خُطَى الخزاعي
لله درُّ بعض السطور، التي أبت إلّا أن تستقر على صفحات التاريخ على الرغم من المناوئ الشانئ، وليس هذا فحسب؛ بل أبت إلّا حياةً وتجدّدًا، فما أن تُفتحُ صفحاتُها وتُقرأ كلماتُها، إلّا وينتشرُ أريجُ شذى حروفِها معطِّرًا الزَّمان والمكان، إذ تُستنفَرُ بقراءتها جحافلُ الملائكة التي تتزاحم في النزول حيث محلِّ الذكر، فتتبرك متعطِّرة بضوعه، وتقايض مَن استنفرها بصنوفٍ شتى من الأجر الجزيل، هكذا قضى الله تعالى في شأن سطور تشرفت مضمِّنةً ذكر المولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه)، وهكذا أراد أن يجازي ذاكريه، ونحن في هذا الموضوع نحاول التأسي بالملائكة، فنحوم حول زهرة هاشمية موالية ونستنطق أريجها الولائي عن موقف انتصرت فيه لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في عقر سلطان عدوه الباغي، فصنعت بموقفها اسمًا، وأخذت من عطر الذكر نصيبًا، وهي السيدة (أروى بنت الحارث بن عبد الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قصي، وأمها غزية بنت قيس بن طريق بن عبد العزى بن عامر بْنِ عَمِيرَةَ بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فهر، تزوجها أبو وداعة بْنِ صَبِرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سهم فولدت له المطلب وأبا سفيان وأم جميل وأم حكيم والربعة بني أبي وداعة)([1])، وممّا جاء أيضًا في ترجمتها أنَّها (صحابية اشتهرت بالفصاحة، عاشت إلى زمن معاوية بن أبي سفيان، وكان مقامها بالمدينة، فوفدت عليه إلى دمشق وهي عجوز، فعاقبته على خصومته لعلي بن أبي طالب (ابن عمها) [عليه السلام]، وفاخرته ببني هاشم وفضلتهم على بني أمية، فاعترضها عمرو بن العاص فعيرته بنسبه، وتكلم مروان فأفحمته، فاعتذر لها معاوية عنهما وسألها عن حاجتها فقالت: مالي إليك حاجة! وقامت فخرجت، فقال معاوية لأصحابه: والله لو كلّمَها من في مجلسي جميعًا لأجابت كل واحد بغير ما تجيب به الآخر! وإن نساء بني هاشم لأفصح من رجال غيرهم)([2])، ومن موقف مجادلتها معاوية بن أبي سفيان وزبانيته نستشف، كم ولائها، وصدق اعتقادها بولاية أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، وإيمانها بقضية لم تتنازل عنها وهي تحاور أعتى الأعداء في أوج سلطانه، مجرِّمة إياه وسلفه، ومن تسبَّب في تسلطه على رقاب الناس، وممّا جاء في تلك المحاورة مخاطبةً معاوية : (لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، واخذت غير حقك بغير بلاء كان منك، ولا من آبائك في الاسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتعس الله منكم الجدود، وأصعر منكم الخدود، حتى رد الله الحق إلى أهله وكانت كلمة الله هي العليا، ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنصور على من ناواه ولوكره المشركون، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظًا، ونصيبًا، وقدرًا، حتى قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) مغفورًا ذنبه، مرفوعًا درجته، شريفًا عند الله مرضيًّا، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون يذبِّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم نبينا بمنزلة هارون من موسى حيث يقول يا ابن أمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، ولم يجمع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا شمل، ولم يسهل لنا وعر، وغايتنا الجنة وغايتكم النار)([3])، وقد ضمَّنت مصادر أخرى ذكرها لحزب المنقلبين الأوائل في سياق مقالتها بقولها: (فوثبت علينا بعده (أي رسول الله) بنو تيم وعدي وأمية، فابتزونا حقنا ووليتم علينا)([4])، مذكِّرة بحقه (صلوات الله وسلامه عليه) ومحله في الدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرةً وبلا فصل، معدِّيةً جرم الاستيلاء على مقام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إلى أبعد من معاوية، متجاوزة إياه إلى حيث الفلتة الأولى والرزية العظمى، التي مُنِّي بها الإسلام، فكان معاوية ومن بعده شيءٌ من طرح أُكُلها الخبيث، ثّمَّ تذكِّر معاوية بحقير أصله، وقديم معاداتهم للإسلام، بعدما ألقمت زبانيته بمنطقها حجرًا كفوا به عنها، فقالت([5]): مَا عرضني وَمَا جرأ عَليّ هَؤُلَاءِ اُحْدُ غَيْرك يَا بن القائلة: فِي قتل حَمْزَة
نَحـــــــــــن جزينـــــــاكم بِيَــــــــوْم بــــــــــــــدر *** وَالْحَرب بعد الْحَرْب ذَات سعر
ما كان لي عَن عتبَة من صَبر *** وَلَا أخـــــــــــــــــــــي وعمـــــــــي وبكري
سكـــــــــن وَحشِي غليل صَـــــــدْرِي *** سليت همي وشفيت صــــــــــَدْرِي
فَشكــــــــــر وَحشِي عَليّ دهــــــــــري *** حَتَّى توارى اعظمي فِي قَبْرِي
فأجابتها ابْنة عمي وَهِي تَقول:
جزيـــــــت فِي بــــــــــــدر وَغير بدر *** يا ابنة وقـــــــــاع عَظِيم الْكفْر
صبحـــــــــــــك الله غَــــــــــــدَاة النَّحْر *** بالهــــــــــاشميين الطوَال الزُّهــــــر
بِكـــــــــــــــُل قطَّاع حسام يفـــــــــــــري *** حَمْـــــــــزَة ليثي وَعلي صقـــري
اعطيت وحشيا ضمير الصَّدْر *** هتك وَحشِي حجاب السّتْــــــــر
مَا للبغايا بعْدهَا من فَخر
وتختم لقائها(رحمها الله) بأبيات تفجع، نادبةً بها أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قائلة لمعاوية([6]): (اتذكر عليًّا فض الله فَاك، واجهد بلاءك، ثمَّ علا نحيبها وبكاؤها وانشأت تَقول:
أَلا يَا عين وَيحك اسعــــــــــدينا *** أَلا ابكي أَمِير المؤمنينــــــــــــا
رزينا خير من ركب المطــــايا *** وحبسها وَمن ركب السفينا
وَمن لبس النِّعَال وَمن حذاها *** وَمن قرأ المثاني المئيـــــــــــــــنا
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حَــــــــــــــرْب *** فَلَا قرت عُيـــــــــُون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمــــــــــوه *** بِخَير النَّـــــاس طرًّا اجمعينـــــا
وَمن بعد النَّبِي فدته نــــــَفسِي *** أَبُو حسن وَخيـــــــر الصالحينا
كَانَ النَّاس اذ فـــــــــــقدوا عليــــــــــًّا *** نعام جــــــــــال فِي بلد سنينــــــــا
لقد علمت قُرَيْش حَيْثُ كَاَنْت *** بأنَّك خَيــــــــــــــــرهَا حسبًّا ودينـــــًا
إِذا اسْتقْبلت وَجه أبي حُسَــــيْن *** رأيت الْبــــــــــــــــــــَدْر راق الناظرينا
فَلَا وَالله لَا انـــــــــــــسى عليـــــــــًّــــــا *** وَحسن صلَاته فِي الراكـــعينا)
وكانت وفاتها (رحمها الله) سنة 50 هجرية([7])، لتنقلب إلى ما أعده الله تعالى لموالي أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) وشيعته بمنه وفضله من عظيم مقام، وأعلى مجازاة حيث لقاء المولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) راضيًّا مرحِّبًا.
الهوامش:
[1] الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد (المتوفى 230هـ): 8/40
[2] الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (المتوفى 1396هـ) :290
[3] ينظر: بلاغات النساء ، ابن طيفور(المتوفى 380ه) : 27-28
[4] الامامة في أهم الكتب الكلامية، السيد علي الحسيني الميلاني: 113
[5] أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان، العباس بن بكار(أو ابن الوليد بن بكار) الضبي (المتوفى: 222هـ) :49-50
[6] أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان، العباس بن بكار(أو ابن الوليد بن بكار) الضبي (المتوفى: 222هـ) :51
[7] ينظر: شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام: جمعه ورتبه ووقف على طبعه: بشير يموت:132.
المصدر: http://inahj.org