أيام الله
“يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾1
إنّ الأيام كلّها لله تعالى، فما معنى أن تستند بعض الأيام إليه؟
إنّ هذا يشير إلى خصوصية في تلك الأيام، كخصوصية شهر رمضان الذي سمَّاه رسول الله: “شهر الله”.
فما هي تلك الأيام لنتعرف من خلال تحديدها على تلك الخصوصية؟
إنّ الله تعالى يطلب في الآية السابقة من كليمه موسى (عليه السلام) أن يذكّر قومه بتلك الأيام، ونحن نقرأ في آية أخرى تذكير موسى (عليه السلام) لقومه بأيامٍ مخصوصة، إذ يقول الله تعالى: “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ”2.
إنه تذكير بأيام تبدأ في كلام نبي الله موسى (عليه السلام) بيوم النصر والتدخل الإلهي لنجاة بني اسرائيل، وتستمر في الأيام التي سبقت النصر وهي أيام المأساة حينما كانت الأبناء تُذبح والنساء تُبقى حية لتكون إماء لآل فرعون.
وهذا التذكير لم ينحصر في نبي الله موسى (عليه السلام) بل تكرّر في تذكير الله تعالى لأمّة رسول محمد (صلى الله عليه وآله) إذ يقول تعالى للمسلمين: “وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”3.
إنّه تذكير أيضاً بأيام نصر سبقتها أيام مأساة تتمثّل بقلّة العدد واستضعاف المسلمين من قبل الناس.
من هنا فإنّ أيام الله هي أيام النصر التي سبقتها أيام معاناة.
إنه تذكير بالماضي لأخذ العبرة منه للحاضر والمستقبل.
واليوم الخامس والعشرون من شهر أيار هو يوم من أيام الله. وهو يوم انتصار الدم على السيف، والعين على المخرز، والمقاومة على الاحتلال بعدما سبقته أيام مأساة وضيق واستضعاف، نستذكر بعضاً منها.
الاحتلال الفرنسي
زالت الدولة العثمانية التي عانى في حكمها أهلنا معاناة قاسية وجاء الاحتلال الفرنسي الذي سيطر بعسكره على الأرض وأراد أن يغيّر النفوس والعقول.
أدرك العلماء ونخبة المجتمع الواعية خطر الاحتلال، فكانت المقاومة بقيادة الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين الذي وقف في وادي الحجير عام 1920 خطيباً، يقول: “إخواني أعلام الأمة، اننا اليوم في هذا المفترق الخطير أشدّ حاجة من أيّ وقتٍ الى الاعتصام بحبلهم (أيّ حبل النبيّ وآله) والسير على نهجهم، فإما عزّة لا تفصم، أو ذلّة لا تُرحم”.
إما حياة حرّة، أو هوان تهدر في حياته إنسانية الإنسان، إما استقلال دون وصاية، أو استعباد نكون فيه كالأيتام على مأدبة اللئام (وخاطب المقاومين قائلاً): “أيها الفرسان المناجيد… وقد امتدت إليكم الأعناق وشخصت إليكم الأبصار، فانظروا ما أنتم اليوم فاعلون….”
ودعا رضوان الله تعالى عليه إلى الوحدة الوطنية، كقاعدة في عمل المقاومة قائلاً للمجاهدين وبينهم أدهم خنجر وصادق حمزة: “يا فتيان الحمية المغاوير، الدين النصحية! ألا أدلكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم، فوِّتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، وأخمدو بالصبر الجميل فتنته؛ فإنه والله ما استعدى فريقاً على فريق إلا ليثير الفتنة الطائفية، ويشعل الحرب الأهلية”.
الاحتلال الصهيوني
انسحب الفرنسيون بعسكرهم مبقين على احتلال من نوع آخر هو احتلال ثقافي ناعم أرادوا من خلاله تغيير القيم، وبالتالي تغيير الإنسان عبر مشروع أُريد للمنطقة يقوده احتلال عسكري صهيوني لفلسطين. وقد حذّر قائد المقاومة وقتها من هذين الاحتلالين، ودعا إلى الوقوف بوجههما ومقاومتهما، فقال: “ألا ان الاستعمار الغربي يغزونا في عقر دارنا معتدياً غاشماً، ألا ومن مات دون حفرة من تراب وطنه مات شهيداً.”
“تنمّر الصهيونية يتحدّى رسالة القرآن، انبعثوا على بركة الله بذات محمد.”
“أيّها العرب، أيّها المسلمون، لقد حمّ الأجل وموعدنا فلسطين، على أرضها نحيا، وفيها نموت، والسلام عليكم يوم تموتون شهداء، ويوم تبعثون أحياء”.
لقد أراد الإمام شرف الدين أن يركّز بوصلة الأمّة نحو العدو الأساس الحقيقي وهو العدو الاسرائيلي.
الحرب الناعمة
كما عمل جاهداً في مواجهة الحرب الثقافية الناعمة التي امتدت إلى دائرة واسعة من الجيل الجديد، لا سيّما في ظلّ ثنائية النفوذ العالمي بين أمريكا والاتحاد السوفياتي السابق، والتي أصبح خلالها مجتمعنا لوقت طويل بين مطرقة العدو الصهيوني، وطروحات فكرية وقيمية أبعدت شريحة واسعة من ذلك الجيل عن الإسلام والتديّن.
وقد جاءت هذه الطروحات من الخارج بأفكار تقدّمية جاذبة للشباب، ومن الداخل عبر تحريف لتاريخ لبنان غاب عنه المقاومون الشرفاء بل ذكر تعرّض ذلك التاريخ المدوَّن لقادة من هؤلاء كزعماء لصوص.
حضور الإمام موسى الصدر
إن شباب ذلك الجيل لم يقرأ تاريخاً صحيحاً يستنهضه، ولم يرَ واقعاً يلائم تطلّعاته إلى أن حصل في مجمتعنا حدث هام تمثّل في الحضور السياسي والقيادي لوريث الإمام شرف الدين وهو الإمام السيد موسى الصدر الذي رفع عنوانين أساسيين: مقاومة الاحتلال.. ورفع الحرمان.
لقد ركّز الإمام الصدر على توجيه البوصلة نحو العدو الحقيقي وهو الاحتلال الصهيوني الغاصب فكان نداؤه لشبان مجتمعنا: “إنني لا أعترف بالحسينية إلا إذا خرّجت أبطالاً يقاتلون العدو الإسرائيلي في الجنوب”4.
وأعلن بوضوح:
” أنّ اسرائيل شرٌّ مطلق، وخطر على العرب مسلمين ومسيحيين، وعلى الحرية والكرامة”5.
“يجب إزالة إسرائيل من الوجود؛ لأن وجودها عنصر عدواني يخالف المسيرة الإنسانية”6
“واسرائيل دماغ الشرور في العالم”7
وعلى مشارف حدث ضخم في العالم، طالت المؤامرة الإمام الصدر، فغيّبته قبيل أشهر من قيام الثورة التي غيّرت وجه المنطقة بل العالم، إنها الثورة الإلهية التي قادها الإمام الخميني (قده) في إيران، التي كان يرى أنّها المدخل لتغيير أوضاع العالم الإسلامي، بل مجتمع المستضعفين في العالم، لذا كان جواب الإمام الخميني (قده) لمن يسأله عن مساعدة لبنان: “يجب أن يسقط الشاه” ومع ثورة الإمام الخميني (قده) كانت بداية الصفحة الجديدة لمجتمعنا اللبناني.
المقامة الإسلامية
لقد حدّد الإمام الخميني (ره) تكليف المؤمنين في لبنان ألا وهو مقاتلة العدو الإسرائيلي لتحرير الأرض والإنسان وفق منهج قرآني أصيل لم يقم على مقارنة بين العدو والعتاد لمنح شرعية المقاومة، بل قام على تصميمٍ لامتثال التكليف الشرعي ونصرة الله تعالى يستنزل المدد الإلهي والنصر الربّاني.
قامت المقاومة في مجتمع لا يؤمن الكثير منه بواقعيتها ومبادئها، لكّنها انصاعت للتكليف والنصرة، وبعد خمس سنوات على انطلاقتها أي في العام 1987 ورغم بقاء قلّتها في العدد والعتاد كان الإمام الخميني (قده) مستبشراً معتبراً إياها صانعة التحوّل في المنهج فضلاً عن كونها صانعة الانتصار.
فقال(قده): “إن جهاد حزب الله في لبنان حجّة على علماء الأمة في العالم”.
لم يُفهم كلام الإمام الخميني (ره) في ذلك الحين لكنّه فُهم في 25 أيار عام 2000م الذي أثبتت فيه المقاومة أطروحة انتصار الإيمان المُستنزل بمدد الله تعالى على الكفر والضلال مهما كانت الفوارق في العدد والعتاد.
إنه يوم من أيام الله التي ينبغي أن نتذكّره ونستذكر الأيام التي سبقتها وذكرهم بأيام الله.
ذكِّرهم بيوم النصر الذي اسودّت فيه وجوه الصهاينة وتلألأت فيه وجوه الغرّ المحجّلين المقتدين بقائدهم فاتح باب خيبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ذكِّرهم بأيام سبقته:
بأيام الوقوف بذلّ أمام الحواجز.
بأيام تُسجن فيه النساء وتعذّب.
بأيام مجازر قانا والمنصورية والنبطية.
ذكِّرهم بأيام الله لنحافظ على قوّتنا في ظلّ مجتمع لا يحترم إلا القويّ.
ذكِّرهم بأيام الله لنحافظ على وحدتنا التي هي أساس الانتصار.
ذكِّرهم بأيام الله لنحافظ على النعمة بشكرها من خلال إيماننا بالله تعالى وطاعته.
ذكِّرهم بأيام الله لنكون الجيل الذي يحقّق إرادة الله ويمهّد لدولة العدل الإلهي بقيادة صاحب يوم الله الأكبر الإمام المهدي (عج)
سماحة الشيخ أكرم بركات
1- سورة ابراهيم الآية 5.
2- سورة ابراهيم، الآية 6.
3-الانفال 26.
4- الكلمات القصار، ص 110.
5- المرجع السابق ص 268.
6- المرجع السابق ص 269.
7- المرجع السابق، ص 265.