من أكثر الآيات القرآنية بيانا ودلالة وشمولية على فكرة السلم قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ 1ولهذا فهي من أكثر الآيات القرآنية استعمالا وتداولا عند الحديث عن فكرة السلم في الإسلام، وعند البحث عن استنباط فكرة السلم في القرآن الكريم، الأمر الذي يقتضي إعمال النظر في هذه الآية فحصا وتبصرا لتكوين المعرفة بحقلها الدلالي.
وفي هذا النطاق يمكن النظر في هذه الآية من ناحيتين، ناحية تركيبية بقصد معرفة الحكمة العامة المستفادة من هذه الآية، وناحية تفكيكية أو تجزيئية بقصد الكشف عن عناصر هذه الآية ومكوناتها، ومعرفة العلاقة بين هذه العناصر والمكونات.
بشأن الناحية الأولى، عند النظر التركيبي في هذه الآية يمكن القول إن الحكمة العامة المستفادة منها، هي تقرير قاعدة السلم، وتأكيد أن السلم هو الأصل في العلاقات بين المنتمين إلى دائرة الإيمان بالله، الأصل الذي يتقدم على ما سواه، ويكون نافيا إلى ضده ونقيضه، وموجبا إلى احراز مقدماته، وتحصيل كل ما يقع في طريقه، فلا يمكن تصور العلاقات بين المنتمين إلى هذه الدائرة الإيمانية من دون هذا الأصل أو بعيدا عنه.
وبشأن الناحية التفكيكية أو التجزيئية، يمكن الكشف عن العناصر والمكونات الآتية:
أولا: جاءت هذه الآية وقررت العلاقة بين الإيمان والسلم، حين وجهت الخطاب إلى المؤمنين﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا … ﴾ 2، الأمر الذي يعني ضرورة التنبه إلى هذه العلاقة بين الإيمان والسلم، والتبصر فيها، وجعلها في دائرة التفكر والنظر، وهي تفيد أن الإيمان عامل مؤثر للدخول في السلم، وينبغي أن يكون داعيا إلى السلم، وحاميا له، وطريقا يوصل إليه، فالإيمان أصالة وحقيقة يقود إلى السلم، ولا يقود إلى التنازع والتحارب، ولا إلى كل ما يقع ضد السلم. كما تفيد هذه العلاقة كذلك، أن المؤمنين والمنتمين إلى دائرة الإيمان، هم أقرب الناس إلى السلم والدخول في السلم كافة.
ثانيا: الخطاب في الآية جاء بصيغة الجمع، فهو خطاب إلى الجماعة وليس إلى الفرد، بمعنى أنه خطاب متعلق بمفهوم الجماعة وذلك لوجهين، وجه يتعلق بعنوان السلم، ووجه يتعلق بعنوان الجماعة.
ما يتعلق بعنوان السلم، يتحدد في كون أن السلم يمثل حاجة اجتماعية تتعلق بحاجة المجتمع وليس بحاجة الفرد، وما يتعلق بعنوان الجماعة، يتحدد في كون أن الجماعة هي المعنية والمسؤولة عن تحقيق السلم إثباتا وثبوتا، إثباتا من ناحية الأصل والمبدأ، وثبوتا من ناحية الفعل والعمل.
ثالثا: الخطاب في الآية جاء كذلك بصيغة الفعل وفعل الأمر تحديدا، فهناك من جهة أمر لجماعة المؤمنين بالدخول في السلم، وهو بمثابة تكليف جماعي ينبغي التنبه له، والتبصر فيه بوعي الجماعة، وأن هذا الأمر من جهة أخرى ينبغي أن يأخذ صفة الفعل المستمر الذي لا ينحصر ولا يتحدد لا في زمان معين، ولا في مكان محدد، وإنما هو فعل مستمر مطلوب في جميع الأزمنة، وفي جميع الأمكنة، وسيظل فعلا مستمرا مطلوبا بلا توقف وبلا انتهاء في ظل وجود الجماعة الإنسانية.
رابعا: توقف المفسرون قديما وحديثا عند كلمة “كافة”، فهناك من أرجعها إلى الذين آمنوا، وهناك من أرجعها إلى السلم، من أرجعها إلى الذين آمنوا أراد منها أن الدخول في السلم هو تكليف إلى المؤمنين كافة، أي جميع المؤمنين بحيث لا يكون هناك امتناع أو ممانعة من أحد، فلا يصح أن تدخل في السلم فئة من المؤمنين دون فئة أخرى، ومن الناحية الفعلية لا يتحقق السلم بدخول فئة دون الفئات الأخرى.
ومن أرجعها إلى السلم أراد منها أن السلم المقصود والمطلوب في الآية، هو السلم بالمعنى المطلق والعام الذي يشمل ويتعلق بالأبعاد والمجالات كافة، وليس المعنى المقيد والخاص الذي يضع السلم في قبال الحرب أو في قبال العنف.
ولعل المقصود في الآية هو المعنى الأول، لأن الخطاب في الآية جاء بصيغة النداء ومتوجها إلى المؤمنين كافة، وأما المعنى الثاني فهو متحقق في الآية من جهة الإطلاق وعدم التقييد في الدعوة إلى السلم.
خامسا: لا يكفي معرفة طريق الدخول في السلم، بل لا بد من معرفة الطريق المضاد المانع للدخول في السلم، ومن هنا نبهت الآية الكريمة إلى الحذر من إتباع خطوات الشيطان﴿ … وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ 1، واسعتمال الآية لكلمتي إتباع وخطوات فيها إشارة لإعطاء هذا الفعل وصف الطريق، فالذي يتبع خطوات الشيطان إنما يسلك طريقا مضادا للدخول في السلم.
هذه هي الدلالة الأولى وتتصل بالاحتراز من هذا الطريق ابتداء، وهناك دلالة ثانية وتتصل بالاحتراز من هذا الطريق تاليا بقصد حماية السلم وتحصينه، فبعد الدخول في السلم تتأكد الحاجة إلى حمايته وتحصينه من جهة، وترسيخه وتعزيزه من جهة أخرى، ومن هنا نبهت الآية إلى الحذر من إتباع خطوات الشيطان.
يضاف إلى ذلك أن الإشارة إلى خطوات الشيطان، فيها دلالة إلى أثر وتأثير العامل الداخلي بوصفه العامل الأشد تأثيرا في اختيار طريق الدخول في السلم، وفي الثبات على هذا الطريق.
هذه عن الخطاب القرآني، فهل دخل المؤمنون المخاطبون في الآية في السلم كافة، أم أنهم خرجوا من السلم كافة!
وأما المفارقة الغريبة والمحيرة كيف حصل في ظل وجود هذه الآية، كل هذا التاريخ الطويل والممتد من التنازع والتصادم والتعانف والتحارب بين المسلمين، وكأن هذه الآية لا وجود لها ولا أثر.
في حين أن من يتعرف على هذه الآية، سوف يتوقع على مستوى التقدير ليس عدم وجود نزاعات وحروب بين المسلمين فحسب، بل لا يمكن أن تحصل مثل هذه النزاعات والحروب، بينما واقع الحال في الماضي والحاضر يحكي عن صورة مغايرة تماما، صورة يظهر فيها عالم المسلمين بأنه من أكثر العوالم ابتلاء بالنزاعات والحروب، الأمر الذي يضع هذه المفارقة وبلا توقف في دائرة التفكر والنظر!3