إن أحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام قد حثت شيعتهم ومواليهم على التودد لأهل السنة وعدم قطيعتهم ، وأكدت على ضرورة التأدب معهم بآداب أهل البيت عليهم السلام مع غيرهم .
ففي صحيحة معاوية بن وهب ، قال : قلت له : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا ؟ قال : تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون كما يصنعون ، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ، ويؤدّون الأمانة إليهم 1 .
وفي صحيحة زيد الشحام ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : اقرأ على من ترى أنه يطيعني ويأخذ بقولي السلام ، وأوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل ، والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله ، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برًّا أو فاجراً ، وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه ، وصدق في حديثه ، وأدَّى الأمانة ، وحسن خلقه مع الناس ، قيل : (هذا جعفري) ، فيسرُّني ذلك ، ويدخل عليَّ منه السرور ، وقيل : (هذا أدَبُ جعفر) ، وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره ، وقيل : هذا أدَبُ جعفر . . 2 .
وفي صحيحة عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا ، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : ﴿ … وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً … ﴾ 3 ، ثم قال : عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم وعليهم ، وصَلُّوا معهم في مساجدهم . . 4 .
وعن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام قال : يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم ، صَلُّوا في مساجدهم ، وعُودوا مرضاهم ، واشهدوا جنايزهم ، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، رحم الله جعفراً ، ما كان أحسن ما يؤدِّب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، فعل الله بجعفر ، ما كان أسوأ ما يؤدِّب أصحابه 5 .
وعن إسحاق بن عمار قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا إسحاق أتصلي معهم في المسجد ؟ قلت : نعم . قال : صلِّ معهم ، فإن المصلّي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله 6 .
وفي خبر آخر ، قال : من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله في الصف الأول 7 .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تصب في هذا المصب .
ومع علم الكثير من الشيعة بهذه الأحاديث ، ورغبتهم الصادقة في مخالطة أهل السنة من أبناء هذا الوطن خصوصاً ، من أجل العمل معاً بما فيه المصلحة العامة للجميع ، ومن أجل إزالة حالة الشحن الطائفي والتعبئة المذهبية الحاصلة بين الشيعة وأهل السنة ، إلا أن حالة من التوجس تنتاب البعض عندما يفكر في الاقتراب من أهل السنة أو الاندماج معهم .
ومع أن المناسبات الرسمية وغيرها التي اقتضت اختلاط الشيعة مع أهل السنة كثيرة ، وكثيراً ـ إن لم يكن دائما ـ ما يسودها جو من الألفة والاحترام المتبادل ، إلا أن هذا الحاجز الذي تراكم عبر السنين لا يزال قوياً ، ويحتاج إلى مبادرة جريئة من الطرفين لكسره .
إن الاحتقان الطائفي الذي حصل بين أتباع المذاهب السنية أنفسهم ، أو بينهم وبين غيرهم من أتباع المذاهب الأخرى لم تكن له أسباب صحيحة ، تبرر صدور بعض الفتاوى التي تحرم الزواج من المرأة الشافعية مثلاً ، أو توجب على ولي الأمر بأن يأخذ الجزية من الشافعية أو من الحنابلة . . . أو ما شاكل هذه الفتاوى التي صارت موضع استهجان وتسخيف من قبل العلماء والمفكرين في العصر الحاضر .
ولعل من أهم أسباب الاحتقان الطائفي الذي حصل بين المذاهب الإسلامية هو عزلة كل طائفة وتقوقعها على نفسها ، وعدم السعي الجاد والحثيث من قبل علماء كل طائفة لفتح قنوات اتصال بينهم وبين أتباع المذاهب الأخرى ، مما سبب نشوء صورة مشوهة لكل مذهب عند المذاهب الأخرى ، جعلت كل طائفة تشحن أتباعها ضد المنتمين إلى الطوائف الأخرى .
ولهذا تمس الحاجة إلى عقد لقاءات متواصلة واجتماعات دورية بين العلماء الذي حملوا على عواتقهم هموم الأمة وتحملوا آلامها ، وتطلعوا إلى تحقيق آمالها ، فإنها كفيلة بتوضيح صورة كل مذهب عند علماء المذاهب الأخرى ، وتذويب الجليد المتراكم فيما بينهم ، وخلق روح من الألفة والمحبة بين كل الطوائف ، وبعث آمال الأمة التي انطمرت تحت أوحال الحقد والكراهية التي كانت تؤجَّج من قبل رجال لا نريد أن نصفهم إلا بأنهم مخطئون في نظراتهم ، ونحن لو سلمنا بأنهم كانوا مصيبين عندما أصدروا تلك الفتاوى ، إلا أن فتاواهم لا تصلح بالضرورة لكل عصر ، ومصلحة الأمة تقتضي اليوم أن تتجاوز كل الطوائف عن خلافاتها الجزئية التي تستنزف طاقاتها ، وتكثف جهودها لمواجهة الأخطار الكثيرة المحدقة بها ، التي تستهدف أعظم مقدساتها ، بالتكالب على الطعن في نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله ، والقدح في شريعته السمحاء .
وأود أن ألفت النظر إلى أن الغاية من عقد تلك اللقاءات هي التعرف على الأطراف الأخرى ، والنظر في القواسم المشتركة والتأكيد عليها ، والغض عن نقاط الخلاف ، وعدم جعل التنازل عنها شرطاً لعقد تلك الاجتماعات أو أساساً للتعاون مع باقي الطوائف في أي مشروع حتى لو كان يصب في مصلحة الأمة .
ولا نهدف من عقد تلك اللقاءات جعلها طريقاً للحوارات المذهبية التي ولج فيها غير أهلها من الجهال والمتعصبين الذين لا يعرفون آليات الحوار وآدابه . والحوارات التي وقعت في شبكة الإنترنت أو في بعض الفضائيات العربية لم تكن حوارات علمية هادفة ، وإنما كانت وسيلة من وسائل تفريق الأمة ، والشحن الطائفي ، وطعن كل طائفة في مبادئ وركائز الطوائف الأخرى .
نسأل الله أن يجمع المسلمين على رضاه ، وأن يجعلهم كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً ، أو كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد ، بالحمى والسهر 8 .
- 1. الكافي ٢ / ٦٣٦ .
- 2. المصدر السابق .
- 3. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 83 ، الصفحة : 12 .
- 4. وسائل الشيعة ٥ / ٣٨٢ .
- 5. من لا يحضره الفقيه 1 / 267 .
- 6. تهذيب الأحكام 3 / 277 .
- 7. من لا يحضره الفقيه 1 / 266 .
- 8. نُشرت هذه المقالة في الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي آل محسن ، كما و نشرتها الرسالة الثقافية في العدد رقم ( 57) لشهر صفر 1429 هـ .