اتفقت كلمة الإمامية على حرمة الغناء و اختلفوا في حرمة الموسيقى، كما اختلف الناس في تعريف الموسيقى Music ذاتها وفقا للموسوعة الإلكترونية Encarta. ولا عجب من ذلك بعد معرفة التداخل اللغوي و التاريخي و الديني و الحضاري و الشخصي في موضوع الموسيقى. فهل ثمة غناء إسلامي في الوجود؟ ألا تشي العبارة بنوع من التعارض بين الكلمتين؟ و هل ثمة موسيقى محللة؟
تمهيد
ما من حاجة إنسانية أصيلة إلا و لها سبيل محلل في الشريعة المقدسة. فقد أحل الله النكاح و حرم السفاح، و أحلت بهيمة الأنعام إلا ما يتلى، و للمرء أن يسافر لمعاشه أو لمعاده أو للذته في غير محرم، وللإنسان حق التملك و عليه إخراج الحقوق، و يجوز له الأكل و الشرب ولا يجوز الإسراف و لا التبذير، و يستطيع الاتجار و البيع و الشراء ولا يجوز الربا، و له أن يروح عن نفسه باللعب بغير قمار ولا تفويت فريضة.
من هذه الأحكام نرى توازنا بين المباح و المحرم، فغريزة الجنس لا يمكن أن تكبت تماماً و منفسها الزواج الشرعي.
و حب اللحوم من الأحمر و الأبيض له ضوابط يتميز بها المحلل من المحرم كصفات الحيوانات و الطيور و تركيبها العضوي و صفة طيران بعض الطيور كالصفيف و الدفيف.
و المشروبات و العصائر محللة في الأصل و يحرم ما أسكر أو تنجس أو أضر، و كثير غير ذلك من أحكام تنظيم سلوك الإنسان.
فما الذي أباحه الشرع لإشباع رغبة الإنسان السمعية؟ و حاجة الأذن لسماع الأصوات المنظمة بطرق غير الحديث العادي و الحروف العادية و الأصوات الكثيرة الطبيعية و غير الطبيعية؟ هل منع الشرع من كل لذة سمعية؟ و حرم كل ما تستأنس به الآذان؟
اللذة السمعية: فطرية أم طارئة؟
لابد أولا أن نعرف ما إذا كانت الحاجة إلى تحقيق اللذة السمعية فطرية أصيلة في تكوين الإنسان، أم أنها حاجة زائدة عن الفطرة؟
إن رغبة الإنسان في تناول اللذيذ من المأكولات و متابعة أصناف الطعام الشهية هي شهوة مطوّرة و مضخّمة من أصل الحاجة إلى الطعام في حده الأدنى الذي يضمن البقاء ويزود الإنسان بالطاقة.
كما أن رغبة البعض في التذوق الجنسي المتنوع (الذواقين و الذواقات) هي نوع من الاسترسال في غريزة إنسانية يمكن إشباعها دون تنويع و تعدد.
ومن الغرائز ما لا يظهر إلا في أوان معين أو في ظروف معينة يجب توفرها، فغريزة الجنس لا تستيقظ في الطفولة (السوية)، و حب الرئاسة و الملك و السيطرة لا تنتاب عموم الناس من الكادحين أو من لا يتجاوز طموحهم سوى الضروريات. فإذا توفرت أجواء الملك و الرئاسة ظهرت كوامن النفوس و الغرائز المنتمية إلى هذا المجال.
و اللذات تبدأ صغيرة ثم تأخذ شكلاً أكثر تعقيداً و تشابكاً، فلربما انتعشت نفس الإنسان البدائي و أصابه الطرب لدى سماعه أنغام الطيور و تغريدها في جو طبيعي خالص. ثم تطور الأمر إلى تعقب ما يشبع هذه الرغبة لنصل إلى ما نحن فيه من علم خاص بفنون الموسيقى و الغناء.
إن هذه الأصوات – الطبيعية – مهما كان حسنها تصبح أمراً مألوفاً لا تحدث الأثر في النفس كما أحدثته أول مرة. وكذلك أنغام الإنسان المخترعة، فإن أي مقطوعة صوتية – مهما بلغ إطرابها و حسن نظمها- لا يمكن أن تستمر في إحداث ذات الأثر الذي تحدثه في المرة الأولى. ولذلك نرى المسيرة مستمرة في تطوير هذا الفن.
إن الرغبة في سماع الأصوات المنغمة نابع من ميل بشري عام نراه واضحاً في جميع الشعوب و المجتمعات، فالعود العربي و السنطور الإيراني و القيثارة الغربية و التيكو الياباني و البلالايكا الروسي، تكشف عن حالة عامة لدى الشعوب من الميل إلى سماع الأصوات المنظومة بنسق خاص.
و يبقى السؤال مطروحاً. هل ميل الإنسان إلى سماع الأنغام هو حاجة أساسية من صلب التكوين البشري؟ كالحاجة إلى الطعام و النوم و ممارسة الحب – وفقا للتعبير الغربي –، أم أنها مجرد ميل طارئ أدخله الإنسان على حياته و يمكن مواصلة العيش دونه، مثل ميل الإنسان لجمع المال و الإنجاب و تذوق أصناف الأطعمة الفاخرة و التنويع في (الحب)؟
بالطبع يمكن للإنسان الحياة بالحد الأدنى من تعاطي الشهوات، الماء و (صنفين) من الطعام و النوم أربع ساعات، مع شريك مفرد، دون إنجاب وبمال يكفي للضروريات و حسب. كما يمكنه الاستمرار في العيش دون تلبية حب الرئاسة و جمع المال و الشهرة و استماع الأصوات الجميلة. بل في عالمنا من تستمر حياتهم بأدنى من تلك الحدود.
إذاً ميل الإنسان لسماع الأنغام و الأصوات الجميلة هو من الميول الإنسانية غير الأساسية و من الحاجات البشرية غير الضرورية كحاجة الإنسان للغذاء و الشريك و النوم وغير ذلك.
و إذا كان الشرع تكفل بإيجاد التوازن في شؤون الغرائز المعروفة، كالطعام، الأكل دون إسراف و الزواج، التخيير بين الواحدة و التعدد و جمع المال، حق التملك مع إخراج الحقوق و مواساة المعوزين و اللعب، كل لهو المؤمن باطل إلا تأديب الفرس و رمي القوس و الملاعبة بين الشريكين.
معيار الحرمة و الحلية
فما هو ميزان التعاطي مع هذه الغريزة أو الحاجة أو الميل لسماع الأصوات المنظومة و الأنغام الجميلة؟
ينبغي دراسة أو معرفة الأثر الذي تحدثه هذا الأنغام و الأصوات المنظومة، و علينا بعد ذلك تحديد مدى توافق هذا الأثر مع الأهداف الإسلامية و الغايات الشرعية.
إن الأثر الذي تحدثه الموسيقى في الإنسان يطال النفس و الجسم، و لكن أثره على النفس أجلى و أكبر، فقد يكون الأثر
- أنساً
- انبساطاً
- فرحاً
- خفةً
- طرباً
- حماساً
- حزناً
- انكساراً
- تأملاً
- خوفاً
- اطمئناناً
و ينتج عن بعض تلك الحالات زيادة في ضربات القلب أو ارتخاءً في الأعصاب أو غيرها من الانعكاسات الجسمية للوضع النفسي.
فهل يمكن تمييز المحلل من الموسيقى تبعاً للأثر الذي تحدثه؟ فمثلاً إذا أحدثت في نفس المتلقي تفكراً و ارتخاءً أو حزناً أو حماساً فهي محللة و إذا أحدثت خفة و طرباً و إغراءاً بالشهوة فهي محرمة؟
ربما يؤيد البعض هذا الرأي و لكن تبقى إشكالية ضياع المعيار بسبب شدة النسبية و تدخل التقييم الشخصي في التصنيف. إذاً لا بد من الاستناد إلى معيار آخر و إلا أصبح الحكم الشرعي متعدداً في موضوع واحد. بل ربما يتعدد الحكم بتعدد حالات الفرد النفسية، فقد يتغير الأثر الذي تحدثه الموسيقى فيها بتغير الزمان و الأجواء المحيطة.
إن المعيار الفقهي المتبع لتمييز الموسيقى المحللة من المحرمة هو:
- الآلة الموسيقية (لا يجوز استعمال آلات اللهو و يجوز استعمال الآلات المشتركة).
- الإطراب (لا يجوز استماع المطرب و إن لم يحدث طرباً في المستمع ).
و الحكم يجري على طرفين:
- العازف (لا يجوز له استعمال الآلات اللهوية و يجوز استعمال الآلات المشتركة).
- المستمع (لا يجوز سماع الموسيقى الناتجة من آلات اللهو ولا الموسيقى المطربة).
إن الآلات الموسيقية تبلغ ما يربو على 140 آلة أنتجتها حضارات عديدة في أزمنة مختلفة و لكنها تنقسم في أصلها إلى:
- آلات النفخ: كالمزمار و البوق و الناي و الأكورديون.
- الأوتار: كالعود والكمان و القيثارة و البيانو.
- آلات النقر: كالدف و الطبل و (العرطبة و البربط و الصنج).
إن ما أوقع كثيراً من المؤمنين في اللبس هو غياب الأسماء الحديثة للآلات الموسيقية في الرسائل العملية، إن الروايات و الكتب الفقهية تبين أن الآلات المعنية بالتحريم كانت معروفة بأسمائها و مشخصة لدى السائل و المجيب في عهد المعصومين وفي أزمنة الفقهاء القدماء – قبل قرنين و أكثر، كالمزامير و الطنابير و الزمر والعود و الدف و البربط و العرطبة و الكوبة و اليراع و الصنج و الرباب و الناي وغيرها مما كان معروفا ثم اندثر أو بقي مستخدماً إلى يومنا كالعود العربي و الناي و المزمار.
فقد كان لهذه الأصناف وجود منذ بعثة النبي ولكن بصورتها البدائية، فالعود تطور إلى القيثارة و من بعده اخترع البيانو، و المزامير لها أصناف كثيرة من ضمنها الأكورديون، و الدف و الطبل البدائي طور إلى أشكال حديثة و أصناف جديدة من الطبول.
وقد ورد في الرواية عن النبي (إن الله بعثني رحمة للعالمين ولأمحق المعازف و المزامير و أمور الجاهلية)، ولا يمكن تصنيف هذه الآلات الحديثة المطورة و المستنسخة مما كان على عهد النبي والأئمة المعصومين إلا معازف و مزامير بلباس جديد و محقها من أهداف البعثة النبوية الشريفة.
إن غياب أسماء الآلات الموسيقية المستخدمة في عصرنا عن لغة الفقهاء الكرام أدى إلى اعتقاد البعض أنها من الآلات المشتركة بمعنى أنها إذا استخدمت في حفلات الصخب و الغناء اللهوي فهي محرمة أما إذا استخدمت في (الغناء الإسلامي) فهي محللة.
مع وجود أمثلة واضحة على الآلات المشتركة في عبارات الفقهاء (كالراديو و المسجلة) مما يعني أن الآلات المشتركة لا يقصد بها آلات الموسيقى المعروفة كالعود و البيانو و الأكورديون و المزامير، بل الأجهزة المحايدة التي يصدر منها الغناء و الدعاء.
وليس معنى الاشتراك أن تستخدم هذه الآلات للهو تارة و للإنشاد الديني تارة أخرى. فهي آلات لهوية صنعت للهو و تستعمل للهو على نطاق العالم، و إذا لم تكن هذه الآلات – البيانو. . . إلخ – لهوية فأين هي الآلات اللهوية المحرمة التي تحدث عنها الفقهاء إذاً؟
ولو كان معيار الحرمة هو ما يصدر عن الآلة من أصوات و تمييز المطرب من غير المطرب، لما حرمت الآلات الغنائية القديمة ولأصبح المناط في الحرمة طبيعة الصوت الصادر منها. وإلا فأي معنى يبقى للتصنيف المشهور عند الفقهاء المميز بين آلات اللهو و الآلات المشتركة.
إن جواز الموسيقى مرهون بصدورها من آلات غير لهوية، فبعد استبعاد العود و القيثارة و البيانو و البوق و الناي و الأكورديون و غيرها مما تستعمله الفرق الموسيقية الغربية و العربية و يستعمل عالمياً في حفلات اللهو و الرقص و الطرب و المعد أصلا لذلك الغرض. و بعد استبعاد الآلات اللهوية القديمة و الحديثة مما اخترع في القرون الثلاثة الماضية إبان بروز الحضارة الغربية و أفول الحضارة العربية وزوال قوتها، أقول بعد استبعاد هذه الآلات لا يبقى إلا الطبل إذا عددناه من الآلات المشتركة.
وعندئذ سنلجأ إلى الإبداع في استخدام ما توفر لنا من الوسائل المنتجة للأصوات الجميلة المتسقة من قبيل أصوات العصافير و خرير المياه والآهات البشرية و التصفيق و نقر بعض المعادن أو الزجاجات الفارغة وغير ذلك مما هو في دائرة المباح بشرط ألا يكون الناتج من هذه الأدوات مطرباً مشابهاً لما تنتجه الآلات المحرمة1.
- 1. نقلا عن شبكة مزن الثقافية – 16/4/2008م – 4:37 ص.