وليد الكعبة
و اجتمعت قريشٌ حول البيت الحرام ، وكان اجتماعها هذه المرة حافلاً شاملاً ، فقد حضره حتى الشبان ، وحتى الصبيان ، وحتى بعض النساء والولائد ، وكان الحديث همساً أو ما يُشبه الهمس ، وكانت الأبصار شاخصة نحو البيت ، ونحو باب البيت على الخصوص .
إن باب البيت لا يزال موصداً ، لم ينفتح يَبْعدُ عن السر الذي يحتويه .
أتراه ينفتح من تلقاء ذاته كما أوصد من تلقاء ذاته على فاطمة بنت أسد بن هاشم منذ ثلاثة أيام ، أم يبقى موصداً عليها إلى الأبد؟ .
لقد احتجبت فاطمة في الكعبة ، و أوصد رب البيت عليها باب البيت ، حتى أعيى أمر فتحه على السّدَنة ، وعلى الأشدّاء الأذكياء من بني هاشم وبني مخزوم .
أوصد الباب فلم يملك أحدٌ فتحه ، وإذن ففي الأمر سرّ لعله ينكشف بعد قليل . .
وأبو طالب مطرق متأمّل ، يستعرض الحادثة الغريبة ، ويسير أغوارها ، ويقلّب وجوهها . .
فاطمة في جوف الكعبة منذ ثلاثة أيام ، فهي في حاجة إلى الإغاثة ، ولكن كيف الوصول إليها و كيف السبيل ؟ . .
وفاطمة حامل مقرب ، فهي في ضرورة إلى نساء يسعدنها ، ويَلين من أمرها ، ولكن ما الحيلة ؟ .
لقد سدّ باب الكعبة عليها فأعدا على الفاتحين .
هل يشاء ربّ البيت أن تضع فاطمة وليدها في البيت ؟!
إن كانت هذه مشيئته فيا للعناية الكبيرة ، ويا للشرفُ العظيم! .
أم يشاء غير ذلك ؟ . . فله المشيئة والأمر ، وليس لنا إلاّ الخضوع والتسليم . .
مطرق متأمل . . وحوله أفيال قريش وأسياد هاشم ، مطرقون ، ومتأملون . . ينظرون ، وينتظرون . .
ومحمد بن عبد الله يطوف بالبيت ، باسم الثغر ، متهلّل الوجه ، مشرق الأسارير . . ينظر مالا ينظره الجميع ، ويأمل مالا يأملون ، ويفكر في مالا يفكرون!! . . . وانفتح الباب . .
وخرجت فاطمة بنت أسد بن هاشم تحمل على ذراعها وليدها الميمون .
وازدحم الناس يهنّئون فاطمة السلامة ، ويباركون أبا طالب بالوليد ، ويتوسّمون في وجه الوليد شمائل العظمة ، وسمات البطولة ، ودلائل الخير.
واستقبل محمد علياً
واستقبل محمد (صلى الله عليه و آله) علياً (عليه السلام) ، وابتسم النبيّ ، وابتسم الوصيّ ، وابتسم الكون ، والتقت الشفاه الكريمة في قبلة حبيبة . .
نعم ، في فناء الله وفي ظلّ بيته كان لقاؤهما الأول . . ها هنا . .
وفي فناء الله وفي ظل عرشه كان لقاؤهما القديم . .
واحتمل محمد علياً بكلتا يديه ، ورفعه عالياً عالياً يحيّي به الوجود .
وما أسعد الوجود في هذا اليوم ، يستقبل هذه البشرى العظيمة من فم هذا البشير العظيم !! .
رفعه عالياً بيديه ليُري العالمين صنوه يوم ميلاده ، وسيرفعُه عالياً بيديه كذلك ليري العالمين وصيّه يوم استخلافه !! .
وأطلت شعاب مكة ، وهضباتها ، ومشاعرها ، ومواقفها لتبصر كيف اقترن السعد بالسعد ، وكيف اتّحد النور بالنور ، ومحمد قائم على مرقاة الحطيم ، وعلي مائل بين كفّي الرسول ، يبسمان لبعضهما البعض .
إذن فقد اقترب اليوم ، وأشرف العهد، يوم رسالة الحياة، وعهد تبديد الظلمات.
نعم ، لقد اقترب اليوم ، وأشرف العهد ، فليهنأ محمد ، وليبارك علي ، وليسعد شيخ البطحاء بالوليد ، وليُضِف مجداً طارقاً إلى مجد تليد .
لقد اقترب الوعد ، وستكون هذه الهضاب ، وهذه الشعاب ، وهذا البيت مشرق النور ، ومبعث الدعوة ، ومهبط الوحي ، ومصدر الوعي ، فلينتظر العالم ، وليستمع الكون ، ولتزدهِ الحياة . .
ودعوة محمد (صلى الله عليه و آله) مفتقرة منذ يومها الأول إلى ساعد شديد يحمل السيف ، وكفّ قويّ يرفع اللواء .
وماذا يصنع الحق إذا أراد الباطل أن يكمّ فمه حتى لا يجهر بدعوة ، وأن يأخذ عليه سبيله حتى لا يبلغ إلى غاية ؟ .
. . إذا أراد الباطل أن يُوقر الآذان ، ويبلبل الأذهان ، فلا يلقى الدعوة الله سمع ، ولا تنفذ إلى قلب . .
. .اذ أراد الباطل أن يوبئ التربة ، حتّى لا تنمو فيها بذرة ، ولا تخرج منها ثمرة .
ماذا يصنع الحقّ إزاء ذلك إلاّ أن يعتمد العلاجات الحاسمة التي تستأصل الطفيليات ، وتبيد الجراثيم ؟! .
هكذا . . نعم هكذا ، لابدّ للحق من قوّة يدافع بها عن نفسه ، ويناضل بها عن غايته، ولابدّ لمحمد (صلى الله عليه و آله) من عليّ، يشدّ أزره، ويشاركه أمره، ومن أجل ذلك تأخرت دعوة الرسول ثلاثين عاماً جتى ولد ، ثم تأخّرت بعد ذلك عشرة أعوام حتى نشط.
المسلم الأول
وبُعث محمد بالرسالة ، فكان عليّ أول من صدّق وأوّل من آزر ، وأول من صلّى ، وأول من اقترب ، ولا أستحب أن أقول ما يقوله بعض علماء الحديث وبعض علماء التأريخ : عليّ أول من أسلم.
إن علياً لم يكفر في يوم من الأيام ليقال فيه : علي أول من أسلم.
وكأن علم الحديث ، أو علم التاريخ ، إنما يحاول أن يقول معي : علي هو المسلم الأول ، وفارق كبير بين معنى هاتين الكلمتين.
علي هو المسلم الأول ، بمعنى أنه الذي لم يسبقهُ الى دين الله أحد ممن سبق.
وعلي هو المسلم الأول ، بمعنى أنه الذي لم يضارعه في تطبيق مناهج الله أحد ممن أطاع.
وعلي هو المسلم الأول ؛ بمعنى ، أنه الذي لم يدرك مداه في الاسلام لوجه الله أحد ممن أسلم.
علي هو المسلم الأول بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، وبكل ما ترمز إليه من فضل ، وكل ما تشير إليه من غاية ، فهو السابق إلى كل مكرمة ، والمستأثر بكل منقبة ، و الإسلام مجمع كل أولئك الفضائل.
نعم ، بُعث محمد بدين الحق ، وأنزلت معه شريعة الهدى ، ووضعت أنظمة الحياة ، ووجّه الإنسان بهدى ذلك الدين ، وبرشد تلك النظم الى كماله الأعلى ، واصطفي محمد رسولاً يبلّغ ديناً ، وزعيماً يبني مجتمعاً ويؤسس دولة ويقيم عدلاً ، ومؤدباً يصوغ ضمائر وقلوباً وأخلاقاً ، وقدوة حبيبة تقتدي الناس بأفعاله ، وتصوغ أنفسها على مثاله .
واستخلف محمد علياً على عهده ، وأحلّه منزلته ، واستودعه أمانته ، وحمّله أعباءه ، وأقامه مثالاً صادقاً له ، ولساناً ناطقاً عنه ، وبرهاناً منيراً لدعوته ، يقتدي به المسلمون في كل عمل ، ويفزعون إليه في الملمة ، ويستضيئون برشده في الحيرة ، وفي كل صغيرة وكبيرة .
واستخلف محمد (صلى الله عليه و آله) و علي (عليه السلام) أبناءهما الميامين (عليهم السلام) هادياً بعد هاد ، ونوراً بعد نور ، وصادقاً بعد صادق ، امثلة شاخصة للعدل ، وأدلّة معصومة للحق ، وبراهين نيّرة للإسلام ، وحفظة مأمونة للكتاب .
كانت كل هذه التهيئة لمبدأ الحق . . لمبدأ الإسلام ، ولنشر معالمه ، وبسط سلطانه ، ومدّ نفوذه.
ماذا قَبَسنا من الهدى الإلهي
وجئنا نحن في الأعقاب . .
جئنا بعد كل هذه التهيئة ، وكل هذا الإعداد ، وبعد أن أقام الله لنا اثني عشر دليلاً معصوماً بعد رسوله العظيم ترشدنا إلى دينه القويم . .
فماذا أفدنا من هذا الإعداد ؟.
وماذا قبسنا من هذه الأنوار ؟.
وما هي حصيلتنا من هذه الجهود ومن هذا الجهاد ؟.
نعم ، ما هي حصيلتنا نحن ، فنحن المعنيّون ، ونحن المخاطبون ونحن المسؤولون.
أكلّ حصيلتنا أننا أصبحنا إمّعة تتلاقفنا المبادئ ، وترّفنا الأهواء ؟! .
تتلاقفنا المبادئ الكافرة ، وتصرفنا الأهواء الحائرة !
ما بهذا بُعث محمد (صلى الله عليه و آله) ، وما لهذا جاهد علي (عليه السلام) ، وما لهذا ناضل أبناؤهما المعصومون ( عليه السلام ) ودعاة الحق أجمعون.
فهل لنا أن نقف عند حدودنا فنعترف بأننا ظالمون ؟.
لقد كرّمنا الله كرامة ليس فوقها من مزيد لمّا ارتضى لنا أفضل أديانه ، وهدانا أشرف سبله ، واختصّنا بسيّد رسله وبأعظم كتبه ، وميّزنا بسادات أوصيائه وخلفائه.
لقد كرّمنا الله بهذه الخيرة لنا كرامة ليس فوقها من مزيد ، فما بالنا لا نرى أنفسنا أهلاً لهذا التكريم ؟! .
ولماذا نستبدل بالرفعة هواناً و بالسعادة شقاءاً و خساراً .
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ 1.
آن لنا أن نقف لنصلح أخطاءنا ، ونتلافى ما فاتنا ، و نصحّح باتباع رسالته ما فسد من أوضاعنا وأعمالنا ، ثم نحمل دعوة الله نبلّغها من حولنا من الأمم.
إن الأمم ممن حولنا تنتظر دعوة الله التي حمّلنا محمد (صلى الله عليه و آله) أعباءها ، وأوضح لنا عليّ ( عليه السلام ) مناهجها ، وأبان لنا المعصومون من أبناء علي ( عليه السلام ) أسرارها ، إنهم ينتظرون هذه الدعوة المنقذة المشرقة تصل إليهم من أفواهنا و بأقلامنا و أعمالنا : ﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 2.
صدق الله العظيم 3.
- 1. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 185 ، الصفحة : 74 .
- 2. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 105 ، الصفحة : 203 .
- 3. كتاب : من أشعة القرآن القسم الثالث للشيخ محمد أمين زين الدين : العنوان رقم (22) .