كان الإنسان في الماضي قلّما يجد له متسعاً من الوقت، فهو دائم العمل والشغل في سبيل تأمين لقمة العيش، إذ كان يبدأ العمل من الصباح الباكر ولا يعود إلى المنزل إلا عند حلول المغرب، وكان يستريح قليلاً ثم يتناول ما تيسر من الأكل لينام بعدها ثم يجلس عند حلول الفجر أو قبله، إذ لا كهرباء ولا تليفزيون ولا كومبيوتر ولا إنترنت ولا أي شيء آخر مشجع للسهر!
واليوم حيث حلت الميكنة والآلة محل الإنسان في جوانب كثيرة من الحياة، وحيث العمل محدد بساعات معينة، وأيام العطل كثيرة ومتنوعة، ففي كل أسبوع يوم أو يومان، بالإضافة إلى عطلات الأعياد والمناسبات، والإجازات المرضية والاضطرارية وغيرها؛ أصبح لدى الشباب المزيد من الفراغ، والمزيد من الوقت غير المبرمج بعمل محدد.
وفي مثل هذه الحالة فإن الشاب المجد في حياته يبذل قصارى جهده في استثمار فراغه فيما يفيد جسمه وعقله وروحه. أما الشاب الذي لا يعرف هدفه في الحياة فإنه يعتبر الفراغ فرصة ذهبية للمزيد من النوم والكسل، أو اللعب فيما لا يفيد، أو الجلوس في الطرقات والشوارع، أو الذهاب إلى الأسواق بلا حاجة، أو مشاهدة التلفاز بدون توقف، أو المعاكسة من خلال الهاتف والإنترنت.
والفراغ عندما يستثمر ويوظف في العمل والإنتاج والنشاط، فإن نتائجه كثيرة ومتنوعة على الفرد والمجتمع والأمة، أما عندما يهدر وقت الفراغ فيما لا فائدة فيه، فإنه يتحول إلى معول هدم ودمار وفساد؛ ولذلك نجد أن أكثر الذين ينحرفون من الشباب هم الذين يقضون أوقات فراغهم في اللهو واللغو والعبث!
ويرى الكثير من الباحثين أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الفراغ وانحراف الأحداث والشباب، إذ أن الشاب عندما يشعر بالفراغ ولا يمتلك الإرادة أو التفكير في استثمار الفراغ وتوظيفه فيما يفيد، فإنه بذلك يتحول إلى نقمة على الفرد والمجتمع معاً.
ولو ألقينا نظرة على التعاليم الدينية لرأينا أنها تحث على استثمار كل لحظة ودقيقة من الزمن وتوظيفها في العمل الصالح، يقول تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ 1، ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدر له، فبادروا قبل نفاد الأجل” 2.
ويحذر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من افتتان الإنسان بالصحة والفراغ، حيث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): “خلتان كثير من الناس فيهما مفتون: الصحة والفراغ” 3، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: “إن اللَّه يُبْغِضُ الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة” 4.
والفراغ السلبي أحد أسباب الفساد، يقول الإمام علي (عليه السلام): “إن يكن الشغل مجهدة فاتصال الفراغ مفسدة” 5، وعنه (عليه السلام) قال: “من الفراغ تكون الصَّبوة” 6، وعنه (عليه السلام) أيضاً: “اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فَرْغَتُهُ عليه حسرة يوم القيامة” 7.
وللأسف الشديد فالكثير من الشباب لا يتعامل مع الفراغ بصورة إيجابية، فلو ألقينا نظرة فاحصة على كيفية قضاء الشباب لأوقاتهم لاستنتجنا ما يلي: ثمان ساعات للنوم وربما أكثر، أربع ساعات لمشاهدة التليفزيون، ثلاث ساعات للأكل والشرب، ساعتان للتجوال والنزهة، ساعة واحدة للمكالمات الهاتفية، ست ساعات للعمل.. هذا هو المعدل المتوسط لقضاء يوم كامل.
ومعدل العمل الحقيقي في الدول النامية -كما تشير الدراسات- لا يتجاوز ساعة واحدة على أفضل تقدير! والمتبقي من وقت العمل يذهب في الأكل والشرب، وقراءة الصحف، والتحدث مع الزملاء، والاتصال بالهاتف، والخروج من دائرة العمل لسبب أو آخر!!
وقد أكدت العديد من الدراسات والاستطلاعات بأن مشاهدة برامج التلفاز ومتابعة الشؤون الرياضية والتجول بالسيارات يأخذ معظم أوقات الفراغ لدى الشباب، في حين أن عادة القراءة والكتابة، أو استثمار أوقات الفراغ في إنجاز الأعمال المفيدة والمنتجة لا تكاد تسجل إلا أرقاماً منخفضة جداً!
ومن هنا، فالشباب مدعوون لإعادة رسم خريطة أوقاتهم، وجدولة أوقات فراغهم فيما يفيد وينفع، بما يتناسب والتطلعات الحضارية، والقدرة على المنافسة في ظل فرص العولمة وتحدياتها 8.
- 1. القران الكريم: سورة الشرح (94)، الآية: 7 و 8، الصفحة: 596.
- 2. ميزان الحكمة، ج6، ص539، رقم 13893.
- 3. ميزان الحكمة، ج7، ص458، رقم 15558.
- 4. ميزان الحكمة، ج7، ص458، رقم 15557.
- 5. ميزان الحكمة، ج7، ص459، رقم 15562.
- 6. ميزان الحكمة، ج7، ص458، رقم 15559.
- 7. ميزان الحكمة، ج7، ص459، رقم 15561.
- 8. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الشيخ عبدالله اليوسف حفظه الله – 12 / 11 / 2010م – 7:57 م.