مع فريضة الحج التي أوجبها الله على المسلمين كافة لمن استطاع إليه سبيلا، تحولت مكة المكرمة إلى أكبر وأعظم مكان ومركز في العالم يجتمع فيه الناس. وهذا الاجتماع الذي يتحقق في الحج بهذا العدد الكمي من الناس، وبهذا التنوع الإنساني ليس له مثيل في تاريخ الأمم والحضارات السالفة والمعاصرة. والحقل الدلالي لهذا الاجتماع فيه من التأمل والثراء ما يثير الدهشة والعظمة، فقد تحول هذا المكان من واد غير ذي زرع، إلى مكان تهوي إليه أفئدة من الناس، ويأتونه رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
ونشأت عن هذه الفريضة طرق، عرفت بطرق الحج، وأصبح المسلمون يسلكون هذه الطرق بكل اتجاهاتها ذهابا وإيابا، من أي مكان كانوا في العالم. وعدت هذه الطرق من طرق الحضارة الإسلامية، وأصبحت جزءا من جغرافيتها، واكتسبت المزيد من الأهمية والحيوية مع مرور الوقت. وقد اشتهرت كما اشتهر من قبل طريق الحرير الذي أطلق عليه من شدة أهميته طريق الحرير العظيم، وكان يبدأ من الصين ويمر بوسط آسيا وبحر الخزر والبحر الأسود، وينتهي في بيزنطة المعروفة الآن بمدينة اسطنبول. واكتسب هذا الطريق شهرة عالمية لتأثيراته ومساهماته في الاتصال بين أمم ومجتمعات متعددة الديانات والثقافات والقوميات. ومازال العالم يذكره إلى هذا اليوم، ويجري الحديث عنه ليس لإسهاماته التجارية فحسب، وإنما لإسهاماته فيما يمكن أن يعرف اليوم بحوار الحضارات أو الثقافات.
وهذا ما التفتت إليه منظمة اليونسكو التي شكلت فريقا علميا مع بداية القرن الحادي والعشرين لإحياء طريق الحرير، وإعداد مجموعة من الدراسات تبرز التأثيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية له على تنمية المجتمعات التي كانت تقع في طريقه.
وكل حضارة من الحضارات منذ العصور القديمة كانت لها كشوفاتها الجغرافية في مجال الطرق والمواصلات، وكان لهذه الطرق كما يذكر الباحثون في تاريخ الحضارات تأثيرات شديدة الأهمية على كافة المجالات. وطرق الحج تعد واحدة من كشوفات الحضارة الإسلامية.
وقد استرعت هذه الطرق انتباه العديد من الباحثين والرحالة، ومن هؤلاء ابن بطوطة كما يقول المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي الذي قام بتحقيق رحلاته في خمسة مجلدات، حيث وصف كل مركز تمر عليه القافلة المتجهة إلى الحجاز بأنه كان بيئة علمية، ورحابة ثقافية واسعة. ويعتبر المؤرخ التازي أن ابن بطوطة يعود إليه الفضل في لفت الانتباه لتلك الطرق، وما أدته من دور مهم في التقاء وتحاور الثقافات المتعددة.
وحديثا التفتت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الائيسيسكو) لأهمية إحياء طرق الحج في سياق اهتمامها بتوثيق التراث الإسلامي، وفي إطار إبراز ملامح الهوية الثقافية الإسلامية. ولهذا الغرض عقدت الائيسيسكو ندوة دولية في القاهرة سنة 2002م، حيث أكدت هذه الندوة على الثراء الفكري والحضاري الذي شكلته طرق الحج في منظومة الثقافة الإسلامية. فهذه الطرق عززت من التأثيرات الثقافية لمكة المكرمة ورسخت في مركزيتها.
ومنذ فريضة الحج تحولت مكة المكرمة إلى أكبر مكان لاجتماع المسلمين على طول مراحل التاريخ الإسلامي وإلى اليوم وغد، وبذلك أصبحت مكة المكرمة مركزا حيويا للثقافة الإسلامية1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 11 يناير 2006م، العدد 14382.