مقالات

اختصاص الامامية في التمسك بالقرآن …

 يمتاز المذهب الامامي الاثنا عشري في مسألة التمسك بالقرآن بخصوصية فذة قد حرمت منها المذاهب الاسلامية الاُخرى، وهي أن مرجعية القرآن تعتبر الركن الوثيق والاساسي والمسلَّم به والمقدّس عند مذهب الامامية، ومن هذا المنطلق نجدهم بادروا إلى الالتزام والتقيد بها، وفي الواقع إن جعل القرآن كمرجع عند مذهب الامامية لتصديق وتأييد أو تكذيب وتفنيد الاخبار والاحاديث هو من الامور التي شيّدت قواعدها على أسس من البرهان والعقل، وقلّما نجد دليلاً يصل إلى قوّته وسداده ومتانته، وقلّما نجد دليلاً يمتلك هذا المقدار من الاهمية والقيمة.
رأي الامامية في حاكمية الكتاب
كما قلنا فيما سبق فإنّ مسألة موافقة الكتاب وعدم مخالفته في مطلق الاخبار وعند ترجيح الخبرين المتعارضين من المسلّمات عند الامامية، وقد ادعى العلماء التواتر في صدور روايات هذا الباب.
ومما لا شك فيه أنه لا يسع أيّ ضابط أو قاعدة في هذا الشأن أن تكون أتقن وأوثق من القرآن ليمكننا أن نشخص صحة الامور وسقمها ولا سيما في ما يخصّ باب الاحاديث والاخبار.
وأقوال المفكرين الفطاحل في المجالات العلمية في مذهب الامامية تثبت هذه الحقيقة : بأن جعل القرآن مقياساً لتثبيت الشؤون الفردية والاجتماعية هو أمر ضروري جداً ويمتاز بأهمية خاصة.
وفيما يخصّ بحاكمية الكتاب وجعله الميزان والمقياس لتمييز وتعيين الصحيح والفاسد من الاخبار، فانه قبل أن يتم إثباته عن طريق النصوص قد ثبت عن طريق الادلة والبراهين من أنه أمر لا غبار عليه، ولا يمكن تجاوزه إلى أي وجه آخر.
وكما يشاهد في بيان أخبار وأقوال فطاحل العلماء فإن حيوية هذا الامر وسداده تمتاز بوضوح وإشراق، إذ توحي بأننا لا نحتاج إلى أي دليل خارجي لقبولها والاذعان لها، ومجرد نسبتها إلى كتاب الله وصيانته من الخطأ والتحريف لهما شاهدان على ذلك وهما دليل على صدقها وصحتها، إذ تتمكن بذلك أن توفر الارضية لجعل القرآن الحاكم والمرجع لتمييز وتعيين الاخبار الصحيحة عن الاخبار السقيمة والفاسدة.
وفي هذا المجال نشير إلى جملة من أقوال العلماء المختصين وأهل الخبرة في هذا الشأن.
يقول الشيخ الانصاري :
«الثانية : أن يكون ( الخبر المخالف ) على وجه لو خلا الخبر المخالف له عن المعارضة لكان مطروحاً لمخالفة الكتاب، كما إذا تباين مضمونها كليّة، كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدم، واللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجيّة رأساً لتواتر الاخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب والسنّة والمتيقّن من المخالفة هذا الفرد، فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضاً»(1) .
ويقول الاخوند الخراساني :
«إنّ الاخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة لو قيل بأنَّها في مقام ترجيح أحدهما، لا تعيين الحجة عن اللاحجة كما نزلناها عليه، ويؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجيّة المخالف من أصله، فانَّهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما على خلاف المخالفة في الاخرى كما لا يخفى»(2) .
ففي هذا التصريح يستدل الاخوند بجهتي موافقة الكتاب ومخالفته : أحدهما ترجيح الموافق مع الكتاب في المتعارضين بالعموم والاطلاق، والاخر بطلان الخبر المخالف مع القرآن على ضوء أخبار لزوم العرض على الكتاب.
ويقول الاصفهاني (رحمه الله) أيضاً في هذا المجال :
«أمّا مقتضى أدلّة الترجيح، فاللازم تقديم الخبر الموافق لظاهر الكتاب بل لعلّه القدر المتيقّن من مورد الترجيح فتدبّر. وأمّا إذا كان الكتاب نصاً، أو أظهر من المخالف، فهو مورد سقوط المخالف عن الحجيّة رأساً بحيث لو كان وحده ما صحّ الاخذ به، فانه القدر المتيقّن من الاخبار الدالّة على أنّه زخرف وباطل، قد مرّ انّه من باب تمييز الحجّة عن اللاحجة، لا من باب الترجيح بموافقة الكتاب»(3) .
ويقول الشهيد الصدر (رحمه الله) أيضاً :
«الطائفة الثالثة : وهي الروايات الامرة بعرض نفس أخبار الائمّة على الكتاب وجعل الكتاب معياراً لتمييز الاخبار الصحيحة عن الاخبار الكاذبة، على عكس ما يقوله الاخباريون(4) من وإن اشتراك وموافقة الاخبارية وأهل الخلاف تثبت حقيقة امتياز منهج وأسلوب التفكير والاجتهاد والاستنباط عند مذهب الامامية.
وبهذا الاُسلوب يتجلّى بوضوح مسألة بطلان المنهج المخالف وتتبدل ساحة المنازعات إلى شكل آخر.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذا المبحث هي أن يعلم العالم الاسلامي والحوزات العلمية في شتى أنحاء العالم أن التشيع يستقي وجوده ويكتسب صفته الرسمية على ضوء تطابقه مع القرآن، وأنه يرى السنة في موازات القرآن ومرتبطة بالكتاب، على خلاف مذهب أبناء العامة، إذ يرون السنة مستقلة في التشريع وغير مرتبطة بالقرآن، وقد فندوا ورفضوا الروايات الواردة في موضوع عرض الروايات على الكتاب واعتبروها موضوعة من قبل الزنادقة !!
فرض أخبار الائمّة أصلاً والكتاب فرعاً يفسّر بلحاظها، وقد ادّعي تواتر هذه الطائفة.
والانصاف أن هذه الطائفة من أقوى الادلّة على حجيّة ظواهر الكتاب الكريم، ولا يأتي هنا احتمالنا السابق في الطائفة الثانية، إذ المفروض في هذه الاخبار جعل القرآن مقياساً لصحّة الخبر وسقمه ، فاذا فرض أن العبرة بالقرآن المفسر بالخبر كان ذلك رجوعاً مرة أُخرى إلى الخبر فينتهي ذلك إلى جعل نفس الخبر مقياساً لصحة الخبر وسقمه، وهذا ممّا لا معنى له ولا يحتمل، وهذا بخلاف باب الشروط، فهناك لا يكون تهافت في أن يكون مقياس صحّة الشروط وفسادها مخالفتها للقرآن المفسّر بالخبر وعدمها.
والحاصل أن المتفاهم عرفاً من هذه الطائفة بشكل واضح لا خفاء عليه أن القرآن هو الاصل وأن الاخبار هي الفرع وأن كلّ ما خالف الكتاب سواء كانت مخالفة لفظيّة أو ظهوريّة يجب طرحه ولا يجوز العمل به، بل هو ممّا لم يقولوه، لانّهم تلامذة القرآن
وأبناؤه فلا يأمرون بشيء يخالف القرآن…»(5) .
وحصيلة الكلام، هو أن ما يفهم عرفاً من أخبار لزوم العرض على الكتاب هو أن القرآن هو الاصل والاخبار فرع، وكل شيء يعارض أو يخالف القرآن بأي شكل من الاشكال ـ لفظية كانت أو ظهورية ـ فيجب رفضه ولا يجوز العمل به، بل ينبغي أن نقول بأن التحدّث على خلاف ونقيض القرآن يعتبر من الموارد التي لم ولن يتحدث بها الائمة، وذلك لانهم تلاميذ مدرسة الوحي وابناؤها، ولا يتفوهون أبداً بما يخالف القرآن أو ما يعارضه.

أحاديث الامامية في عدم الاخذ
بالاحاديث المخالفة للكتاب
1 ـ خبر الراوندي عن الصادق (عليه السلام) : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فرُدّوه، فما لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(6) .
2 ـ روى الصادق (عليه السلام) : «أنّ رسول الله خطب الناس بمنى، فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(7) .
3 ـ وعن الامام أبي جعفر الثاني ـ محمّد الجواد (عليه السلام) ـ في مناظرته ليحيى بن أكثم، قال : «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع : قد كثرت عَلَيَّ الكذّابة وستكثر بعدي، فمن كذب عَلَيَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به»(8) .
4 ـ وعن الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(9) .
وأيضاً يروي الكليني (رحمه الله) أن الامام جعفر بن محمّد (عليه السلام) قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شي، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه»(10) .
وكذلك روى عن الامام محمّد الباقر (عليه السلام) : «أنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامة إلاّ أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدل عليه،
وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»(11) .
وقد ذكرت أحاديث كثيرة بهذا المضمون في كتاب الوسائل :
1- «ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»(12) .
2- «وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(13) .
3- «ما خالف كتاب الله فردّوه»(14) .
وجميع هذه الاحاديث تنطلق في اتجاه واحد، وتمتلك مضامين مشتركة وعامة وهي لزوم عرض الخبر على الكتاب أو جعل القرآن بصفة الميزان والمقياس لتمييز ومعرفة الصحيح والفاسد من الاخبار، وأن الرسول والائمة الميامين (عليهم السلام) لم يتفوّهوا بما يخالف الكتاب السماوي، ولم يحكموا بما يناقضه أبداً، وكان لسان حالهم : نحن أهل بيت لا نقول بما يخالف قول الرب، وكلّ ما يخالف القرآن فهو باطل وزخرف.
وحريٌ بهذه الاخبار الموجودة في كتب الامامية أن تدرس وتناقش في اتجاهين :
1 ـ الاخبار المطروحة لمعالجة ما يخص المتعارضين.
2 ـ الاخبار المذكورة في عرض مطلق الاحاديث على الكتاب.
وبالنظر إلى هاتين المجموعتين من الروايات نلحظ أيَّ نمط قد اتخذه مذهب أهل البيت أو أي طريقة ليتقبّل هذه الحاكمية، وكيف سار على ضوء أقوال الائمة التي صدرت بموازاة البراهين العقليّة المستحكمة والمتينة، وكيف حكّم الروايات مع الميزان والمقياس الالهي وكلام الوحي، وكيف رفض ما خالفه وما غايره.
إنّ مذهب أبناء العامة ارتأى بأن هذه الاحاديث مختلقة وقد وضعتها الزنادقة، وهي لا تملك أي حيثية أو منزلة في نفسها ! علماً بأن الامامية وأبناء العامة اشتركوا في رواية نصوص هذه الاحاديث وفي امتلاكها وحدة الفحوى والمضمون.
والاحاديث التي ذكرها ابن حزم في كتاب «الاحكام» وذكرها الاخرون في كتبهم الفقهيّة والحديثيّة ـ كما أشير إلى نماذج منها في بدء البحث ـ تتّحد في نصوصها مع فحوى ومغزى الاحاديث الشيعية، ولا يوجد اختلاف فيما بينها، لكن ليعلم على مستوى ذلك علاقة كلّ من الفريقين بكتاب الله ووحيه.

تأليف
الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي

*******************
(1) فرائد الاصول، كتاب التعادل والتراجيح، باب الترجيح بموافقة الكتاب 4 / 148.
(2) كفاية الاُصول 2 / 419 ـ 420.
(3) نهاية الدراية 6 / 359 ـ 360.
(4) من المناسب لكبار العلماء والشخصيات الدينيّة، في كتبهم الاستدلاليّة عند التطرق إلى مبحث حجية ظواهر الكتاب وفي مقام الردّ على الاخباريين وأيضاً في مبحث تعارض الخبرين حين يبادرون إلى بيان روايات لزوم العرض على الكتاب، أن يتعرضوا في بدء الامر إلى أبناء العامة بصفتهم مخالفين لهذه المجموعة من الاخبار، ثم ليتعرضوا الى الاخباريين بصفتهم ساروا على نهج أهل الخلاف في هذا الخصوص، ليتضح بذلك عظمة مذهب التشيع للعالم ومستوى تمسكهم بالكتاب، وأيضاً ليتحقق الغرض من الاستدلال على المراد والمطلوب بصورة أفضل وأتم.
(5) مباحث الاُصول للسيّد الحائري تقريراً لابحاث الشهيد الصدر 1 / 238 ـ 239.
(6) وسائل الشيعة 18 / 84 ب 9 من أبواب صفات القاضي رقم 29.
(7) أصول الكافي 1 / 69، ح5.
(8) احتجاج الطبرسي 2 / 246.
(9) أصول الكافي 1 / 69، ح1.
(10) المصدر السابق 1 / 59، ح1.
(11) أصول الكافي 1 / 59، ح1.
(12) وسائل الشيعة 18 / 78 كتاب القضاء.
(13) المصدر السابق : 79.
(14) المصدر السابق : 80.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى