منذ صدور كتاب (أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتحديدا سنة 1776م حين طبع في جزئه الأول، لمؤلفه إدوارد جبسون، والحديث يتردد عن سقوط الإمبراطوريات، وكيف أن المآل النهائي لهذه الإمبراطوريات هو الأفول والسقوط الحتمي، كما هو حال الإمبراطورية الرومانية التي عدت أعظم إمبراطورية ظهرت في التاريخ الأوروبي القديم، وجسدت أفضل مثال لفكرة الدولة الإمبراطورية عند الأوروبيين، ومثلت النموذج الذي يقارن به ويقاس عليه باقي الإمبراطوريات الأخرى التي ظهرت قبلها وبعدها، وما زالت إلى اليوم هي موضع مقارنة وقياس في الغرب.
وقد فتح كتاب جبسون خيال الأوروبيين مؤرخين وسياسيين على فكرة مزعجة وغير محبذة، وهي فكرة سقوط الإمبراطوريات مهما كان مجدها وعظمتها، ومهما وصلت قوتها وشوكتها، ومهما امتدت وتوسعت مساحتها ورقعتها الجغرافية والبشرية، ومهما طغت وتجبرت وغزت واستعمرت فإن مصيرها إلى زوال وأفول.
ويبدو أن البريطانيين كانوا من أكثر الشعوب الأوروبية الذين شبهوا حالهم بحال الإمبراطورية الرومانية، وهذا ما كشفه وأكده الكاتب البريطاني بيرس برندون في كتابه (أفول وسقوط الإمبراطورية البريطانية 1781-1997م) الصادر سنة 2007م، الذي تقصد اختيار هذا العنوان لكي يجاري ويحاكي كتاب جبسون، ويضع مصير الإمبراطورية البريطانية على طريق الإمبراطورية الرومانية، وذلك للتشابه الكبير بينهما، التشابه الذي كان مدركا عند البريطانيين أنفسهم ليس الآن فحسب، وإنما يرجع حسب تقدير برندون إلى عصر الإمبراطورية الكلاسيكي القديم، حيث كان حكام المستعمرات مدركين على الأغلب التشابه الكبير بين إمبراطوريتهم والإمبراطورية الرومانية.
كما أن اختيار هذا العنوان أراد منه برندون التذكير بكتاب جبسون الذي يسبقه بما يزيد على قرنين وعقدين من الزمان، بقصد أن يكون متصلا ومقترنا به، بشكل يذكر فيه كل كتاب بالكتاب الآخر ويعرف به، بمعنى أن برندون أراد القول بأن البحث عن أسباب أفول وسقوط الإمبراطورية البريطانية يتطلب العودة إلى تحليل أسباب أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية هذا من جهة، ومن جهة أخرى لعل برندون أراد من هذا التشابه كما لو أنه يريد أن يقتفي أثر جبسون في كتابه الذي بدأ يتردد منذ زمنه شبح تداعي وسقوط الإمبراطورية.
وتأكدت عند برندون أن الإمبراطوريات مهما طال عمرها، لابد أن تتصدع وتضمحل عمليا، وذلك لأن الاستيلاء والسيطرة هما باستمرار موضع ازدراء ومقاومة.
وكما كانت روما أكبر وأهم إمبراطورية في عصرها، كذلك كانت بريطانيا أكبر وأهم إمبراطورية إلى ما قبل نهاية النصف الأول من القرن العشرين، وتجلت فيها بوضوح كبير ملامح وسلوك الدولة الإمبراطورية، واحتفظت بهذا الوصف لفترة طويلة وبدون منازع، وظل يتردد على لسان الجميع بدون تشكك أو ريب، حتى عرفت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لكن غابت عنها وأفلت الشمس، وحل مكانها الضباب.
واليوم بدأت الأنظار تتجه صوب الإمبراطورية الأمريكية التي ورثت في العصر الحديث الإمبراطورية البريطانية، وهي الإمبراطورية التي بشر بها المؤرخ البريطاني أرنولد تويمبي في كتابه (دراسة التاريخ)، حين أعلن أن القرن العشرين هو القرن الأمريكي الذي سيشهد صعود أمريكا كقوة عالمية مسيطرة.
وتجدد هذا الإعلان صراحة حين نشر مؤسس مجلة تايم الأمريكية هنري لويس سنة 1941م مقالته الشهيرة التي حملت عنوان (قرن أمريكا)، حيث قرر فيها أن أمريكا لكي تستطيع الهيمنة على العالم عليها ألا تبدو الأقوى فحسب بل الأفضل أيضاً، وأن تشاطر الآخرين قمرة القيادة.
هذه المقالة يجري تذكرها اليوم عند الأمريكيين أنفسهم، لكن ليس للحديث عن صعود وتفوق أمريكا على العالم، وإنما عن تراجع وانحدار أمريكا في العالم، حيث تغيرت الصورة جذرياً عن أمريكا وقوتها وتفوقها ما بين مطلع القرن العشرين، ومطلع القرن الحادي والعشرين، وهذا ما يعرفه الأمريكيون قبل غيرهم.
وحين أشار إلى هذه المقالة الكاتب الأمريكي كريستوفر لاش في مقدمة كتابه (ثقافة النرجسية) الصادر سنة 1979م، كتب يقول: بعد أكثر من ربع قرن بقليل من إعلان هنري لوس القرن الأمريكي، هبطت الثقة الأمريكية بشدة، فالذين كانوا يحلمون بالسلطة العالمية، يائسون الآن من حكم مدينة نيويورك، الهزيمة في فيتنام، الكساد الاقتصادي، النضوب الوشيك للموارد الطبيعية، كلها عوامل أدت إلى إحداث حالة من التشاؤم في الدوائر العليا، تنتشر الآن في أرجاء المجتمع، حيث فقد الناس الثقة في قيادتهم كما تحكم أزمة الثقة هذه قبضتها على الدول الرأسمالية الأخرى1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 22 أكتوبر 2009م، العدد 15762.