مهدي البيشوائي
تركزت نشاطات الإمام في هذه الفترة على الأُمور التالية:
أ – العبادة والعبودية للّه وبالنحوالذي يليق بشأن شخصية مثل علي ـ عليه السَّلام ـ وقد وصلت عبادته إلى درجة انّ الإمام السجاد ـ عليه السَّلام ـ يعتبر عبادته وتهجّده الفريد هولاشيء بالنسبة إلى عبادة جدّه العظيم.
ب – تفسير القرآن ومعالجة غوامض ومشاكل كثيرة من الآيات وتربية تلاميذ من مثل عبد اللّه بن عباس الذي يعد من أكبر مفسري الإسلام من بين الصحابة.
ج – الإجابة على شبهات وتساؤلات علماء الأديان العالمية لا سيما اليهود والنصارى منهم الذين كانوا يتوافدون إلى المدينة للبحث والاستقصاء حول دين النبي بعد وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وما كانوا يجدون من يجيب تساؤلاتهم سوى علي ـ عليه السَّلام ـ الذي بدت معرفته بالتوراة والإنجيل واضحة من خلال كلامه معهم، ولولا انّ علياً ملأ هذا الفراغ لكان المجتمع الإسلامي يغط في انتكاسة كبيرة.
وعندما كان الإمام يقدم أجوبة مفحمة على جميع الشبهات والتساؤلات كان الفرح والإعجاب الكبير يغمران وجوه الخلفاء الجالسين في مكان رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
د – بيان الحكم الشرعي للمواضيع المستحدثة والتي لم يكن لها سابقة في الإسلام أوبأن تكون القضية بقدر من التعقيد والغموض بحيث يعجز القضاة عن الحكم فيها، وتشكل هذه النقطة جانباً هامّاً من حياة الإمام، فلولم تكن هناك شخصية كالإمام علي ـ عليه السَّلام ـ بين الصحابة، تلك الشخصية التي هي أعلم الأُمّة بشهادة واعتراف الرسول الكريم وأعرفها بأُصول القضاء والتحكيم لظلت هناك قضايا كثيرة عالقة من صدر الإسلام بلا حلول.
وقد كانت هذه المواضيع المستحدثة تستوجب أن يكون هناك إمام واع معصوم كالنبي له معرفة كبيرة بأُصول وفروع الدين الإسلامي بين الناس بعد رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ليحمي علمه الواسع ومعرفته الكبيرة الأُمّة من الاتجاهات المنحرفة وعمليات الأخذ بالقياس والظن والحدس، ولم تتوفر هذه الموهبة العظيمة إلاّفي شخص أميرالمؤمنين باعتراف جميع أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، وقد نقلت كتب الحديث والتاريخ بعضاً من قضاء الإمام واستخدامه الرائع والبديع للآيات القرآنية وقد جمع بعض العلماء قسماً منها في كتا ب مستقل.
هـ – تربية مجموعة من الذين كانوا يحملون ضميراً حياً وفطرة سليمة وروحاً مستعدة للسلوك الديني حتى يمكنهم الوصول إلى مدارج الكمالات المعنوية العالية والتعرف على مالا يمكن التعرف عليه بالمعرفة الظاهرية إلاّبالرؤية القلبية والعين الباطنية.
و- العمل والسعي لأجل ضمان معيشة شريحة كبيرة من الفقراء والمساكين، وقد وصل الأمر بالإمام إلى أن يغرس الأشجار ويحفر القنوات ثمّ يوقفها ويجعلها وقفاً في سبيل اللّه.
ز- عندما كانت الخلافة تصل إلى طريق مسدود في القضايا السياسية وبعض القضايا والمشاكل الأُخرى كان الإمام ـ عليه السَّلام ـ المستشار الوحيد والمعتمد الذي يعالج المشاكل بموضوعية خاصة مع حلول واضحة، وقد جاءت بعض الاستشارات في نهج البلاغة وكتب التاريخ.
ومنها على سبيل المثال كتاب قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ من مؤلّفات العالم الكبير الشيـخ محمـد تقـي التستـري، وكتاب قضـاء علـي بن أبي طالـب ـ عليه السَّلام ـ تأليـف السيـد إسماعيـل رسول زاده.
الإمام علي ومعالجة مشاكل الخلفاء العلمية والسياسية
يشهد التاريخ بأنّ أبا بكر وعمر كانا يراجعان الإمام في القضايا السياسية والدينية وتفسير القرآن والأحكام الفقهية للإسلام طيلة فترة خلافتهما وكانا يفيدان من استشارته وإرشاداته وعلمه بأُصول الدين وفروعه بشكل تام ونورد بعض الأمثلة من ذلك ممّا سجلته كتب التاريخ:
الحرب مع الروم
كان أحد أعداء الحكومة الإسلامية الفتية هي الامبراطورية الرومية التي كانت تشكل خطراً للحكومة الإسلامية من ناحية الشمال دائماً، وكان الرسول الكريم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وحتى اللحظات الأخيرة من حياته مدركاً لهذا الخطر، وقد أرسل في السنة الثامنة من الهجرة جيشاً بقيادة جعفر الطيار إلى ضفاف الشام غير انّ هذا الجيش الإسلامي عاد إلى المدينة بلا جدوى وقد فقد ثلاثة من القادة ومجموعة من المقاتلين، وانطلق رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بجيش جرّار نحو تبوك في السنة التاسعة، ولكنّه عاد إلى المدينة من غير مواجهة مع العدو، وكان لهذه الحركة نتائج بارزة وكبيرة مذكورة في التاريخ، ورغم كلّ ذلك كان احتمال هجوم الروم يقلق رسول اللّه دائماً، ولهذا أعدّ جيشاً من المهاجرين والأنصار في أيامه الأخيرة وهو على فراش الموت لينطلق باتجاه ضفاف الشام.
لم يغادر هذا الجيش المدينة لسبب من الأسباب وفي حين كان الجيش الإسلامي معسكراً في أطراف المدينة توفي رسول اللّه والتحق بالرفيق الأعلى بعد ذلك وبعد أن أقرّ الجو السياسي الخلافة في يد أبي بكر عاشت المدينة جواً هادئاً بعد الأزمة.
كان أبوبكر الذي تولّى القيادة متردّداً في تنفيذ أمر النبي لمحاربة الروم كثيراً، ولهذا استشار جماعة من الصحابة وقدّم كلٌ منهم رأياً لم يقتنع به، وفي النهاية استشار الإمام في ذلك فشجعه لتنفيذ أمر النبي وقال ـ عليه السَّلام ـ : إن فعلت ظفرت فاستبشر الخليفة لتشجيع الإمام وقال: بشّرت بخير. [١]
الخليفة الثاني واستشاراته السياسية للإمام
كان الإمام مستشاراً هاماً في معالجة كثير من المشاكل السياسية والعلمية والاجتماعية في زمن الخليفة الثاني وسنشير إلى مثال واحد من مجموع المرات العديدة التي استعان الخليفة الثاني فيها بفكر الإمام في القضايا السياسية. وقعت في السنة الرابعة عشرة من الهجرة حرب طاحنة بين جيش الإسلام وبين جيش الفرس في القادسية وانتهت بانتصار المسلمين وقتل رستم فرّخ زاد القائد العام للقوات الفارسية مع مجموعة من المقاتلين وانضم بهذا الانتصار جميع أرجاء العراق تحت لواء الإسلام واستولى المسلمون على المدائن التي كانت مركزاً للملوك الساسانيين وتراجع قادة الجيش الفارسي إلى داخل أراضيه.
وخشي المستشارون والعسكريون الفرس من أن يزحف الجيش الإسلامي إلى داخل أراضيهم ويستولي على جميع أرجاء البلاد بالتدريج، ولأجل مواجهة هذا النوع من الهجوم الخطير أعدَّ يزدجرد ملك فارس جيشاً قوامه مائة وخمسون ألف مقاتل بقيادة فيروزان حتى يصد أي هجوم مفاجئ، وإذا ساعدت الظروف يبدأ هو بالهجوم.
وكتب سعد بن أبي وقاص القائد العام للقوات الإسلامية [وعلى رواية عمار بن ياسر الذي استولى على الكوفة] رسالة إلى عمر يطلعه فيها على تحشدات العدووأضاف انّ جيش الكوفة مستعد لخوض المعركة وقبل أن يبدأنا العدوبالحرب نداهمه لإرعابه.
دخل الخليفة المسجد واستدعى كبار الصحابة. وأطلعهم على ما ينويه من ترك المدينة والانطلاق نحومكان بين البصرة والكوفة ليقود الجيش من هناك، فقام طلحة في هذه الأثناء وشجّع الخليفة على ذلك وقال كلاماً تفوح منه رائحة التملّق جيداً، ثمّ قام عثمان بعد ذلك ولم يكتف بحثّ الخليفة على الانطلاق فقط، بل أضاف ان أكتب إلى جيش الشام واليمن بأن ينطلقوا جميعاً ويلحقوا بك حتى يمكنك مواجهة العدوبهذا الجيش الكبير .
وحينئذ قام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ وقال:
«إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة وهودين اللّه الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه حتى ما يبلغ وطلع حيثما طلع ونحن على موعود من اللّه واللّه منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فانّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك ممّا بين يديك.
إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ اللّه سبحانه هوأكره لمسيرهم منك، وهوأقدر على تغيير ما يكره، وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنا نقاتل بالنصر والمعونة». [٢]
استجاب عمر لكلام الإمام بعد سماعه ولم يذهب. [٣]
ونظراً لهذه المعالجة والحلول قال عمر: أعوذ باللّه من مشكلة ليس لها أبوالحسن. [٤]
من الخلافة إلى الشهادة
كيف بويع أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ
أثار عثمان غضب الناس جرّاء فساده المالي والإداري وتصرّفه غير الشرعي في أموال المسلمين، وهكذا تنصيب بني أُميّة وأقربائه الغير مؤهلين في مناصب عالية، وتسليطهم على مقدّرات الأُمة وبالتالي تنحية الشخصيات الجديرة والمؤهلة من المهاجرين والأنصار، وحيث إنّه لم يستجب لاعتراضات ومطاليب المسلمين المتكررة والمشروعة فيما يتعلق بتنحية عمّـاله وولاته الفاسدين ثارت الثورة على حكومته وانتهت بقتله، ثمّ بايع الناس علياً على أنّه خليفة على المسلمين، ومن هنا كانت حكومة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ التي وصلت إلى الحكم بعد مقتل عثمان حكومة ثورية وحصيلة انتفاضة شعبية في وجه فساد وظلم الحكومة السابقة.
إنّ أحد نماذج فساد حكومة عثمان هوإعادة الحكم بن أبي العاص وابنه مروان الذي طرده النبي إلى الطائف للمدينة، وهذا ممّا لم يجرأ حتى أبوبكر وعمر على فعله في خلافتهما، وزوّج مروان ابنته وولاّه مسؤولية ديوان الخلافة ممّا أثار غضب الناس وحوصر بيت عثمان مدة تسعة وأربعين يوماً من قبل الثوريين. [٥]
وكلّما حاول عثمان الخضوع واللين كان مروان يثير غضب الناس أكثر، وفي النهاية داهم المسلمون بيت عثمان وأردوه قتيلاً.
مكانة علي المتألّقة
الشيء الذي كان يفكر به الثوريون هوتنحية عثمان عن الخلافة على الرغم من أنّ اسم علي ـ عليه السَّلام ـ كان جارياً على الألسن طيلة فترة الحصار المضروب على بيت عثمان، ولكن لم يكن لديهم خطة واضحة للمستقبل لذلك اصطدموا بعد مقتل الخليفة بمشكلة اختيار الخليفة.
ومن ناحية أُخرى كان قد توفّي اثنان من أعضاء الشورى الستة، وهما :عبد الرحمان بن عوف وعثمان، ولم يكن هناك من بين الأربعة الموجودين ـ علي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ـ من هوأحب للناس وأكثر شعبية وفضلاً وماضياً متألقاً في الإسلام من علي ـ عليه السَّلام ـ ، وهوما جرّ الناس إلى شخصيته ـ عليه السَّلام ـ .
وبعد تقييم ودراسة الظروف والأوضاع وملاحظة التغييرات التي حصلت في زمن عثمان، وهكذا بعد ابتعاد المسلمين وانفصالهم الكبير عن خط الإسلام الحقيقي الأصيل أيقن علي ـ عليه السَّلام ـ بأنّه من الصعب جداً ممارسته الحكم بعد ذاك الفساد والانحراف المتخلّفين من حكومة عثمان، وقد لا يحتمل الناس وخاصة كبار القوم تعديلاته وإصلاحاته التي يرمي إليها ولا يطيقون عدالته، ولهذا السبب رفض الخلافة عندما عرض عليه الثوريون بيعتهم.
قد اتّفق المؤرخون على أنّ عثمان قتل في سنة ٣٥ هجرية ولكنّهم اختلفوا في يوم ذلك. [٦]
وفي الوقت ذاته انّ المتيقن به هووجود أربعة أوخمسة أيّام فصلت بين مقتل عثمان وبيعة الناس لعلي ـ عليه السَّلام ـ . [٧]
وكان الناس في هذه المدة يعيشون حالة من الفوضى والضياع وخلالها كان أصحاب الثورة يراجعون الإمام غير انّه كثيراً ما يبعد نفسه عن الأنظار، وحيث إنّهم كانوا يطالبونه بقبول بيعتهم وهوما يزال يرى الظروف غير مناسبة لقبول الخلافة وانّ الحجّة لم تتم عليه بهذا الاقتراح قال: «دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وانّ الآفاق قد أغامت والحجة قد تنكرت، واعلموا أنّي وإن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي اسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً». [٨]
وحيث قد كثر توافد المسلمين على الإمام ـ عليه السَّلام ـ وازدحامهم عليه واكتظت داره بهم وازداد إصرارهم عليه، تنفيساً عن عناء الاضطهاد السابق وشوقاً إلى العدالة شعر بالمسؤولية ولم ير بداً غير قبول البيعة، وقد ذكر الإمام ـ عليه السَّلام ـ شغف الناس وإقبالهم وإصرارهم عندما طالبوه بالبيعة في عدّة مواضع من نهج البلاغة والتي منها:
«فتداكوا عليّ تداك الإبل الهيم يوم وردها، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها حتى ظننت أنّهم قاتلي أوبعضهم قاتل بعض ولدي، وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم». [٩]
ويجسد لنا في موضوع آخر ذلك المشهد المثير لازدحام الناس عليه من كلّ جانب ويرسم لوحة حيّة تعبر عن شدة فرح الناس وشوقهم وشغفهم بعد تلقيهم نبأ قبول الخلافة.
ويقول:«وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووُطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل». [١٠]
وقد تحدث الإمام في خطبته عن إقبال الناس عليه بحرارة وسرور عن أسباب قبول الخلافة قائلاً:
«… فما راعني إلاّوالناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ الحسنان [١١] وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنّهم لا يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: ( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين).
بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضورالحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز». [١٢]
إنّ الحكم الإسلامي الذي مارسه علي ـ عليه السَّلام ـ على الرغم من قصر عمره إلاّ انّه كان نموذجاً كاملاً للحكومة الإسلامية التي أشاد صرحها النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في المدينة.
وعلى الرغم من أنّ أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ لم يصل إلى كافة أهدافه الإصلاحية التي نادى بها نتيجة المؤامرات الداخلية التي حيكت ضده، إلاّ انّه استطاع بلا شك أن يطرح نموذجاً ناجحاً للحكومة وفق تعاليم الإسلام ومعاييره.
إنّ استعراض مزايا وخصائص حكومة علي ـ عليه السَّلام ـ يخرجنا عن نطاق هذا البحث المكثف، إلاّ انّنا نكتفي بلمحة سريعة للخطوط العريضة لسيرته ـ عليه السَّلام ـ في الحكم باعتبارها شاخصاً بارزاً ومثمراً للغاية.
١- أشار علي ـ عليه السَّلام ـ إلى أنّ فلسفة قبوله للخلافة هي لأجل إجراء العدالة الاجتماعية في المجتمع على كافة المستويات لا سيما الاقتصادية، والاستفادة من الإمكانات العامة، ومكافحة الفوارق الطبقية الكبيرة في المجتمع، وقد أكد على أنّ اللّه أخذ على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم.
٢- انّ رؤية علي ـ عليه السَّلام ـ إلى الحكم تتلخص في أنّ الحكم والمنصب ليس إلاّ وسيلة لخدمة الناس وإحقاق الحقّ ودحض الباطل، لا انّه طعمة تدر الأرباح، وقد التزم الإمام بهذا المنهج إلى أبعد الحدود، حتّى تراه يجتنب عن إعطاء المهام الحساسة كالولاية وبيت المال إلى المتعطشين للسلطة كطلحة والزبير، ولهذا السبب فقد أجّجوا نائرة الفتن ورفعوا لواء العصيان ضدّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ .
٣- لقد عاش الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ عند تصدّيه للخلافة غاية الزهد والبساطة في الحياة، كما كان يوصي عماله بالاعتدال والعزوف عن زخارف الدنيا وزبرجها وهذه الخصوصية أي عزوفه عن زخارف الدنيا هي من أبرز خصائصه الذاتية وسيرة حكمه.
٤- انّ المعيار الذي أكد عليه الإمام ـ عليه السَّلام ـ في انتخاب الولاة والعمال، هو أن تكون لهم سوابق في الإسلام، وتقوى، وكفاءة في إدارة سدة الحكم، والتزام بقيم الإسلام وغيرها من المعايير.
والشيء الذي لم يخطر ببال الإمام أبداً هوالقرابة والعشيرة، كما يتضح ذلك حينما نصب (٥١) شخصاً كولاة وممثلين عنه في الولايات والإمارات المختلفة، فتجد فيهم من المهاجرين والأنصار، وأهل اليمن، والهاشمي وغير الهاشمي، والعراقي والحجازي، الشاب والكهل، ولا تجد في هذه القائمة أثراً لأسماء الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد اللّه بن جعفر (زوج زينب ـ عليها السَّلام ـ ) على الرغم من تقارب أعمارهم وتمتعهم بكفاءة عالية في إدارة دفة الحكم وتصدي المسؤوليات، ويعلم ذلك من خلال المهام الصعبة التي أوكلت إليهم في الحروب ومواقع الخطر إلاّ انّ الإمام كان يحذر من تعيينهم في المناصب الحكومية.
٥- لم يكن الإمام يعتقد وخلافاً لمعظم الزعماء والرؤساء بأنّ الغاية تبرر الوسيلة ولم يتوصل إلى أهدافه المقدسة النبيلة بوسائل غير مشروعة قط، كما يظهر من جوابه لما عوتب على التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة فيه من غير تفضيل أولى السابقات والشرف.
«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، واللّه لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً! ولو كان المال لي لسوَّيت بينهم، فكيف وإنّما المال، مال اللّه». [١٣]
في حين انّ خصمه معاوية توصل بكلّ وسيلة غير مشروعة مهما كان الثمن للوصول إلى مآربه الشيطانية، وقد ساد الاعتقاد عند جماعة سذج انّ هذه من علامات ذكاء معاوية ودرايته وتفوقه على الإمام ـ عليه السَّلام ـ في السياسة، لذا تجد الإمام، يقول:
«واللّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة». [١٤]
٦- كان الإمام ـ عليه السَّلام ـ يراعي الأُصول والضوابط في تعامله مع أعدائه ومخالفيه، دون أن يصادر حرياتهم إلاّ إذا أجّجوا نائرة الفتن، ففي الأشهر الأُولى من خلافة الإمام ـ عليه السَّلام ـ همّ طلحة والزبير بالخروج من المدينة بعد أن يأسا منه في الحصول على الولاية وأقبلا على الإمام ـ عليه السَّلام ـ وقالا: إنّا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.
فأذن لهما الإمام ـ عليه السَّلام ـ ، وروي أنّ علياً ـ عليه السَّلام ـ قال لبعض أصحابه: واللّه ما أرادا العمرة ولكنّهما أرادا الغدرة. [١٥]
ويعكس هذا النص التاريخي انّ الإمام لم يصادر حريتهما قبل أن يرفعا لواء العصيان على الرغم من علمه ـ عليه السَّلام ـ بما يضمران له.
وأيضاً لما خالف الخوارج الإمام ـ عليه السَّلام ـ إثر جهلهم وعنادهم وسوء فهمهم اعتزلوا معسكر الإمام حين رجوعهم من صفين وأقاموا لهم معسكراً في النهروان فخاطبهم الإمام ـ عليه السَّلام ـ ـ بعد ان كانت مخالفتهم سياسية ولم تتعدى القيام بعمليات عسكرية وتهديد الأمن ـ بقوله:
«أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتّى تبدؤونا». [١٦]
وبهذه الصورة فقد سايرهم الإمام ـ عليه السَّلام ـ من منطلق القوة، إلى أن قاموا بنشر الرعب والخوف والإخلال بالأمن حينها اضطر الإمام ـ عليه السَّلام ـ إلى استعمال القوة بغية القضاء على فتنتهم.
٧- على الرغم من أنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ كان ينصب عمالاً وولاة صالحين وكفوئين إلاّ انّه في الوقت نفسه كان يجعل عليهم عيوناً لمراقبة تحركاتهم، وأدنى خطأ يصدر منهم فانّها تنقل إلى الإمام ـ عليه السَّلام ـ كي يتخذ الاجراءات المناسبة في حقّهم.
ومن أبرز تلك النماذج هوكتاب تقريع بعثه الإمام ـ عليه السَّلام ـ إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة وقد بلغه انّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها. [١٧]
وجدير بالذكر انّ هذه الحادثة وقعت في الشهور الأُولى من خلافته ـ عليه السَّلام ـ ، لأن ابن حنيف كان عامله على البصرة قبل حرب الجمل التي نشبت عقب شهور ستة من تسلم الإمام ـ عليه السَّلام ـ لمقاليد الخلافة، وفي هذه الفترة المضطربة فانّ الإمام قد انشغل بترتيب الوضع الداخلي بعد الفوضى التي سادت البلاد من جراء مقتل عثمان، إلاّ انّ هذا كلّه لم يمنع الإمام ـ عليه السَّلام ـ من بعث الكتاب المذكور إلى عامله تقريعاً له على ما صنع.
القتال في ثلاث جبهات
حمّلت خلافة الإمام ـ عليه السَّلام ـ وقيادته التي ساد فيها العدل وإحياء المبادئ والقيم الإسلامية الأصيلة جماعتها عبأ ثقيلاً ممّا أدى إلى تشكيل خط معارض لحكومته، وانتهت هذه المعارضات إلى حدوث ثلاث حروب مع الناكثين والقاسطين والمارقين سنمرّ على كل منها مروراً سريعاً.
قتال الناكثين
وقد كان سبب هذه الحرب مع الناكثين (ناقضي العهد) هوانّ طلحةوالزبير اللّذين بايعا علياً قد طلبا منه أن يولّيهما اعمال البصرة والكوفة، ولكن الإمام رفض ذلك، وتركا المدينة سراً والتج آ إلى مكة وجيّشاً جيشاً بأموال بيت المال المختلس من قبل بني أُمية وانطلقوا نحوالبصرة واستولوا عليها.
فتحرّك علي ـ عليه السَّلام ـ تاركاً المدينة للقضاء عليهم، وحدثت حرب طاحنة قرب البصرة انتهت بانتصار عليّ وهزيمة الناكثين، وهذه هي حرب الجمل التي لها مساحة كبيرة في التاريخ، اندلعت هذه الحرب سنة ٣٦ هجرية.
قتال القاسطين
كان معاوية قد أعدّ ومنذ فترة سبقت خلافة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ مقدّمات الخلافة لنفسه في الشام، وما إن استلم الإمام الخلافة عزله عن الشام ولم يرض أن يقرّه عليها لحظة واحدة، وكان حصيلة هذا النزاع هوأن تقاتل جيش العراق وجيش الشام في أرض تدعى صفين وكان انتصار لجيش علي ـ عليه السَّلام ـ لولا معاوية وخديعته التي أحدثت تمرداً بين جيش الإمام.
وفي النتيجة وبعد الضغط الكبير على الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ من قبل جيشه رضخ لتحكيم إبي موسى الأشعري وعمروبن العاص لكي ينظروا في مصالح الإسلام والمسلمين يبديا رأيهما،وقد كان الضغط على أمير المؤمنين لأجل قبوله بالتحكيم بدرجة انّه لولم يقبل به لأودى ذلك إلى موته ولواجه المسلمون أزمة كبيرة.
وبعد أن حان موعد إعلان رأي الحكمين خدع عمروبن العاص أبا موسى وهوما أدّى إلى إفشاء خطة معاوية الشنيعة بين الجميع، وبعد ذلك خرج بعض من المسلمين الذين كانوا في صف الإمام عليه وانتقدوه لقبوله التحكيم الذي فرضوه هم أنفسهم عليه. وقد حدث قتال القاسطين عام ٣٧ هجرية.
قتال المارقين
والمارقون هم أُولئك الذين أجبروا علياً على قبول التحكيم، وندموا بعد عدّة أيام على ذلك، وطلبوا منه أن ينقض العهد من جهته، غير انّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ لم يكن بذلك الشخص الذي ينقض عهده، ولهذا خرجوا على الإمام ووقفوا ضده وقاتلوه في النهروان وقد عرفوا بالخوارج لذلك.
وانتصر الإمام في هذه الحرب غير انّ الأحقاد ظلّت دفينة في النفوس.
اندلعت هذه الحرب في سنة ٣٨، وعلى رأي بعض المؤرّخين في سنة ٣٩ هجرية.
وأخيراً تضرج الإمام ـ عليه السَّلام ـ بدمه على يد أحد المارقين وهوعبد الرحمن بن ملجم المرادي في التاسع عشر من رمضان المبارك عام ٤٠ للهجرة أي بعد أربع سنوات وبضعة أشهر من حكوم الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ . [١٨]
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أنّ سيرة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ متعددة الأبعاد والجوانب، فمن العسير بمكان الإلمام بها، ولا ندعي انّنا قدمنا للقراء الأعزاء شيئاً جديداً وإنّما استعرضناها بهدف الحفاظ على تسلسل الموضوعات.
—————————————————————————–
[١] . تاريخ اليعقوبي:٢/١٣٣.
[٢] . نهج البلاغة: الخطبة ١٤٦.
[٣] . الكامل في التاريخ:٣/٨ ، تاريخ الأُمم والملوك، الطبري:٤/٢٧٣; البداية والنهاية:٧/١٠٧.
[٤] . راجع لمزيد الاطلاع: الاصابة في تمييز الصحابة:٢/٥٠٩; الاستيعاب في معرفة الأصحاب:٣/٣٩; و كتاب تحليل لمواقف علي بن أبي طالب السياسية(بالفارسية) تأليف أصغر قائدان، الفصل الثالث والرابع، نشر أمير كبير.
[٥] . المسعودي، مروج الذهب:٢/٣٤٦.
[٦] . يرى اليعقوبي ان قتل عثمان تمّ في ١٨ ذي الحجة سنة ٣٥(تاريخ اليعقوبي:٢/١٦٥) غير انّ المسعودي يقول انّه قتل لثلاثة أيام بقين من ذي الحجة(مروج الذهب:٢/٣٤٦).
[٧] . كتب اليعقوبي : استخلف علي يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة ٣٥) وعليه تكون المدة الفاصلة خمسة أيام غير انّ المسعودي يقول: (بايع الناس علياً يوم قتل عثمان ثمّ يقول في صفحة أُخرى: «انّه بويع بعد أربعة أيام من قتل عثمان بيعة عامة» مروج الذهب:٢/٣٤٩ـ ٣٥٠. و يرى ابن الأثير انّ مقتل عثمان تمّ بتاريخ ١٨ ذي الحجّة وانّ البيعة لعلي تمت في ٢٥ من ذلك الشهر (الكامل في التاريخ:٣/١٧٩و١٩٤).ويصرح في الصفحة ١٩٢ بأنّ أهل المدينة قد عاشوا بعد مقتل عثمان خمسة أيام من الضياع وكانت المدينة تدار من قبل شخص يدعى غافقي بن حرب.
[٨] . نهج البلاغة : الخطبة ٩٢.
[٩] . نهج البلاغة : الخطبة ٥٤.
[١٠] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٩.
[١١] . نص كلام الإمام هو (وطئ الحسنان) الذي قد يعني: الحسن والحسين، ولكن قد فسر البعض الحسن بالابهام. راجع شرح نهج البلاغة:١/٢٠٠.
[١٢] . نهج البلاغة، الخطبة ٣.
[١٣] . نهج البلاغة، الخطبة١٢٦.
[١٤] . نهج البلاغة، الخطبة٢٠٠.
[١٥] . تاريخ اليعقوبي:٢/١٨٠.
[١٦] . تاريخ الأُمم والملوك:٦/٤١، حوادث سنة ٣٧.
[١٧] . نهج البلاغة: الكتاب ٤٥.
[١٨] . اعتمد في كتابة هذا الفصل مضافاً إلى المصادر المذكورة في الهامش على كتاب (بحث معمّق حول حياة علي ـ عليه السَّلام ـ ) تأليف الأُستاذ الكبير جعفر السبحاني.
منقول (بتصرف) من كتاب سيرة الأئمة عليهم السلام – مهدي البيشوائي
تعريب : حسين الواسطي
مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام