سادة القافلةسيرة أهل البيت (ع)في رحاب نهج البلاغةمناسباتمنوعات

إجتماع‌ الصفات‌ المتضادّة‌ في‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌

العلامة ‌السيد محمد حسين‌ الحسيني الطهراني (قدّس سرّه)

 يقول‌ الشريف‌ الرضيّ جامع‌ نهج‌ البلاغة‌ في‌ مقدّمته‌ علی النهج‌ :

 ومن‌ عجائبه‌ عليه‌ السلام‌ التي‌ انفرد بها الواردة‌ في‌ الزهد والمواعظ‌ والتذكير والزواجر إذا تأمّله‌ المتأمّل‌، وفكرّ فيه‌ المتفكّر، وخلع‌ من‌ قلبه‌ أنّه‌ كلام‌ مثله‌ ممّن‌ عظم‌ قدره‌، ونفذ أمره‌ وأحاط‌ بالرقاب‌ ملكه‌، لم‌ يعترضه‌ الشكّ في‌ أنّه‌ من‌ كلام‌ من‌ لاحظّ  له‌ إلاّ في‌ الزهادة‌، ولاشغل‌ له‌ بغير العبادة‌.

وقد قبع‌ في‌ كسر بيت‌ أو انقطع‌ إلی‌ سفح‌ جبل‌، لايسمع‌ إلاّ حسّه‌، ولايرى‌ إلاّ نفسه‌، ولايكاد يوقن‌ بأنّه‌ كلام‌ من‌ ينغمِس‌ في‌ الحرب‌ مصلتاً سيفه‌، فيقطع‌ الرقاب‌ ويجدِّل‌ الابطال‌، ويعود به‌ ينطف‌ دماً، ويقطر مُهَجاً، وهو مع‌ تلك‌ الحال‌ زاهد الزهّاد، وبدل‌ الابدال‌.

وهذه‌ من‌ فضائله‌ العجيبة‌ وخصائصه‌ اللطيفة‌ التي‌ جمع‌ بها بين‌ الاضداد، وألّف‌ بين‌ الاشتات‌.

وكثيراً ما أذاكِرُ الإخوان‌ بها وأستخرج‌ عجبهم‌ منها. وهي‌ موضوع‌ للعبرة‌ بها والفكرة‌ فيها. [١]

كلام‌ ابن‌ أبي‌ الحديد في‌ الصفات‌ المتضادّة‌ لاميرالمؤمنين‌ عليه السلام

 يقول‌ الشارح‌ المعتزليّ ابن‌ أبي‌ الحديد الشافعيّ في‌ ذيل‌ كلام‌ الشريف‌ الرضيّ: كان‌ أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ ذا أخلاق‌ متضادّة‌.

 فمنها: ما ذكره‌ الرضيّ، وهو موضع‌ التعجّب‌؛ لانّ الغالب‌ علی أهل‌ الشجاعة‌ والإقدام‌ والمغامرة‌ والجرأة‌ أن‌ يكونوا ذوي‌ قلوب‌ قاسية‌، وفتكٍ وتمرّد وجَبَريّة‌، والغالب‌ علی أهل‌ الزهد ورفض‌ الدنيا وهجران‌ ملاذّها والاشتغال‌ بمواعظ‌ الناس‌ وتخويفهم‌ المعاد، وتذكيرهم‌ الموت‌، أن‌ يكونوا ذوي‌ رقّة‌ ولين‌، وضعف‌ قلب‌، وخَوَر طبع‌ وهاتان‌ حالتان‌ متضادّتان‌، وقد اجتمعتا له‌ عليه‌ السلام‌.

 ومنها: أنّ الغالب‌ علی ذوي‌ الشجاعة‌ وإراقة‌ الدماء أن‌ يكونوا ذوي‌ أخلاق‌ سَبُعِيّة‌، وطباع‌ حوشيّة‌ وغرائز وحشيّة‌ وكذلك‌ الغالب‌ علی أهل‌ الزهادة‌ وأرباب‌ الوعظ‌ والتذكير ورفض‌ الدنيا أن‌ يكونوا ذوي‌ انقباض‌ في‌ الاخلاق‌ وعبوس‌ في‌ الوجوه‌، ونفار من‌ الناس‌ واستيحاش‌ وأميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ كان‌ أشجع‌ الناس‌ وأعظمهم‌ إراقة‌ للدم‌ في‌ سبيل‌ الله‌، وأزهد الناس‌ وأبعدهم‌ عن‌ ملاذّ الدنيا، وأكثرهم‌ وعظاً وتذكيراً بأيّام‌ الله‌ ومَثلاته‌، وأشدّهم‌ اجتهاداً في‌ العبادة‌ وآداباً لنفسه‌ في‌ المعاملة‌. وكان‌ مع‌ ذلك‌ ألطف‌ العالَم‌ أخلاقاً، وأسفرهم‌ وجهاً، وأكثرهم‌ بشراً وأوفاهم‌ هشاشة‌، وأبعدهم‌ عن‌ انقباض‌ موحش‌، أو خُلُق‌ نافر، أو تجهّم‌ مباعد. أوغِلظة‌ وفظاظة‌ تنفر معهما نفس‌، أو يتكدّر معهما قلب‌.

حتّى‌ عيب‌ (بالدُّعابة‌)، ولمّا لم‌ يجدوا فيه‌ مغمزاً ولا مطعناً تعلّقوا بها واعتمدوا في‌ التنفير عنه‌ عليها (وقالوا…. لانّ عليّاً يمزح‌ فهو لا يصلح‌ للخلافة‌). وتلك‌ شكاةٌ ظاهرٌ عنك‌ عارُها وهذا من‌ عجائبه‌ وغرائبه‌ اللطيفة‌.

 ومنها: أنّ الغالب‌ علی شرفاء الناس‌ ومن‌ هو من‌ أهل‌ بيت‌ السيادة‌ والرئاسة‌ أن‌ يكون‌ ذا كِبرٍ وتيهٍ وتعظّم‌ وتغطرُس‌، خصوصاً إذا أُضيف‌ إلی‌ شرفه‌ من‌ جهة‌ النسب‌ شرفه‌ من‌ جهات‌ أُخرى‌.

وكان‌ أمير المؤمنين‌ عليه ‌السلام‌ في‌ مُصاص‌ الشرف‌ ومعدنه‌ ومعانيه‌، لا يشكّ عدو ولا صديق‌ أنّه‌ أشرف‌ خلق‌ الله‌ نسباً بعد ابن‌ عمّه‌ صلوات‌ الله‌ عليه‌.

وقد حصل‌ له‌ هذا الشرف‌ ـ غير شرف‌ النسب‌ ـ من‌ جهات‌ كثيرة‌ متعدّدة‌، قد ذكرنا بعضها ومع‌ ذلك‌ فكان‌ أشدّ الناس‌ تواضعاً لصغير وكبير، وألینهم‌ عريكة‌ وأسمحهم‌ خلقاً، وأبعدهم‌ عن‌ الكِبر، وأعرفهم‌ بحقّ.

 وكانت‌ حاله‌ هذه‌ في‌ كلا زمانيه‌: زمان‌ خلافته‌، والزمان‌ الذي‌ قبله‌. لم‌ تغيّره‌ الإ مرة‌ ولا أحالت‌ خُلُقَه‌ الرئاسة‌.

وكيف‌ تحيل‌ الرئاسة‌ خُلُقَه‌ ومازال‌ رئيساً ! وكيف‌ تغيّر الإمرة‌ سجيّته‌ وما برح‌ أميراً ! لم‌ يستفد بالخلافة‌ شرفاً، ولا اكتسب‌ بها زينة‌، بل‌ هو كما قال‌ أبوعبد الله‌ أحمد بن‌ حنبل‌.

 ذكر ذلك‌ الشيخ‌ أبوالفرج‌ عبد الرحمن‌ بن‌ عليّ بن‌ الجَوزيّ في‌ تاريخه‌ المعروف‌ (بالمنتظم‌) : تذاكروا عند أحمد بن‌ حنبل‌ خلافة‌ أبي‌ بكر وعليّ، وقالوا فأكثروا، فرفع‌ رأسه‌ إلیهم‌، وقال‌: قد أكثرتم‌! إِنَّ عَلِيّاً لَمْ تَزِنْهُ الْخِلافَةُ؛ وَلَكِنَّهُ زَانَها.

وهذا الكلام‌ دالٌّ بفحواه‌ ومفهومه‌ علی أنّ غيره‌ ازدان‌ بالخلافة‌ وتمّمت‌ نقيصته‌، وأنّ عليّاً عليه‌ السلام‌ لم‌ يكن‌ فيه‌ نقص‌ يحتاج‌ إلی‌ أن‌ يتمّم‌ بالخلافة‌؛ وكانت‌ الخلافة‌ ذات‌ نقص‌ في‌ نفسها فتمّ نقصها بولايته‌ إيّاها.

 ومنها: أنّ الغالب‌ علی ذوي‌ الشجاعة‌ وقتل‌ الانفس‌ وإراقة‌ الدماء أن‌ يكونوا قليلي‌ الصفح‌، بعيدي‌ العفو، لانّ أكبادهم‌ واغرة‌، وقلوبهم‌ ملتهبة‌، والقوّة‌ الغضبيّة‌ عندهم‌ شديدة‌، وقد علمتَ حالَ أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ كثرة‌ إراقة‌ الدم‌ وما عنده‌ من‌ الحلم‌ والصفح‌، ومغالبة‌ هوى‌ النفس‌، وقد رأيتَ فعله‌ يوم‌ الجمل‌. [٢]

 ولقد أحسن‌ (مهيار)  في‌ قوله‌:

 حَتّى‌ إِذا دَارَت‌ رَحَي‌ بَغْيِهِمْ ***** عَلَيْهِم‌ وسَبَقَ السَّيْفُ العَذَلْ

 عَاذُوا بِعَفوماجِدٍ مُعَوَّدٍ ***** لِلْعَفْو حَمَّالٍ لَهُم‌ علی العِلَلْ

 فَنَجَّتِ البُقْيَا عَلَيْهِم‌ مَن‌ نَجَا ***** وأَكَلَ الحَديدُ مِنْهُمْ مَنْ أَكَلْ

 أَطَّتْ بِهِمْ أَرْحَامُهُمْ فَلَمْ يُطِعْ ***** ثائرَةُ الْغَيْظِ ولَمْ يَشْفِ الغُلَلْ

 ومنها: أنّا ما رأينا شجاعاً كان‌ جواداً وسخيّاً  قطّ.

كان‌ عبد الله‌ بن‌ الزبير شجاعاً وكان‌ أبخل‌ الناس‌.

وكان‌ الزبير أبوه‌ شجاعاً وكان‌ شحيحاً قال‌ له‌ عمر: لو وُلِّيتها، لظلتَ تُلاطِمُ الناس‌ في‌ البطحاء علی الصاع‌ والمُدّ.

وأراد عليّ عليه‌ السلام‌ أن‌ يحجُر علی ابن‌ اخيه‌ عبد الله‌ بن‌ جعفر لتبذيره‌ المال‌، فاحتال‌ لنفسه‌، فشارك‌ الزبير في‌ أمواله‌ وتجاراته‌؛

 فقال‌ عليه‌ السلام‌: أما إنـّه‌ قد لاذ بملاذ، ولم‌ يحجُر عليه‌.

وكان‌ طلحة‌ شجاعاً وكان‌ شحيحاً، أمسك‌ عن‌ الإنفاق‌ حتّى‌ خلّف‌ من‌ الاموال‌ ما لا يأتي‌ عليه‌ الحصر.

وكان‌ عبدالملك‌ شجاعاً وكان‌ شحيحاً، يُضرَب‌ به‌ المثل‌ في‌ الشحّ، وسمّي‌: رَشْحُ الحُجْر، لبخله‌. جلّ معناك‌ أن‌ يحيط‌ بك‌ الشعر!

 وقد علمتَ حالَ أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في ‌الشجاعة‌ والسخاء، كيف‌ هي‌! وهذا من‌ أعاجيبه‌ أيضاً عليه‌ السلام‌. [٣]

وقد ذكر هذا المعنى‌ الاديب‌ الشاعر الشيخ‌ صفّي‌ الدّين‌ عبد العزيز بن‌ سِرايا الحلّيّ، فقال‌:

 جُمِعَتْ فِي‌ صِفَاتِكَ الاضدادُ ***** فَلِهـذا عَزَّتْ لَكَ الاندادُ

 زَاهِدٌ حَاكِمٌ حَلِيمٌ شُجَاعٌ ***** فَاتِكٌ نَاسِكٌ فَقيرٌ جَوادُ

 شِيمٌ ماجُمِعنَ فِي‌ بِشَرٍقَطْ ***** ولاَ حازَ مِثْلَهُنَّ الْعِبادُ

 خُلُقٌ يُخجِلُ النَّسِيمَ مِن‌ اللُّطْفِ ***** وَبَأسٌ يَذُوبُ مِنْهُ الجَمادُ

 ظَهَرَتْ مِنَكَ فِي‌ الوَريَ مَكرُمَاتٌ ***** فَأقَرَّتُ بِفَضْلِكَ الحُسَّادُ

 إن‌ يُكَّذِبُ بِهَا عَداكَ فَقَدْ ***** كَذَّبَ مِن‌ قَبْلُ قَوْمُ لُوطٍ وعادُ

 جَلَّ مَعْناكَ أَن‌ يُحيطَ بِهِ الشِّعْرُ ***** ويُحصِي‌ صِفَاتِكَ النُّقَّادُ [٤]

 يقول‌ القاضي‌ نور الله‌ الشوشتريّ بعد نقل‌ هذه‌ الابيات‌: إنّ جمع‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ للصفات‌ المتضادّة‌ هو علی أساس‌ التشبّه‌ بالله‌ تعالى‌ في‌ سعة‌ الكمال‌ وإحاطته‌ التي‌ هي‌ غير منحصرة‌ بطرف‌ من‌ الاضداد وغير مقيّدة‌ بجانب‌ من‌ الجوانب‌، بل‌ هي‌ مقتضى‌ تلاحم‌ الاطراف‌ وجامعيّة‌ الاضداد، لانّ المقرّر عند أهل‌ التحقيق‌ هو أنّ كمال‌ كلّ صفة‌ يتّضح‌ عندما تكون‌ تلك‌ الصفة‌ متلاحمة‌ ومتشابكة‌ مع‌ ضدّها، كما يلاحظ‌ ذلك‌ في‌ عقد فرائد الاسماء الحسنى‌: (وهُو الاْوَّلُ والاْخِرُ وَالظَّـاهِرُ وَالْبَاطِنُ).

 إذَن‌، يمكن‌ وصف‌ الله‌ تعالى‌ والمتشبّهين‌ به‌ في‌ صفات‌ الكمال‌ بالصفات‌ المتقابلة‌ لاعتبارات‌ متنوّعة‌، ولا ينحصر في‌ واحدة‌ منها.

———————————————————————–
[١] . شرح‌ نهج‌ البلاغة‌ لابن‌ أبي‌ الحديد ذات‌ الاربعة‌ مجلّدات‌ ج‌ ١، ص‌ ١٦.
[٢] . عفا أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ عن‌ عائشة‌، ومع‌ الحقد الشديد الذي‌ كانت‌ تكنّه‌ في‌ قلبها ضدّه‌، فقد عفا عنها، قال‌ في‌ نهج‌ البلاغة‌ : وأمّا فُلانة‌  عائشة‌  فأدركها رأي‌ النساء إلخ‌ . نهج‌ البلاغة‌ ج‌ ١، ص‌ ٢٨٣ تعليق‌ الشيخ‌ محمّد عبدة‌  وعفا عن‌ مروان‌ بن‌ الحكم‌ وصفح‌ عنه‌ أيضاً، مع‌ أنـّه‌ ذكر غدره‌ ومكره‌ عند عفوه‌ عنه‌، (نهج‌ البلاغة‌ ج‌ ١، ص‌ ١٢٣) .
[٣] . شرح‌ نهج‌ البلاغة‌ لابن‌ أبن‌ الحديد ج‌ ١، ص‌ ١٦ وص‌ ١٧.
[٤] . مجالس‌ المؤمنين‌ ص‌ ٤٩٣؛ وسفينة‌ البحار ج‌ ١، ص‌ ٤٣٧. كان‌ الشاعر الشيخ‌ صفي‌ الدين‌ تلميذاً للمحقّق‌ الحلّيّ، وصحبه‌ الشيخ‌ مجد الدين‌ الفيروزآباديّ الشافعيّ، الذي‌ كان‌ من‌ أكابر المحدّثين‌، ومن‌ المتأخّرين‌.

منقول (بتصرف) من كتاب معرفة الامام المجلد الثاني – العلامة ‌السيد محمد حسين‌ الحسيني الطهراني (قدّس سرّه)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى