من مآثر دين الإسلام أنه شرّع للإنسان حقّ الإجتهاد في الأحكام ، وليس لهذا الدين الحنيف ضريب بهذه المأثرة ، وهي إحدى ممكّناته من مسايرة الحياة ، وإحدى مؤهّلاته للخلود . نعم ، وما أكثر المآثر التي تميزّ دين الله وتوجب له التقدمة ، وتُثبِت أنه ـ بحق ـ دين الحياة ودين الخلود .
والنصوص الإسلامية التي تخّول الإنسان هذا الحق كثيرة وفيرة . وهو ـ بعد ـ ليس موضع ريبة عند أحد من المسلمين ، ولا مظنة للخلاف فيما بينهم ، ولا موقعاً للموازنة والترجيح . وإعمال الفكر واستعمال الأقية ليس موضعاً لشيء من ذلك ليقول قائل : إنه إثبات للإجتهاد بالاجتهاد . .
. . ولكنه الحق الذي لا جدال فيه من أحد ، واليقين الذي لا مِراء فيه من احد ، والتسالم الذي لا خلاف فيه من أحد .
ومن شواهد ذلك ؛ هذه الوفرة الكبيرة من المجتهدين في كل فرقة من فرق المسلمين ، على تنوّع مسالكهم في الاجتهاد ، وعلى تقاربهم أو تباعدهم في مبادئه ، واجتماعهم أو اختلافهم في نتائجه .
وإنها لكرامة ومنزلة ليس وراءها مطمح ، أن يخوّل الله عبادة حق النظر في أحكامه ، و التراجيح بين أدّلتها ، والغوص في أغوارها ، والفقه لأسرارها ، ثم هو يزيدهم ـ من لدنه ـ كرامة ومنزلة ، فيضاعف المتوبة لمن أصاب ، ويتفضّل بأجر الصواب على من أخطأ .
الاجتهاد ضرورة إنسانية عامّة
والإسلام ـ في اتجاهه هذا ـ إنما يغذّي ضرورة من ضرورات الإنسان الفرد ، وضرورة من ضرورات المجتمع ، وضَرُورة الحياة .
يغذّي ضرورة في الإنسان الفرد ، فإن الحكمة المُبدِعة القديرة ، قد زوّدت هذا الكائن بغريزة ( العلم ) أو غريزة ( الاستطلاع ) ـ كما يسميها علماء علم النفس الحديث ـ ، وهذه الغريزة هي التي تَهيب بالمرء ـ من أيام طفولته ـ أن يستقضي عن أي شيء يجده ، وأن ينقّب عن كل قولٍ يسمعه ، وأن يبحث عن الظواهر والصفات والخصائص والعلل في الأشياء ما وجد إلى البحث سبيلاً ، وهي من أحقّ غرائز الإنسان بالتلبية ، وأجدرها بالعناية وأحراها بالتوجيه .
فهي من مقوّمات انّية الإنسان وبانيات حياته وسلوكه ، ومؤسّسات حضارته ومدنيّته ونجاح المرء في حياته الأولى ، وفوزه في نشأته الأخرى يتوقفان ـ إلى حدٍّ بعيد ـ على حسن توجيه هذه الغريزة وطيب الإفادة منها .
وقد عني الإسلام بأمرها أشدّ العناية ، وربط أًوله وفروعه بها أوثق الربط ، وحرّض الإنسان على الإهتمام بها أبلغ التحريض . وأقرأ آيات الكتاب العزيز لتعْلم أي مبلغ بلغه دين الله في هذا المضمار .
ستجد أن القرآن لا يخطو خطوة ، ولا يُلقي إنذاراً ، ولا يبلّغ هداية ، ولا يُضح عقيدة ، ولا يُشرّع حكماً ، ولا يبيّن عِظّة ، ولا يعالج مشكلة ، ولا يقيم بُرهاناً ، ولا يكشف شبهة ، ولا يقصّ حديثاً ، إلاّ وهو يحرص ـ أشد الحرص ـ أن يكون الإنسان معه ، بسمعه وبصره ، وقلبه وعقله وجميع مداركه ، ومنافذ شعوره . . أن يكون الإنسان كذلك معه ، يحلّق حيث حلّق ، ويسمو حيث سما ، وينتقّل حيث تنقلّ . . يُصغي إلى نُذُره ويقف على مراميه ، وينفذ إلى غاياته ، ويستبطن حججه ، ويستوضح إشارته ، ويتتبّع مواضع الحكمة في كل ذلك ، ويتبيّن مواقع العبرة فيه ، و إلافادة منه .
فأي شوطٍ أبعد من هذا الشوط ، وأي غاية وراء هذه الغاية ؟ .
وحديث العقيدة الإلهية ، وربطها بالنظر في عجائب الكون ، وتقليب البصر في مظاهرها العظيمة وقوانينها الحكيمة . . هذا الحديث الذي تضمنته مئات الآيات من كتاب الله العزيز . . ماذا يعني ، وماذا يستهدف ؟ .
إنهُ يروم ـ اولاً ـ ربط هذه العقيدة العظيمة بأدلة محسوسة ملموسة لا مرية فيها ، ولا خفاء في دلالتها .
ويروم ـ ثانياً أن يُلفت الإنسان ، ويشحذ فكرته ، ويوجّه طاقته ، ويوقفه على كنوز الطبيعة ، ويضع بين يديه مفاتيحه العلم .
وحين انتهى الدور إلى الشريعة . . إلى قانون الله الذي شرّعه للإنسان ليصل ـ باتباعه ـ إلى كماله الأعلى . .
أقول : وحين انتهى الدور إلى الشريعة ، فهل أهملت تلك الغريزة من الإنسان : ( غريزة العلم ) ؟ .
وهل حتّم عليه أن يخضع ، وأن ينقاد ـ دون تفكير ودون ترجيح ـ للقوانين التي شُرّعت له كما يخضع الحيوان والنبات للقوانين الطبيعية التي وُضعت له سواء بسواء ؟ .
إنّ عناية الله بهذا المخلوق قد رفعته عن هذه الحِطّة .
وشريعة الله لا يمكن أن يكون له في تشريعها شريكٌ ولا مُعين . ذلك أنّ تحديد الحدود للإنسان ووضع المنهج لسلوكه ، نوع من مطلق التدبير والتربية ، فلا قول فيه لغير الله ربّ العالمين ، ولا تكون للإنسان في أحكام الله خيرة برفعٍ ولا وضعٍ .
غير أنه وإن لم تكن لهذا المخلوق خيرة في التشريع ، فقد جعل الله له حقاً في الفَهم ، وحقاً في البحث عن أحكام الله ( تعالى ) في مصادرها الصحيحة ، وحقاً في إقامة الشواهد عليها ، وإزالة اللبس عنها وهذه غاية ما يتصوّر للإنسان من حقوق في هذا المجال .
وقد قلت ـ فيما تقدم ـ إنّ الله ـ سبحانه ـ قد اختصّ عبيده الناظرين في شريعة بمزيدٍ من فضله فضاعت المتوبة لمن أصاب ، وتفضّل بأجر الصواب على من أخطأ .
ومن الحق أن أبادر فأقول :
إن هذا الحق الذي منحه فأقول :
إن هذا الحق الذي منحه الله لعباده ، وهذه الكرامة التي اختصّ بها من اجتهد منهم ، إنما تعني أن يأتوا بالشريعة من أبوابها ، وأن يأخذوا أحكام الله من مصادرها . .
. . من الأبواب التي فتحها الله للناس لمعرفة أحكامه ، ومن المصادر التي أعدّها لبيان حَلاله وحرامه . .
. . من كتاب الله الخالد المعصوم الذي تأذّن الله بحفظه وكفل برعايته ، ووعد بإتمام نوره ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ومن السنّة الصحيحة المطهّرة التي روتها التقاة ، وجمعتها الحفظة ، ومحّصتها النقدة ، ووقف على رجالها العلماء الإثبات .
ومن المصادر الشرعية الأخرى التي ترجع إلى هذين ، وتستند إليهما ، ومن القواعد اليقينيّة التي لا يرتاب احدٌ في ثبوتها ، ولا يمتري عاقل في الركوب إليها .
أما الإجتهاد الذي يميل صاحبه مع الأهواء ، أو يتّبع فيه الأوهام ، فليس من حقّ الإنسان ـ ابداً ـ أن يدخله في دين الله ، ويُعلمه في أحكامه .
الاستغاثة بالغائبين والموتى
والاستغاثة بالغائبين والموتى مسألة كَثُر فيها الجدل بين المسلمين ، وبالغ بعضهم في المنع منها ، فأفتى بكفر من استغاث بميّت أو غائب ، ورأى أن الإستغاثة بهما تناقض عقيدة التوحيد .
والتوحيد أصل الأصول في الإسلام ، وهو ضارب الجذور ، نافذ الأشعة في سريرة المسلم وعلانيته ، وصفاته وأعماله ، ولا يسوغ للمسلم أبداً أن يخاطر بتوحيده ، إو يرتكب ما يناقضه ، أو يميل إلى ما يخالفه . وهو إذ يفعل شيئاً من ذلك فإنما يخاطر بإسلامه . .
نعم ، ولا ريب في هذا ولكن ما نتيجته هنا ؟ .
فهل الإستغاثة عبادة ليكون المستغيث بالميّت أوْ بالغائب مُشرّكاً ؟ .
لقد أجمع المسلمون كافة على إباحة الإستغاثة بالحيّ الحاضر . . وقد كانت الصحابة يستغيث بعضهم ببعض ، فما معنى ذلك ؟ .
هل معنى ذلك أن المسلمين أباحوا نوعاً من الشِرك ، وهم المتشدّدون في التوحيد المدافعون عن حدوده ؟! .
أم أن الاستغاثة نوعان : نوع يوجب الشرك ، ونوع لا يوجبه ؟ . . واللغة والعرف العام يدلاّن على أنها معنى واحد لا اختلاف فيه ولا تعدّد .
وإذن فالاستغاثة في نفسها ليست عبادة لتتمحض لله وحده .
وعلى أدنى تقدير فإن الأمر فيها ليس واضحاً تمام الوضوح ، وكونها عبادة لا يزال موضعاً للخلاف ، ومجالاً للاجتهاد ، وأقرب المحامل الصحيحة لمن يستغيثون بالغئبين والموتى أنهم مجتهدو ، فهم معذورون ، بل مأجورون .
وكيف يسوغ تكفير مسلم من أجل عملٍ يمكن أن يكون له وجه صحيح ؟ .
وهذه العقيدة المكينة الرصينة التي يعتزّ بها المسلم ، ويوقن أنها قوامُ دينه ، ومِلاك نجاته ، وسبب فوزه وسعادته ، والتي يجاهدونها بنفسه وماله ، ويضحيّ في سبيل إعلائها بدمه وما ملكت يمينه . .
هذه العقيدة الغالية التي تكاد أن تمتزج بلحم المسلم أو دمه ، وتملأ مشاعره وعواطفه ، كيف يتصوّر أن ينخلع عنها ، أو يأتي بما يناقضها ، أو يوقع غبار الريبة عليها وهو مختار شاعر ؟ .
بلى ، قد يأتي شيئاً من ذلك وهو ناسٍ أو مخطئ أو غافل ، وذلك لا يوجب كفراً ، بل ولا يوجب فِسقاً ، وعلى ذلك إجماع المسلمين .
وقد يأتي شيئاً من ذلك وهو يوقن أنه لا ينافي العقيدة ، بل لو علم أو ظن أنه ينافيها ، أو يلقي ظلاً من الريب لَتَركه ، وتبرّأ إلى الله ( تعالى ) من فعله ، فكيف يحكم بالشرك أو بالكفر من أجل ذلك العمل ؟ .
وكيف إذا كان ذلك العمل موضعياً للخلاف بين المسلمين ؟ .
وكيف إذا كانت مخالفة ذلك المسلم فيه عن اجتهاد أو تقليد صحيحين ؟ .
العبادة عمل قصدي
والعبادة ، أليست من الحقائق التي بالقصد ، ولا تثبت بدونه؟
إن القارئ قد يتلو السورة من القرآن لتجربة صوته ، أو إسماع لحنه ، فلا تكون تلاوته عبادة ، بل قد توجب ان القارئ قد توجب له عند الله ـ سبحانه ـ مقتاً وبُعداً ، وقد يتلوها ليتقرّب بها إلى الله فتكون له عبادة توجب القرب وتحطّ الذنوب .
وتالي الدعاء قد يريد به قراءة قطعة فنيّة توجب المِتعة ، وتنشّط الذوق ، فلا يكون عبادة ، وقد يقصد به ضراعة العبد المحتاج لربّه الغنيّ القادر فيكون عبادة و زلفى . .
والطائف حول البيت ، المستلم لأركانه قد يقصد ـ بعمله هذا ـ حركة رياضية خالصة يمرّن بها أعصابه ، وينشّط عضلاته ، فلا يكون عابداً . وقد يقصد أداء الفريضة أو السنّة التي أمره الله بها ، فيكون عابداً وممتثلاً .
وهكذا في كلّ عمل يحبّه الله ويأمر به .
وواضح أن المسلم حين يستغيث بالأولياء المقبورين ، وحين يضرع لهم ، لا يقصد بصنعه ذلك العبادة للوليّ المقبور .
بلى ، هنا من الأعمال ما يعدّ ـ بذاته ـ عبادة وإن يقصد به التعبّد ، والعلماء يسمّون هذا الصنف من الأعمال العبادة الذاتية ، ويمثلون له بالسجود والركوع ، فانّ العرف العام يراهما من العبادة وإن لم يقصدها فاعلهما .
وواضح أيضاً ان الاستغاثة والصراعة ليستا من هذا القبيل ، ولو كانتا من العبادة الذاتية لوجب المنع عنها حتى للأحياء ، وهما جائزتان للحيّ الحاضر بالإجماع .
ظلال عقيدة التوحيد
التوحيد أصل الأصول في الإسلام ، وهو ـ كما قلت ـ ضارب الجذور نافذ الإشعاع في سريرة المسلم وعلانيته وصفاته و أعماله . وواجب المسلم أن يسير مع هذه العقيدة الكبرى ، يُحِقّ ما أحقت ، ويُبطل ما أبطلت . . وقد قلت في الحديث عن التوحيد من كتاب ( الإسلام ) :
( إن الإسلام بشرائعه ومعارفه ، و هداياته وآدابه ومفصّلات نظمه ، ومبسّطات مناهجه ، يتجمّع وينطوي وتتداخل حدوده ، وتندمج تعاليمه ، حتى تكون وحدة لا تعدد فيها من وجه ، هي عقيدة التوحيد التي يدين بها المسلم لبارئه ويخضع من أجلها لقوله .
( فالإسلام هو التوحيد مجلوّ القسمات ، مبين الظلال والسمات .
( والتوحيد هو الإسلام مجمل التفاصيل ، مطويّ الحدود متجمّع الطاقة .
( وهذه هي الحقيقة الرائعة التي قرّرها داعية الإسلام الأول ( صلى الله عليه و آله ) لما قال كلمته الأولى : ( قولوا لا إله الاّ الله تفلحوا ) .
( . . لمّا ضمن للناس الفلاح إذا هم قالوا هذه الكلمة ، وآمنوا بهذه العقيدة 1 ) .
نعم ، وهذه حقيقة لا يرتاب فيها من عرف الإسلام ، وسبر أغواره واستبان أثر التوحيد في بناء تشريعه .
ولكن ، ما منى ذلك ؟ .
هل يكون معنى ذلك أن تنقلب فروع هذا الدين وآدابه أصولاً وعقائد ، يحكم على من خالف في بعضها بالشرك أو بالكفر؟! . .
هذه نتيجة تخالفها الضرورة من دين الإسلام ، ولا يمكن أن تنسب إلى واحدٍ من الأعلام .
إن عقيدة التوحيد تمدّ المسلم في كلّ موقف ، وفي كل مصدر ومورد بما تقتضيه الإنسانية الكاملة والحياة الرفيعة الطيّبة التي ابتغاها ربّ العالمين .
ومعنى هذا أنها توجّهه للأمر المندوب كما توجّهه للأمر الواجب . وإنّها قد تنزهّه عن الفعل المكروه كما تنهاه عن المحرم ، ولذلك كانت الشريعة في الإسلام انعكاساً كاملاً لعقيدة التوحيد فيه .
فهذه لعقيدة ـ مثلاً ـ تدعوا المسلم أن تكون صلته بالله وحده ، فهو بارئ خلقه ومالك رزقه .
بل معناه أن ينشئ كل صلة له في الكون تحت ظلال صلته الكبرى بخالق الكون ، فلا يقطع ما أمر الله به أن يوصل ، ولا يصل ما أمر الله به أن يقطع .
وهي كذلك تأمره أن يخصّ أمله بالله ، فهو وحده مقدّر الأمور ومالك أزمّتها ، ومسبّب أسبابها .
وليس معنى ذلك أيضاً أن يعيش مقطوع الأمل ، مبتوت الرّجاء من كلّ جهة .
بل معناه أن ينيط كلّ هذه الآمال الكثيرة بأمله الواحد الأعظم .
وهكذا في كل صوب ، وفي كلّ اتجاه ، فلا يضرع المسلم الاّ لله ، ولا يخاف غيره ، ولا يحبّ سواه ، ولا يتّجه بمشاعره إلى أحد من المخلوقين ، الاّ حيث تكون ظلاً تباعاً للمشاعر الكبرى التي تعقده بخالقه .
هذه هي الخطة العليا التي ترسمها عقيدة التوحيد للمسلم الحق .
ولكن واقع الناس ؟ . .
ولكن الضعف الطبيعي الذي يقعد بأكثر الناس عن بلوغ تلك المرتبة ؟ .
ولكن الروابط المادّية التي تثقل الإنسان وتمنعه عن التحليق ؟ .
لابد وأن يحسب دين الله العظيم لهذه الأمور حسابها ، وينظرها نظرتها .
لابد وأن يقدّر الواقع حق قدره ، فيكلّف الناس ما يستطيعون ، ويترك هذه المراتب العظيمة لمن يستطيع إليها سبيلاً 2 .
- 1. الإسلام : ينابيعه مناهجه . غاياته . ص 238 ط 1 .
- 2. كتاب : من أشعة القرآن القسم الثالث للشيخ محمد أمين زين الدين : العنوان رقم (34) و هي : مقدمة لكتاب ( المناظرات ) للعلامة الحجة المغفور له الشيخ علي الخنيزي الخطي ( طاب ثراه ) .