرام صديقهما، أو إلاستغفار لهما.
رُوي عن مولانا الصادق (ع): «ما يمنعُ الرجل منكم أن يبرَّ بوالديه حيَّين أو ميِّتين: يُصلي عنهما، ويتصدَّق عنهما، ويحجُّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيدُهُ الله عزَّ وجل ببرِّه وصلاته خيراً كثيراً»5.
ونُقل أنَّ رجلاً جاء النبي (ص) فقال: يا رسول الله هل بقي من برِّ أبويَّ شي أبرُّهما به بعد موتهماْ. قال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلةُ الرحم التي لا توصل إلاّ بهما، وإكرامُ صديقهما»6.
أصناف العقوق التي استهان بها الناس في هذا الزمان
أما المنكرات والمفاسد العامة التي لا تجوز مع المسلم من قبيل الأذيّة والغيبة والشتم والضرب والإهانة، فالأولى أنَّها لا تجوز مع الوالدين لحرمتهما ومكانتهما.
لكنّ هناك أمور استهان بها الناس في هذا الزمان كالصراخ في وجه الوالدين، والغضب، وتحطيم الأشياء أمامهما، وإغلاق الباب بقوة للتعبير عن الرفض، والتكلُّم معهما بشدّة، وتأنيبهما، كما «لو قصَّر» الأب في حاجة ابنه، أو الأم في «واجب» منزلي كالغسيل والطبخ… بل أنَّ البعض يتكلَّم معهما والعياذ بالله بصيغة الأمر وبطريقة فوقية أو مهددة أو متوعدة.
نعوذ بالله تعالى من غضبه وسخطه.
رُوي عن الامام الصادق (ع) أنَّه قال: «من العقوق أن ينظر الرجل الى والديه فيحدّ النظر إليهما»7.
وعنه (ع): «مَنْ نظر الى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة»8 هذا مع الظلم فكيف من دونه كما هي أكثر الحالات.
هل هناك أدنى من «أف»؟
ولعظيم حرمة الوالدين، أنزل الله تعالى في حقهما قرآناً يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، أن قال سبحانه:﴿ … فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ … ﴾ 1.
وعلّق الامام الصادق (ع) على هذه الآية الكريمة بقوله: «ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه».
هذا في قول «أفٍ» وهي أدنى ما ينطق به الإنسان، فكيف الحال بما هو أعظم من ذلك؟
بعض الالفاتات في كيفية التعامل مع الوالدين
لذا ينبغي الإحتياط الشديد في التعامل مع الوالدين حتى في النظرة إليهما والكلمة وطريقة الجلوس..
فكُن البادىء بإلقاء التحية ببشاشة وإقبال… وإذا كنت لا تراهم يومياً، فلا بأس بمصافحتهم وتقبيل أيديهم. احرصّ قدْرَ الإمكان أثناء وجودك معهم على أن لا يقوموا بعمل وأنت جالس تنظر إليهم أو تتلهّى بما ليس ضرورياً… وبادرْ الى مشاركتهم ومساعدتهم، إلاّ إذا كانت رغبتهم الإنفراد في ذلك.
عند الجلوس الى مائدة الطعام لا تبدأ قبلهم، واحرص على السَكْب في صحونهم أولاً، وقرِّب إليهم البعيد مما يشتهونه أو يرغبون في تناوله.
لا تدعهم يقومون عن مائدتهم أو أعمالهم لفتح الباب أو الردِّ على الباب… وأنت جالس تتفرَّج عليهم أو تعبث بشيء. إذا أردتم مغادرة المنزل إلى رحلة أو زيارة أو الى القرية… فاحرصْ على ألاَّ ينتظروك خارجاً مع الحرِّ أو البرد الشديدين فيما أنت تختار ثيابك أو تُسرِّج شعرك أو تُهاتف أصدقاءك.
احملْ عنهم الأغراض، خاصة الثقيلة منها.
إيَّاك ثم إيَّاك أن تخاطبهم بصيغة الأمر، أو بلهجة المستنكر، أو بصيغة الموبِّخ، أو المستهزىء، أو المقرِّع، كأن تقول: لِمَ لم تفعلي ذلك.. قلتُ لكِ إغسلي ثيابي… كان يجب عليكَ أن تفعل ذلك… ومَنْ قال لك هذا؟!… أنا حر أفعل ما أريد!وإذا كان لا بد من طلب شيء أو الإشارة إليه، فليَكُنْ: إذا سمحتِ… هل من الممكن.. يا ليت هذا يكون… أريد هذا الأمر من بعد إذنكم… من فضلكِ أريد… لعلَّ ذلك يكون أنسب.. ظننتُكِ سوف تغسلين.. لا تُحرجهم أو تضطرهم لفعل شيء لا يرغبون به. إذا كانوا طاعنين في السن أكثر من زيارتهم وتشرَّف بخدمتهم، وفي بعض قد تستدعي الحاجة أن يقيموا معك أو تُقيم معهم أو أن تتجاوز في المنزل مع إمكانية ذلك.
إذا اعترضتهم ضائقة مالية، وكنت ميسورَ الحال، فبادر فوراً الى قضاء حاجتهم (وهذا واجب شرعي في الأمور الضرورية) حتى لا يطلبوا منك ذلك، فضلاً عن غيرك.
لا تسمح لأولادك أن يتكلَّموا بجرأة أو وقاحة معك أو مع أجدادهم وجدَّاتهم، وهذا يحدث كثيراً في هذه الأيام تحت عنوان الثقة بالنفس والهضامة!.
«فجرأة الولد على والده في صغره، تدعو الى العقوق في كبره»9.
ورُوي عن الامام مولانا الصادق (ع) في قوله تعالى﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ … ﴾ 10.
«لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ بالرحمة والرقَّة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدِّم قدامهما»11.
هذا، ولا بد من إلفاتٍ أخير إلى أنَّ كل ما ورد في الوالدين يُقصدُ به أيضاً الأجداد والجدَّات.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.12
- 1. a. b. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 23، الصفحة: 284.
- 2. راجع تمام الحديث في «الترغيب والترهيب»، ج3، ص316
- 3. بحار الأنوار، ج74، ص65
- 4. بحار الأنوار، ج102، ص296
- 5. بحار الأنوار، ج74، ص46
- 6. الترغيب والترهيب، ج3، ص322
- 7. الكافي الشريف، ج2، ص349
- 8. بحار الأنوار، ج74، ص61
- 9. تحف العقول، ص63
- 10. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 24، الصفحة: 284.
- 11. الكافي الشريف، ج2، ص158
- 12. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي خضرا (حفظه الله).