إن الحديث عن الصلاة، ولئن كان أمراً شخصياً، فإنه أمر مصيري بالغ الأهمية؛ لما له من دور في بناء الشخصية المسلمة.. إذ معلوم أن الصلاة عمود الدين، كما جاء في الحديث الشريف، وليس بخافٍ على ذي لب مصير البناء إذا ما تهاوى عموده!.. ومن هنا عدت الصلاة الفاصل بين الإسلام والكفر، فهي لا تسقط عن المكلف قط، مهما بلغ أو كان عذره: سفراً أو حضراً، في الصحة أو في المرض.
ونظراً لهذه الأهمية، نجد أن الأنبياء (ع) كانوا في غاية الحرص على إقامة الصلاة.. فهذا نبي الله إبراهيم (ع) يستغل وجوده في بيت الله الحرام، فيدعو لنفسه ولذريته، إذ يقول: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ 1 وهذا النبي الأكرم (ص) لم يعهد لاهتمامه بأمر الصلاة نظير، ويتضح ذلك جلياً في قول عائشة: (كان رسول الله (ص) يحدّثنا ونحّدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفْنا ولم نعرفه)، وقد كان إذا حان وقت الصلاة تتغير هيئته، فينادي: (أبرد يا بلال!).. فهنا (أبرد) فسر بمعنيين: الأول: أي أبرد نار الشوق إلى الله تعالى.. والثاني: بمعنى البريد: أي عجل في الآذان للصلاة بين يدي الله عز وجل.. فلننظر ونعتبر، أو ليس الأمر مخجلاً!..
إن العبد كثيراً ما يشتكي حالة عدم الخشوع في الصلاة، فهو يتمنى الخشوع القلبي: باستشعار وجود وهيمنة الرب المتعال.. والخشوع البدني: بالذهول عما سواه جل وعلا.. فيبذل ما في وسعه، ويجهد نفسه، ولا يصل إلى ما يريد.. والسبب في ذلك هو الجهل بمن نقف بين يديه، إذ أن الذي لا شك فيه في أن (حديث المتفاعِل، فرع معرفة المتفاعَل معه).. فلو استشعر الإنسان بأنه يخاطب سلطان السلاطين؛ لانتابه شعور التأدب الشديد: من التذلل، والمسكنة، والافتقار.. وهذا مما يحقق له منيته التي يريد.
إن المتأمل في قوله تعالى: ﴿ … قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ 2 لا بد أن ينتابه شعور الخوف الشديد، لما تستبطنه الآية الكريمة من تهديد بليغ، وحصر للفوز والفلاح للخاشعين في صلاتهم.. فمعنى ذلك أن الذي لا يحقق الخشوع المطلوب؛ فإنه مندرج تحت دائرة الخسران، التي أشار إليها الحق تعالى في سورة العصر: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ 3.
فإذن، إن الصلاة تشكل مشروعا حياتيا، تترتب عليه السعادة الأبدية في الآخرة، والاطمئنان القلبي في الدنيا.. وما يؤكد ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: ﴿ … أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ 4 فهنا (أَلاَ) أداة تنبيه، وهي لا تستعمل إلا في المواقف المهمة، أضف إلى أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.. ومن هنا نستفيد دلالة واضحة، على أن السبيل الأوحد لنيل الاطمئنان، هو ذكر الله عز وجل، أما ما سواه فليس إلا خداع في وهم.
إن الصلاة من مصاديق الذكر الكثير، الذي أشار إليه القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿ … وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ 5 أضف إلى أنها طهارة للقلب، مما يدنسه من كل أنواع القذر والكدر، وهذا ما نستجليه من قول علي (ع): (إن الله جعل الذكر جلاء للقلوب).. وأيضاً بها يتحقق وحدوية توجيه القلب إلى الحق المتعال، وبالتالي لا يركن العبد إلى سوى مولاه عز وجل.
لا شك في أن الوصول إلى هذه الجوهرة النفيسة، هي أمنية الأماني.. ومن المناسب هنا أن نورد هذه النقاط حول موجبات تحقيق الصلاة الخاشعة:
الصلاة في طريق المعرفة
إن أفضل ما يقرب العبد إلى مولاه عز وجل، هو الصلاة بين يديه تعالى؛ فإنها سبيل المعرفة الموجبة للتفاعل الفكري والقلبي مع الله تعالى.. ومن هنا عدت الصلاة الخاشعة، مؤثرة في الخلاص من الذنوب، كما يقول النبي الأكرم (ص): (مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلاّ بُعداً).. ولعل السبب في هذا البعد، هو إساءة الأدب في حضرة سلطان السلاطين، عند المثول بين يديه، والانشغال بما سواه، أو أن البعض قد يحظى بالقرب والتفاعل الشعوري بذكر الله تعالى، ومن ثم يعيش حالة الإدبار والغفلة في الصلاة؛ مما يوجب له القساوة الشديدة في هذا المجال.. إن الثمرة الحقيقية للصلاة هي تحقيق ذكر الله تعالى، فهذا ما نستوحيه من خطاب الله عز وجل لموسى (ع): ﴿ … وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ 6.
الوقوف في وجه الشيطان وإغاظته
فليس شيء بأشد عليه، من أن يقف العبد مصلياً بين يدي ربه، وقد روي عن علي (ع) أنه قال: (إذا قام الرجل إلى الصلاة، أقبل إبليس ينظر إليه حسداً لما يرى من رحمة الله التي تغشاه).. ومما يروى عن الإمام الحجة (عج): (ما أرغم أنف الشيطان بشيء مثل الصلاة، فصلها وأرغم أنف الشيطان)!..
الاعتبار بالحركة الكونية
وقد قيل في هذا المجال بحق: (واعلم أن الموجودات متساوية المثول بين يدي الله عز وجل).. وعليه، فإذا لم يحقق العبد ما يوجب له التمايز عن هذه الموجودات، فما الفرق بينه وبين الحصاة والحجر!.. ولقد قال عليّ (ع): (إنّ الإنسان إذا كان في الصلاة، فإنّ جسده وثيابه وكلّ شيء حوله يسبّح).
التحسس والالتفات للتجليات الإلهية في الصلاة
إذ أن الله سبحانه وتعالى له عطاؤه وعنايته بكل من يصلي بين يديه، إلا أن العبد بسوء اختياره، وبصرف قلبه عن مولاه؛ يسد هذا الباب من الرحمة.. وقد ورد عن الصادق (ع) أنه قال: (إذا قام المصلي للصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفت به الملائكة، وناداه ملك: لو علم المصلّي ما في الصّلاة؛ ما انفتل)، وفي حديث آخر لعلي(ع): (لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال اللَّه، ما سرّه أن يرفع رأسه من السجود).. أي أن المصلي لو وصل إلى ملكوت الصلاة، وأحس ببرد العفو الإلهي، وتذوق حلاوة الإقبال؛ فإنه سيتحول إلى مدمن لهذه العوالم اللذيذة.. وبالتالي، ستكون الصلاة محطاً لهمومه الحياتية، وتفريج كربه وضيقه.
المواصلة والتمرين
لا شك في أن الصلاة مشروع كبير، وقد يستغرق عمراً طويلاً، لتحقيق الخشوع بين يدي المولى جل وعلا.. ولكن المؤمن من سماته، أنه لحوح لجوج في طلب المقامات العليا من رب العزة والجلال.. ولنا أن نستفيد من حديث للنبي الأكرم (ص): (إن المصلي ليقرع باب الملك.. وإنّه من يدم قرع الباب؛ يوشك أن يفتح له).
التوزيع اليومي للصلاة من الصباح إلى المساء
مما يعود العبد على تعزيز علاقته بالله تعالى، وتصفية قلبه من الشواغل والعوالق.. ومن هنا ورد: تشبيه المصطفى (ص) الصلاة، بالنهر الجاري الذي يغتسل منه خمس مرات في اليوم، تخلصاً من الأدران.
عدم التهاون والاستخفاف بالصلاة
بلا شك أنها مفتاح الفلاح والفوز دنيا وآخرة.. وأن الذي يريد أن يحقق التمايز بعين الله تعالى، فلا بد أن يحقق ذلك في صلاته، فهذه الزهراء (ع) -التي حققت أعلى درجات العبودية- يباهي الله تعالى بها ملائكته، فيقول: (يا ملائكتي!.. انظروا إلى أَمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يديّ، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلتْ بقلبها على عبادتي.. أُشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار).. وفي حديث آخر: أن الله تعالى يباهي بالشاب العابد ملائكته، فيقول: (انظروا إلى عبدي!.. ترك شهوته من أجلي).. نعم، المجال مفتوح للجميع، وليس حصراً على المعصومين (ع) والأولياء، ولكن من ذا الذي يبادر ويشد الهمة؟..الإقبال في الصلاة، وإحضار القلب والفكر: فما زال الله تعالى مقبلاً على عبده، طالما لم يعرض عنه.. فإذا أعرض وكله الله تعالى إلى حيث توجه، كما ورد في الحديث القدسي: (وليتك يا عبدي إلى ما توليت).
التدرب على النوافل
إذ كثرة الممارسة والمجاهدة، توجب إتقان الفرائض.. ورد عن النبي الأكرم (ص): (من صلى ركعتين، ولم يحدث فيهما نفسه بشيء من أمور الدنيا؛ غفر الله له ذنوبه).
طلب العون والمدد الإلهي
إن الله تعالى يحب من عبده، أن يسأله في كل أموره.. ومن المعلوم أن التعود على ذلك، من موجبات القرب من الله تعالى، فما المانع لو ألم بالمؤمن حاجة، أن يصلي ركعتين، ويصلي على النبي وآله، ثم يطلب حاجته؛ فإنها تقضى إن شاء الله، كما ورد في الحديث عن الصادق (ع).. وما المانع أيضاً أن يتضرع العبد لمولاه عقيب كل فريضة، ويسأله ما يريد.. فالله تعالى كريم، وحاشا أن يرد حاجة عبده المؤمن! 7.
- 1. القران الكريم: سورة ابراهيم (14)، الآية: 40، الصفحة: 260.
- 2. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، من بداية السورة إلى الآية 2، الصفحة: 342.
- 3. القران الكريم: سورة العصر (103)، الآية: 2، الصفحة: 601.
- 4. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 28، الصفحة: 252.
- 5. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 45، الصفحة: 182.
- 6. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 14، الصفحة: 313.
- 7. المصدر : شبكة السراج في الطريق الى الله.