لقد أجمع المؤرخون : على أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد شارك في حفر الخندق.
وتتفق هذه النصوص : على أنها كانت مشاركة فعالة وحقيقية وجدية .
وما نريد أن نلفت النظر إليه هنا هو :
ألف : إن هذه المشاركة لم تكن شكلية ، ومجرد تمثيل ، كما عهدناه وألفناه من رؤساء الجمهوريات والوزراء وكبار المسؤولين في عصرنا الحاضر ، حيث يضرب أحدهم بالمعول مثلاً ضربات أمام الجماهير في احتفال تكريمي ليظهر على شاشات التلفزيون ، وعلى صفحات الجرائد في استعراض إعلامي مزيف ، يهدف إلى تكريس زعامته ونفوذه ، ولا شيء غير ذلك ، ثم يتابع رقابته على العمل والعاملين من موقع الأمر ، من قصره المنيف ، أو من برجه العاجي الزاهر . فجاءت مشاركة النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» في حفر الخندق بصيغة المعاناة الحقيقية والصادقة ، التي تمثل الأسوة في المعاناة الكادحة لا مجرد الرمز والمثال .
ولنسمع النشيد العفوي والصادق :
لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل
يقول البعض : «إن التاريخ لم يدون لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني أيضاً على أُمة من الأمم . ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عادي ، وجنباً إلى جنب مع أتباعها في ساعة الحرج الوطني العظيم» 1.
ب : إن مشاركته «صلى الله عليه وآله» في حفر الخندق تجسد عملياً المساواة بين جميع فئات المجتمع ، وتخرجها عن أن تكون مجردة شعار يراد له أن يبقى في حدود إثارة المشاعر ، في النشاط الإعلامي الجماهيري ، دون أن يجاوز ذلك ليصبح حياة وحركة ، نهجا وسلوكاً.
فالمساواة في نظر الإسلام نهج وسلوك ، وخلق إسلامي وإنساني رفيع ونبيل ، تنطق من خلاله وعلى أساسه مُثُل وقيم في جهات حياتية شتى.
ولأجل ذلك : نجد النبي «صلى الله عليه وآله» يشارك أصحابه في حفر الخندق مشاركة حقيقية ، فهو يتعب كما يتعبون ، ويرتجز كما يرتجزون ، ويجوع كما يجوعون ، ويشاركهم حلو العيش ومره ، ويشترك معهم في تحمل المتاعب ومواجهة المصاعب ويكون أكثرهم عناء ، وأعظمهم غناء.
ج : إن هذه المشاركة منه «صلى الله عليه وآله» لم تكن عن تواضع يريد من ورائه نيل رضاهم من خلال المواساة التي يتلمسونها في مشاركته تلك . بل هي منطلقة بالإضافة إلى ذلك من قناعة راسخة بالقيم والمبادئ ، وبالمثل الإسلامية والإنسانية ، التي تجعل ذلك عبادة إلهية، وعبودية له سبحانه وتعالى، تلك العبادة والعبودية التي لا تستثني ولا تجامل ولا تحابي أحداً أياً كان.
د : ومن الواضح : أن ارتباط النبي «صلى الله عليه وآله» بالناس لم يكن من نوع الروابط التي تقوم بين الزعيم وبين قاعدته الجماهيرية، ولا كانت هي رابطة حاكم ورعية ، وإنما كانت رابطة الأبوة المسؤولة والواعية ، التي يدفعها إحساسها الأبوي لتريد الخير لمن هم تحت تكفُّلها من موقع الوعي والتدبير، لا من موقع العاطفة الهوجاء، ولا من منطلق التفكير المصلحي ، الذي يريد أن يستفيد من ذلك لتكريس زعامته ، أو كسب امتيازات سياسية ، أو اجتماعية أو غيرها.
ولأجل ذلك كانت مواساته «صلى الله عليه وآله» لأصحابه في حالات الجوع ، ثم مشاركته لهم في تلبيته لدعوة جابر لتناول الطعام ؛ رغم أن جابراً لم يجد في بيته إلا ما يكفي بضعة أشخاص . ولكن الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد دعا الجميع وأطعم الجميع 2 .
- 1. المغازي للواقدي ج2 ص447 وراجع : الإمتاع ج1 ص221 وراجع: دلائل النبوة للبيهقي ج3 ص399 .
- 2. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، السنة 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء العاشر .