مقالات

الأخوة الاسلامية…

شرع القرآن الكريم لمبدأ الأخوة الإسلامية، ونص على ذلك ببيان واضح وبليغ في قوله تعالى﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ 1 ويندرج هذا التشريع في نطاق ما يعرف بالتشريعات الاجتماعية العامة في الإسلام، ويتصل في اصطلاح البعض بفقه المجتمع والأمة تمييزا له عن الفقه الفردي المتعلق بأحكام الأحوال الشخصية.

من ناحية النظر، جاءت هذه الآية لتكوّن علاقة بين الإيمان والأخوة، في إطار العلاقة بين الكلام والاجتماع، بين الإيمان الذي يحمل صفة الكلام منسوبا إلى علم الكلام، وبين الأخوة التي تحمل صفة الاجتماع منسوبا إلى علم الاجتماع، هذه العلاقة مثلت نمطا جديدا في أنماط العلاقات الإنسانية لم يكن معروفا من قبل، نمطا يتخذ من الإيمان أساسا ومرتكزا.

ومن ناحية العمل، جاءت هذه الآية لتخرج المسلمين من براثن العصبيات الاجتماعية، ومن الانغلاق على دوائر النسب الضيقة كنسب الأسرة والعشيرة والقوم والجماعة، وتفتح عليهم أفقا واسعا في النظر لأنفسهم، أفقا يتخذ من الأخوة الإسلامية مبدأ ومرتكزا، ويكون ناظما لأنماط الروابط والعلاقات فيما بينهم، وعابرا بين الجماعات والمجتمعات، فالمسلمون أخوة أينما كانوا، ومهما باعدت بينهم المسافات، وفصلت بينهم البحار والمحيطات، الجبال والسهول، الصحاري والوديان، وغيرها من التضاريس الطبيعية الأخرى.

وتأكد هذا المبدأ وتعزز في السنة الشريفة، التي وردت فيها وتواترت مرويات دلت بصورة واضحة على مبدأ الأخوة وفصلت بعض تفريعاته، من هذه المرويات ما روي عن النبي الأكرم (ص) قوله: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره).

وبالعودة إلى الآية الكريمة آية الأخوة، فإن هذه الآية بحاجة لأن تتحول إلى حقل دراسي يوسع آفاق المعرفة ومدارك النظر ويراكم الخبرة حول مبدأ الأخوة الإسلامية، ويمهد السبيل لادماج هذا المبدأ في حقول الدراسات الإسلامية والاجتماعية والإنسانية، وذلك لاستجلاء الحقل الدلالي لهذا المبدأ، وإعطائه قوة المعنى، وصلابة المضمون، وتخلق المحتوى، ولتجديد العلاقة به، فقد بات في منزلة الحاجة والضرورة بعدما وصل الحال بالمسلمين إلى هذا المستوى من التردي والانقسام الحاد والخطير.

وحين التفت الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى هذا المبدأ على صعيد الفقه، وجد أن هذا المبدأ (الأخوة الإسلامية) يجب أن يكون دليلا للفقيه عند بحث واستنباط أحكام العلاقات بين المسلمين جماعات وأفرادا، معتبرا أن هذا المبدأ ثابت بالنسبة لجميع المسلمين وإلى أي مذهب انتموا، أما إذا اعتبر الفقيه هذا المبدأ خاصا بجماعة من المسلمين دون غيرهم من الجماعات المذهبية الأخرى، ولكون هذا المبدأ يسرى في جميع العلاقات الاجتماعية والولايات والقضاء –من قبيل شرط عدالة الشاهد- وغير ذلك، فإن هذا سيؤدي في نظر الشيخ شمس الدين، إلى تحطيم وحدة الأمة.

وبخصوص الآية الكريمة وعند النظر فيها، يمكن الكشف عن الدلالات والعناصر الآتية:

أولا: جاء الإسلام وقرر رابطة جامعة بين المسلمين كافة، مهما تعددوا واختلفوا في لغاتهم وألسنتهم، أعراقهم وقومياتهم، بيئاتهم ومجمتعاتهم، وهي رابطة الأخوة التي تعلو وتسمو فوق جميع الروابط الأخرى، كما أنها الرابطة التي غيرت من نظرة المسلمين إلى أنفسهم، ومن رؤيتهم إلى العالم.

وقد وجد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، أن نسبة الأخوة الواردة في الآية، ءأنس للنفس من نسبة البنوة والأبوة، إذ تمتاز عليهما، بما في الأخوة من التجرد عن كلفة التوقير والمهابة والطاعة، ويرى أن نسبة الأخوة تجمع أواصر كثيرة، ففيها آصرة الانتساب والقرب، وآصرة المحبة، وآصرة الألفة، وآصرة الصحبة، وآصرة التماثل في الطباع، وآصرة الارتياح وترك التكلف، ويضيف الشيخ ابن عاشور أن وصف الأخوة يستدعي أن تبث بين الموصوفين به خلال الاتحاد والانصاف والمواساة والمحبة والصلة والنصح وحسن المعاملة.

ثانيا: أبانت الآية أن الإيمان هو منشأ هذه الأخوة بين المسلمين، فمدارها على الإيمان قوة وضعفا، فبقوة الإيمان تتقوى هذه الرابطة وتترسخ، وبضعف الإيمان تضعف هذه الرابطة وتتقلص، الأمر الذي يعني أن تأثير الإيمان لا يتحدد في المجال الفردي ويتضيق به، وإنما يمتد إلى المجال الاجتماعي ويتسع له، وحسب هذه الآية فإن الإيمان له تأثير اجتماعي واسع وعميق فهو قادر على تكوين رابطة الأخوة بين المسلمين كافة، ومع استعمال أداة الحصر﴿ إِنَّمَا … ﴾ 1 في الآية، يتأكد في أن رابطة الأخوة بين المؤمنين هي الرابطة الحقيقية.

ثالثا: إن الأخوة الإسلامية وفي ظل رابطة الإيمان لا تظل على حالة واحدة، وتكون محصنة ومحمية وثابتة على طول الخط، وإنما هي معرضة إلى مؤثرات عدة قد تغير في صورتها، وتؤثر في مجراها، وتتسبب في حصول حالات من التنازع والتعادي والتباعد والتعارض والتباين والتصادم وغيرها من الحالات التي تتصل بهذا النسق، وهذا ما ينبغي التنبه له سلفا، والتبصر فيه، والالتفات إليه، والاحتراز منه، فمن حكمة الآية أنها لم تشرع إلى رابطة الأخوة فحسب، وإنما إلى جانب ذلك وبالتلازم معه نبهت إلى ما يمكن أن يعترض هذه الرابطة من تغير.

رابعا: في حالة حصول شقاق أو نزاع  وهو ما يحصل عادة بين البشر، ويحصل كذلك بين المنتمين إلى دائرة الإيمان، وبالشكل الذي يؤثر في صورة الأخوة الإسلامية، في مثل هذه الحالات علاجا وتداركا، حددت الآية الكريمة قاعدة الصلح ونصت على ذلك في قوله تعالى﴿ … فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ … ﴾ 1، فهذا تقرير لهذه القاعدة، ويترتب عليه العمل بهذه القاعدة في هذا الشأن، وأنها تتقدم على غيرها من القواعد الأخرى، وبهذا تكون الآية قد حددت المبدأ وهو الأخوة الإسلامية، وحددت إلى جانبه القاعدة التي تحفظه وتحافظ عليه وهي قاعدة الصلح.

هذا عن الخطاب القرآني، أما الواقع فإن حال المسلمين اليوم فهو يقدم صورة مغايرة تماما، فالمؤمنون الذين يفترض أن يكونوا أخوة، أصبحوا اليوم متباعدين ومتخاصمين ومتنازعين، وكأنهم لم يسمعوا بهذه الآية، ولم يتعرفوا عليها، فحالهم لا يصدقها، ويصدق على ما يغايرها، وهذه هي المفارقة المحيرة2.

  • 1. a. b. c. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 10، الصفحة: 516.
  • 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 20 ديسمبر 2015م، العدد 15528.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى