النية
إن مسألة النية تحوز على أهمية فائقة، ومن المسلمات الفقهية في الإسلام أن روح العبادة بشكل كامل هي النية، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا عمل إلا بنية”.
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله: “لكل امرئ ما نوى”. فالعمل يبدأ باكتساب قيمته الحقيقية من خلال النية والقصد والوعي والاختيار والتوجه إلى الهدف.
الأعمال التي يؤديها الإنسان على نوعين: أحياناً يكون الإنسان كالآلة (كأغلب الفرائض التي نؤديها). وأحياناً يؤدي عمله عن وعي وتوجه. وعندما يقوم بذلك فإنه يأخذ بعين الإعتبار الهدف والمقصد، ويلتفت إلى عمله، حتى أن السيد البروجردي لم يعتبر (وجود) الداعي كافياً في النية، وقد تعجبنا في البداية عندما قام السيد البروجردي بمثل هذا البحث، فأغلب العلماء يعتبرون وجود الداعي كافياً في باب النية، وهو قصد القرية، بحيث لو سألناه: ماذا تفعل؟ لأجاب: أصلّي لله، فإذا غفل عن هذا الموضوع، فلا أحد من العلماء يقبل بذلك.
فالإنسان الذي يصلي مثلاً، إذا سألناه ماذا تفعل، ففكر ثم أجاب لكانت صلاته باطلة. وهذا بإجماع العلماء.
ولكن المرحوم البروجردي كان له رأي آخر فأضاف إلى الداعي مسألة خطور القلب وكأن المصلي مثلاً يحدث نفسه قائلاً: أصلي أربع ركعات لصلاة الظهر قربة إلى الله ثم يقول بعدها الله أكبر. وبالطبع فإن هذا الأمر لا أثر له بلحاظ الدافع، فالدافع يبقى مكانه، ولكن عندما يصبح بهذا الشكل فإن العمل يرتفع قليلاً من اللاوعي إلى الوعي، أي أن الإنسان يقوم بعمله عندئذ بشكل أوعى.
أركان النية
الإسلام لا يقبل أية عبادة بدون النية. والنية في الإسلام لها ركنان.
الرّكن الأول:
إن العمل ينبغي أن يؤدي انطلاقاً من التوجه وليس العادة. تلك العادة التي يقوم معها الإنسان بالعمل وكان جسده فقط هو من يقوم بالعمل، كأكثر الأعمال التي يؤديها الإنسان مثل المشي. فالإنسان عندما يكون ماشياً لا يلتفت إلى ذلك. فالركن الأول إذاً، هو أنه ينبغي تركيز الذهن حتى يقوم بالعمل عن توجه ووعي، وما يقال عن استدامة النية كشرط هو هذا الأمر. فالتوجه الذي يحصل في بداية الصلاة لا يكفي، فلو غفل المصلي أثناء الصلاة عن عمله بطلت صلاته.
الركن الثاني:
هو الإخلاص، وهو الدافع من وراء العمل.
يتلخّص الرّكنان إذاً بيـ:
1- ماذا أفعل.
2- لأجل ماذا أقوم بالفعل.
أهمية النية
تتمتع النية بهذا القدر من الأهمية بحيث إننا لو جئنا بالعمل لوحده والنية لوحدها، ووزناهما، لرجحت كفة النية. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نية المؤمن خير من عمله”.
فماذا يعني هذا؟ هل يعني أن النية بدون عمل أفضل من العمل بدون نية؟ فنحن نعلم أن العمل بدون نية لا قيمة له وكذلك فإن النية بدون عمل. فهل المقصود أن نية المؤمن أفضل من عمله المتلازم مع النية؟ بديهي أن هذا ليس صحيحاً. فالمقصود أن الإنسان عندما يقوم بالعمل مع النية فهو في الواقع يؤدي عملين معاً. فعندما نريد أن نقارن بينهما ترجح النية. وعندما نقول أن الروح أشرف من الجسد. فهذا لا يعني أننا نقارن الروح هنا مع جسد ذي روح وإنما إذا قمنا بمقارنة الروح لوحدها مع الجسد لوحده لعرفنا أن الروح أفضل وأشرف.
خاصية العادة
يقول علماء النفس أن العمل بمجرد أن يصبح عند الإنسان عادة فهذا يعني أنه قد حصل على خاصيتين متضادتين. فكلما ازداد في ناحية كونه عادة أصبح أكثر سهولة وبساطة. فالطابعة على الآلة الكاتبة كلما تعودت على الطباعة، صار هذا العمل بالنسبة لها أكثر سهولة وصارت أسرع، ولكن في نفس الوقت يقل توجهها ليتحول هذا الأمر إلى عمل لا إرادي.
الصلاة تنمي حالة الحب لله وتزيد من المعنويات التي هي روح العبادة.
هذه هي خاصية العادة، والإسلام عندما يعتني بالنية بهذا القدر فذلك لأجل أن يمنع من أن تتحول العبادات إلى مجرد عادة أو إلى عمل طبيعي غير إرادي وهادف.
وكل هذه الأشياء نحصل عليها في الصلاة، ونلتفت إلى الكثير من البرامج التربوية فيها. إضافة إلى أن نفس هذا العمل (الصلاة) ينمي حالة الحب لله ويزيد من المعنويات التي هي روح العبادة.
هناك مسألتان ينبغي ذكرهما.
الأولى تدور حول الأصول والمباني التي اعتنت بها الأخلاق والتربية الإسلامية. ففي الأخلاق والتربية ليس صحيحاً أن نقول: أخلاق حسنة وتربية جيدة: فالأخلاق الحسنة ينبغي الحصول عليها. ولا أحد يقول غير هذا. ولكن عمدة المطلب هو النظام الأخلاقي الذي تعتبره كل مدرسة بأنه هو الجيد. فالمدارس السلوكية في العالم تدّعي جميعها أنها تطرح الأخلاق الحسنة، ولكن ما تطرحه في الواقع يصل إلى حد التضاد والتناقض فيما بينها. فهناك بعض الأعمال التي تدعو إليها مدرسة أخلاقية ما على أساس أنها حسنة ولكننا نجد في المقابل مدرسة أخرى تعتبرها سيئة.
ليس المهم أن يقال ينبغي أن نقوم بالأعمال الحسنة أو نتفوّه بالكلمات الجيّدة أو يكون ظنّنا حسناً، إنما المهم أن نحدد ما معنى أن تكون هذه الأمور حسنة وجيّدة فالأخلاق علم قانوني بمعنى إنه علم حول “ما ينبغي أن يكون” ويأمر بذلك. والسؤال هو كيف نكون بنظر هذه المدرسة في صورة حسنة. فمجرد التوصية بالأخلاق الحسنة لا يعتبر معرّفاً للمدرسة السلوكية المعنية.
ولعلي قلت هذا مراراً، أن أسخف الكلمات المنسوبة لزردشت بقوله: “الكلام الحسن، والظن الحسن، والعمل الحسن”.
فما هو الحسن؟!
كما أن يقال لأحل المهندسين صمم لنا مسجداً، ويقولون له: ما هو مشروعك؟ فيقول: مسجد جميل.
ينبغي أولاً أن نعرف ما هو الجميل بنظر المهندس.
فنحن عندما نقول الأصول والمباني الإسلامية في الأخلاق نقصد إننا نريد أن نرى ما هي الأمور التي يعتبرها الإسلام أخلاقاً حسنة وما هي السيئة. وعندها نستطيع أن نفهم المنهج الأخلاقي والتربوي في الإسلام.
نظرية نيتشه
أكثر المدارس السلوكية في العالم اعتبرت أن معيار الأخلاق هو محاربة الأنا ومتعلقاتها من العجب والأنانية. فالفعل الأخلاقي بنظرها هو الذي لا يكون الهدف منه ذات الإنسان ونفسه، أما الأخلاق فهي التي تدمر جدار “الأنا”؛ هذا الجدار الذي يقف سداً منيعاً بين الإنسان والآخرين.
ومن بين جميع المدارس نجد اثنتين أو ثلاثة تقول بضرورة تنمية الذات وتعتبر هذا الأمر جيداً، كما ورد عن نيتشه قوله “أن حب الغير والإيثار والتضحية من أجل الآخرين كلها هراء”. فالإنسان السعيد على حد زعمه هو الذي يسعى باتجاه القوة والسلطة وتنمية الذات والأنا. فلا معنى للترحم على الضعفاء، “لأن الضعيف ينبغي أن يزول”، والذي يقع في البئر ينبغي أن نضع فوقه صخرة لا أن ننتشله لأنه ضعيف وهذا ذنبه. فإذا قمنا بترويج مثل هذه الأفكار نكون قد قوينا البشرية. وبعدها لن يبقى إلا الأقوياء. وعلى أثر انتخاب الأصلح تتقدم البشرية. وإن أعظم خيانة هي الوصية بمساعدة الضعفاء.
وقد أحدث هذا الكلام في العالم ضجة، لأن هذا يدين السيد المسيح عليه السلام الذي أوصى كثيراً بحب الآخرين ومساعدة الضعفاء وبالتالي فإنها كانت أكثر الأفكار ضررا بالمجتمع الإنساني.
ومسألة أخرى قد طرحت أيضاً تدور حول نوعين من الأنا.
الأول تلك الأنا التي ينبغي أن تحطم، وهي التي يقال لها الأنانية، ولكن في نفس الوقت يوجد نوع آخر للأنا، ينبغي أن يربّى وينمّى، ولا يجوز إهماله. لأن خرابه يدمر جذور الأخلاق الإسلامية بالكامل 1.
- 1. المصدر: مجلة بقية الله، العدد 17.