مفهوم الاجتهاد ومنطقه له دور فعال في نقد وتفكيك بنية وذهنية التعصب والجمود الفكري، وتتجلى هذه الفاعلية في الأبعاد التالية:
أولاً: التحرر من الفهم الأحادي في تكوين المعرفة بالمفاهيم والمسائل والتصورات الدينية والشرعية والفكرية، والتعامل مع هذه المفاهيم والمسائل والتصورات على أساس أنها تحتمل أكثر من معنى، وتتسع لأكثر من اجتهاد، وبالتالي عدم الانغلاق على فهم محدد، وعلى رؤية أحادية، وضرورة الانفتاح في المقابل على التصورات ووجهات النظر الأخرى.
والتشدد والتعصب والتطرف إنما ينشأ ويتكوّن نتيجة الانغلاق على الفهم الأحادي، الذي يجعل العقل يضيق بهذا الأفق، ويتحول إلى عقل يصادم عقول الآخرين.
في حين أن منطق الاجتهاد الفكري يحفز العقل في تكوين المعرفة، على أساس الانفتاح والتواصل مع مختلف وتعدد مصادرها ومنابعها.
ثانياً: التحرر من الفهم الجامد الذي لا يقبل التطور والتغير، أو التجدد والنقد. الفهم الذي يصطدم بتجددات الحياة، ومتغيرات العصر، وتحولات الزمن، ومقتضيات التقدم، وشرائط المستقبل. فالبقاء الجامد على فهم يرجع إلى القرون السالفة، بدون ملاحظة قوانين الزمان والمكان والحال، وقوانين العقل والمعرفة، وقوانين الحضارة والتاريخ، هو الذي يكون سبباً في خلق ذهنية تتصادم مع المدنية، وترفض التواصل مع العالم، والانفتاح على المعارف الإنسانية.
في حين أن منطق الاجتهاد يأبى على الإنسان أن يتمسك برأي أو فهم، يظل عليه بدون فحص أو نقد، أو بدون تعديل وتجديد.
ثالثاً: إن الأصل في الاجتهاد هو الاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف، والإقرار بمبدأ التعدد والتنوع في الرأي، والرضا والتكيف الإيجابي مع طبيعة هذا الواقع بدون مصادمة أو ممانعة. وبالتالي لا يجوز حمل الناس على رأي واحد، وموقف واحد، ومنهج واحد، وسلوك واحد، وهذا من أشد ما يناقض ويصادم منطق الاجتهاد. فالحياة لا يمكن أن تستقيم بمنطق الرأي الواحد، بل هي عصية على هذا المنطق، ومن أشد من يعارض هذا المنطق هو المنطق نفسه.
والله سبحانه وتعالى حينما دعا الإنسان للنظر والتفكر في خلق السماوات والأرض، والسير والنظر في الأرض، من هذه المقاصد لكي يلتفت الإنسان إلى كل هذا التنوع والتعدد الموجود في كل شيء، في عالم السماوات، وعالم الأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الإنسان كذلك. وهذا هو قانون الكون، وسنة الحياة، وناموس الاجتماع الإنساني.
كما أن الاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف، يفترض أن يوجب ويشجع التواصل والانفتاح على أفكار الآخرين ووجهات نظرهم، وتكوين المعرفة بها. وهذا الذي يعطي قوة المعنى لحق الاختلاف، وإلا فلا معنى لحق الاختلاف بدون التواصل والانفتاح مع من نختلف معهم. وهذا ما ترفضه ذهنية التعصب والجمود، التي لا تعترف للآخرين بحق الاختلاف، لأنها لا ترى إلا ذاتها قابضة على الحق والحقيقة.
رابعاً: إن جوهر الاجتهاد هو إعمال العقل، فلا اجتهاد من دون إعمال للعقل. فالاجتهاد هو إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية باستفراغ الوسع، وبذل أقصى مستويات الجهد الفكري والعلمي والمنهجي، بالشكل الذي يحقق الاطمئنان النفسي والعلمي. ولهذا يؤجر المجتهد حتى لو لم يكن مصيباً، لكونه بذل جهداً مشكورا من جهة، وحتى لا ينقطع عن الاجتهاد ويتوقف عندما لا يصيب من جهة أخرى.
هذه هي فاعلية منطق الاجتهاد في نقد وتفكيك بنية التعصب والجمود الفكري1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد حفظه الله نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 13 سبتمبر 2006م، العدد 14627.