لأخوة في الاسلام
قال الله تعالى: “فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً” (سورة آل عمران، آية 103).
علاقة الأخوة في ثوب الاستحباب:
حث الإسلام على اتخاذ الأصدقاء الذين اصطلح عليهم اسم “الأخوة” وبين ثواباً جزيلاً على هذا الأمر.
فقد
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخوة في الاسلام
قال الله تعالى: “فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً” (سورة آل عمران، آية 103).
علاقة الأخوة في ثوب الاستحباب:
حث الإسلام على اتخاذ الأصدقاء الذين اصطلح عليهم اسم “الأخوة” وبين ثواباً جزيلاً على هذا الأمر.
فقد ورد عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: “من جدّد أخاً في الإسلام بنى الله له برجاً في الجنة”.
وقال أيضاً: “استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة”.
مشكلة تعترض الطريق:
وفي أجواء علاقة الصداقة والأخوة نلاحظ مشاكل وعثرات تعترض هذا الطريق الإلهي وتوقف العلاقة لتتحوّل في بعض الحالات إلى عدم انسجام بل قد تصل إلى مرحلة النفور والعداء بين الأصدقاء القدماء.
فقد نجد في مجتمعنا صديقين حميمين وأخوين عزيزين يغبطهما الناس على علاقتهما الوطيدة التي يجتمعان في ظلها في أفراحهما وأتراحهما، لكن فجأة يسمع الناس بمشكلة صغيرة حصلت بينهما فانقطعت العلاقة حتى أن أحدهما قد يمرُّ بصاحبه ولا يسلّم عليه، بل قد يتجنب الحضور في بعض المجالس التي فيها صديقه.
لماذا انقطعت العلاقة؟!
يسأل الناس هذا السؤال ليكون الجواب سخيفاً حينما يُقال: لقد اختلفا على مبلغ مالي صغير كان السبب في القطيعة الحاصلة بينهما.
كلاّ! إن هذا ليس السبب الحقيقي.
بل هو سبب آخر سأتحدث عنه في هذه المحاضرة بإذن الله تعالى. وفي البداية أقول:
إن السبب الأساسي لمثل هذه المشكلة هو عدم اطّلاع هؤلاء الناس على الضوابط التي وضعها الإسلام في مسار الصداقة والأخوّة وعدم الالتزام بتلك الضوابط.
لذا سأتحدّث عن النظام الذي وضعه الإسلام في علاقة الأخوّة ليسير الناس عليه دون عقبات.
– ما قبل العلاقة:
ذكرت الروايات جملة من الأمور التي ينبغي للمؤمن أن يضعها نصْبَ عينيه قبل أن يدخل في علاقة الأخوة والصداقة، وهذه الأمور هي:
خلفية العلاقة:
شدّدت الروايات الواردة عن المعصومين (ع) على أن لا تكون الغاية من الدخول في علاقة الصداقة غاية دنيوية، بل ينبغي أن يكون الدافع هو الإخلاص لله تعالى في هذه العلاقة، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) “كلّ مودة مبنية على غير ذات الله سبحانه ضلال”.
وقد حدّثنا الإمام الرضا (ع) أن الثواب الإلهي يُعطى في علاقة الصداقة إذا كان المُنطلق هو الله تعالى فقال: “من استفاد من أخ في الله استفاد بيتاً في الجنة”.
العلاقة المفيدة:
كما شدّدت الأحاديث أن تُلاحظ في العلاقة الصفات الحميدة التي تنفع الإنسان في مسيرة الصداقة، فقد ورد عن الإمام علي (ع) “أخٌ تستفيده خير من أخٍ تستزيده”.
وقد ركّزت بعض الروايات على صفة الصِّدق في الصديق واعتبرتها الصفة التي تكون مُنطلقاًَ لاستحباب اتخاذ الإخوان الصّدق، فأكثِر من اكتسابهم، فإنّهم عدّة عند الرّخاء وجُنّة عند البلاء”.
وصفة الصدق هيه هي المُشار إليها في الحديث المعروف “صديقك من صدَقَك لا من صدَّقك”؟
ولعلّ الصديق سُمِّي صديقاً لأجل تَلَبُّسِه بهذه الصفة الحميدة.
تمييز الناس:
إنَّ من أهمّ الأمور التي طرحها الإسلام في مسألة الصداقة هو عدم التسرّع في اتخاذ الأصدقاء، فالمفروض بالإنسان الواعي أن يدرس شخصية الأخ الذي يريد اتخاذه صديقاً يفتح له قلبه في العلاقة، فليس كل شخص – وإن كان مؤمناً- يكون مُؤهلاًَ لهذه العلاقة، فقد تكون فيه بعض الصفات التي تُعكّر من صفو الإنسجام بينهما، وكثيراً من المشاكل التي تحدث تكون نتيجة عدم الدراسة المتأنية لشخصية الطرف الآخر، فيباشر معه مشروع الصداقة المفتوحة بدون دراسة، إلا أنه يصطدم بواقعه بعد فترة من الزمن لتتحوّل المحبة بينهما إلى حالة جفاء.
من هنا طرح الإمام علي (ع) تقسيم الإخوان في العلاقة إلى قسمين:
الأول: إخوان العلاقات الرسمية الذين يعاملهم المعاملة الحسنة لكن من دون توطيد لهذه العلاقة بحيث يكون من الأصدقاء الحميمين الذين يفتح لهم كل قلبه ويعرض عليهم مشاكله وأسراره…
الثاني: إخوان الثقة وهم الذين يتخذهم أصدقاء حميمين يفتح لهم قلبه ويُوطّد علاقته بهم حتى كأنّهم هو في داخل شعوره.
وعن هذين القسمين قال الإمام علي (ع) – فيما ورد عنه-: “الإخوان صنفان، إخوان الثقة وإخوان المكاشرة”.
وإخوان المكاشرة هم القسم الأول أي إخوان العلاقات الرسمية، لأنّ “كاشر” في اللغة العربية بمعنى ابتسم من دون صوت، مما يعني أنه لم يتفاعل في ابتسامته من داخله، وإنّما اقتصر على الابتسامة الخفيفة ليُحافظ على لياقة العلاقة العامّة.
اختبار الصديق:
وقد طرح الإسلام صفاتاً لأخ الثقة الذي ينفتح عليه المؤمن كي تستمر علاقة الأخوة الحقيقية بينهما دون عثرات، من هنا وردت في الروايات أن المؤمن الواعي حينما يريد اتخاذ الصديق – أخ الثقة- عليه أن يتعرّف على ثلاث نقاط في شخصيته، ولو كان التعرّف من خلال اختبار وامتحان له.
فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): “لا تُسمِّ الرجل صديقاً سمةً معروفةً حتى تختبره بثلاث:
1- تغضبه فتنظر غضبه يخرجه من الحق إلى الباطل.
2- وعد الدينار والدرهم.
3- وحتى تسافر معه.
وأظنّ أن طرح مسألة السفر ليس له موضوعية، وإنّما المراد أن يتعرّف على طبيعته الحقيقية، لأن الإنسان يستطيع أن يُحافظ على تطبُّعه ويُخفي طبيعته في كثير من الجلسات، لكن هذا الإنسان حينما يُسافر مع رفاقه سفراً متعباً يكون معهم فيه لأيام عديدة فإنّ من الصعب عليه أن يُخفي طبيعته، لا بدّ أنها ستظهر في هذا السفر المتعب كما نلاحظ ذلك في بعض المؤمنين في سفر الحجّ إلى بيت الله الحرام.
فالإمام الصادق (ع) يدعو إلى التعرف على طبيعة الأخ، حتى لا ينصدم حينما يفتح علاقة الصداقة معه ويرى منه بعد فترة من الزمن ما لا يرضاه، فيكون ذلك مما يزلزل عُرى الصداقة بينهما.
– ما بعد العلاقة:
ولم يكتفِ الإسلام ببيان النقاط السابقة الهادفة إلى إيجاد الوعي حالة اختيار الأخ والصديق، بل حدّد أموراً ينبغي مراعاتها بعد علاقة الأخوّة كي تستمرّ هذه العلاقة دون عثرات ومن هذه الأمور:
احتمال الزّلّة:
فقد ورد عن الإمام علي (ع): “احتمل أخاك على ما فيه”، فالإمام (ع) يلفت في حديثه هذا إلى أنّ المؤمن ينبغي أن لا يُدقّق في كلّ نقيصة يراها في أخيه، فإنّ طبيعة الإنسان غير معصوم، وقد تصدر منه بعض الزّلاّت، فالمفروض أن يتحمّلها مع التّفكير جيّداًَ في طريقة علاجها بالأسلوب الحسن، وهنا تأتي النقطة الثانية التي تصبّ في خانة العلاج وهي:
العتاب البنّاء:
فإذا صدر من الأخ تصرُّف خاطئ فلا بد أن تكون ردّة الفعل حكيمة في جانب الأخ المقابل، لذا لا بدّ من تحديد نفسيّة المخطئ هل يتقبّل العتاب أم لا ؟، فإن كان من النّوع الذي لا يتقبّل العتاب أصلاً، فإنّ الإقدام على العتاب قد لا يصُبّ في خانة الحكمة، وإلى هذا يشير الإمام علي (ع) بقوله: “واستعتب من رجوت عتابه”.
أما إذا كان المخطئ يتقبّل العتاب فينبغي لأخيه المؤمن أن يصارحه بالخطأ الصادر عنه بأسلوب حكيم وهادئ، لأنّ الإنسان حينما يواجه الخطأ من صديقه ولا يصارحه معاتباً قد يواجه مشكلة نفسية وهي حمل نوع من الضغينة في قلبه، فإذا واجه خطأًَ آخر منه زادت الضغينة في قلبه، وهكذا يحمل في قلبه تراكمات تجاه صديقه، وتستمرّ العلاقة لكن بتراكمات من الضغائن في القلب دون أن تحصل حالة المصارحة بينهما، وهذه هي إحدى الأسباب الرئيسية لتحويل حالة الصداقة إلى نفور وعداء عند أيّ مشكلة تحصل ولو كانت صغيرة كالمشكلة التي عرضتُها في أوّل المحاضرة، فالنّاس حينما يسألون عن سبب النّفور الحادث يأتي الجواب بأنّه مشكلة ماليّة صغيرة، ويتعجب الناس من ذلك، والحق معهم في تعجبهم، لأن المشكلة الحقيقية ليست المال وإنما هي التراكمات القلبية السابقة التي فجرتها المشكلة الصغيرة، وعلى حد تعبير المثل المشهور “القصة ليست قصة رمانة، بل هي قصة قلوب مليانة”.
وهنا نعرف قيمة العتاب البنّاء، فلو كان هذا الشخص قد صارح أخاه من أول خطأ صدر منه وعاتبه لما حصلت هذه التراكمات لأن العتاب كما ورد “غسيل القلوب”، بل هو كما ورد عن الإمام علي: “العتاب حياة المودّة”.
وينبغي أن يكون العتاب في جوٍّ هادئ، وأسلوبٍ حكيم، فإن العتاب أمام الآخرين قد يُؤثِّر سلباً بدل أن يُحقّق إيجابيات وقد نبّه الإمام الحسن العسكري (ع) إلى هذا بقوله: ” من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه”.
فالأسلوب الحكيم في توجيه الملاحظات هو الذي يُؤثِّر أثره، وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ المؤمن حينما يُوجّه له الآخرون الملاحظات فإنه يتقبلها بصدر منفتح، بل يكون كما كان أمير المؤمنين (ع) يُوجّه قائلاً: “ليكن آثر الناس عندك من أهدى إليك عيبك وأعانك على نفسك”.
تصديق الأخ:
وفي أجواء العلاقة الأخوية قد يتدخلّ بعض الأشخاص لينقلوا عن الأخ كلاماً يعكّر من صفو العلاقة، وقد قلنا: “إنّ علياً أمر في مثل هذه الحالة أن يراجع الأخ ليستعتب في ذلك إن كان مما يُرجى عتابه ولكن قد يتفاجأ المراجِع العاتب حينما يقول له أخوه: “أنا لم أقل هذا أصلاً” ماذا يكون موقفه؟ هل يصدّقه فيما يقول؟! أو يُصدّق أولئك الناقلين؟!
يأتي الإمام موسى الكاظم (ع) ليجيب رجلاً سأله نفس هذا السؤال فأجابه الإمام (ع): “كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم”.
فالأخ صادقٌ فيما يقول، أمّا الناقلون فينبغي أن لا يترتّب على كلامهم أثراًَ فلا يصدّقهم فيه (لا أنه يفتح معهم جبهة عداء) نعم إن كانوا من النمّامين المفتنين بين الناس فيجب عليه أن يتخذ الموقف الصارم اتجاههم فيما إذا كانت الحكمة تقتضي ذلك، وتصديق الأخ فيما يقول يُعتبر ركناً أساسياً في استمرار هذه الصّداقة، فإنّ عامل الثقة حينما يهتزّ تتزلزل معه أركان العلاقة.
عدم تضييع حقه:
ومن الأمور التي لفت إليها أمير المؤمنين في علاقة الأخوة أن لا يضيّع الأخ حقّ أخيه اعتماداً على أنّه كنفسه فلا يعيره أهمية ولا يقيم له احتراماً أمام الآخرين، بل قد لا يُراعي حقوقاً أساسية له ويتسامح فيها اعتماداً على علاقتهما الحميمة.
رفض الإمام علي (ع) هذا الطرح لأنه قد يؤدّي إلى مشاكل في طريق العلاقة فقال (ع): “لا تضيّعنّ حق أخيك إتّكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقّه”.
الاعتناء العملي به:
وحبّذ الإسلام على خدمة الأخ واعتبرها طريقاًَ لثواب الله تعالى فورد عن النبي الأعظم (ص): “ما في أمتي عبد ألطف أخاه في الله بشيء إلاّ أخدمه الله من خدم الجنة”.
لكن هذه الخدمة يجب أن لا تتعدّى إطارها لتصل إلى حالة الاستخدام، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): “اخدم أخاك فإن استخدمك فلا ولا كرامة”.
ومما ينبغي للمؤمن أن يلقى أخاه بوجه بشوش، فقد ورد عن الرسول (ص): “إلقَ أخاك بوجه منبسط”، لأنّ هذا مما يعزّز علاقة الأخوّة.
التعبير عن العاطفة:
وأراد الإسلام أن تتوطد العلاقة بين الإخوة من خلال التعبير عن مشاعر المحبة باللسان، فقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: “إذا أحبّ أحدكم صاحبه أو أخاه فليعلمه فإنّه أصلح لذات البين”.
هذه جملة من الأمور التي استَقَيْناها من منبع الإسلام الأصيل لتكون مناراً أمام العابرين في طريق الأخوة في الله تعالى.
– قطع العلاقة:
ولم تكتفِ شريعة الإسلام بإرشاد المؤمنين إلى كيفية اتخاذ الأخوة، وطريقة التعامل معهم، بل تدخّلت في موضوع توقُّف هذه العلاقة وقطعها لتضع الإرشادات التالية:
التعبير عن العاطفة:
فقد ورد عن الإمام علي (ع): “لا تصرم أخاك على ارتياب ولا تقطعه دون استعتاب”.
فالإمام (ع) يطلب من المؤمن أن يكون متأكداً من الأمر الطارئ الذي قرر على أساسه قطع العلاقة فلا يقطعها على ارتياب منه، بل على يقين واضح، وحينما يُصمّم على القطيعة فلا بدّ أن يعاتب أخاه على ما فعل لعلّ العتاب يمحو السّواد الطّارئ لتتجدّد العلاقة بعد ذلك على صفحة بيضاء.
أن لا تكون القطيعة نهائيّة:
فعن أمير المؤمنين (ع) “إن أردت قطيعة أخاك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما”.
حرمة المقاطعة أكثر من ثلاثة أيام:
ففي الحديث الوارد عن النبي محمد (ص): “لا يحلّ لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرّت به ثلاث فليلقَه فليسلّم عليه، فإن ردّ عليه السلام فقد اشترك في الأجر، وإن لم يردّ عليه السلام فقد باء بالإثم، وخرج المسلّم من الهجرة”.
يجب قبول الصلح:
فعن الإمام الصادق (ع): “ملعونٌ ملعونٌ رجلٌ يبدؤه أخوه بالصّلح فلم يصالحه”.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر:موقع سراج القائم (عج)