الموعظة القرآنية:
قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾1.
يُمثّل الإسلام برنامجاً كاملاً، شُرِّعت فيه جميعُ التكاليفِ، وبُيِّنت كلّ القواعد والأصول اللازمة في أبعاد حياة الإنسان كافّة. ومن جملة المسائل التي تعرّض الإسلام لأصولها مسألة الحرب، ومن أهم هذه الأصول الآتي:
رعاية العهود العسكرية
في سياق تعداده لخصال المؤمنين، أشار القرآن المجيد إلى صفة الوفاء بالعهد والميثاق، حيث قال تعالى: ﴿…بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ…﴾2.
حيث إنّ الوفاء بالعهد والميثاق هو من أصول الأخلاق الاجتماعية المسلَّمة، والتي لا يُقبلُ المساسَ بها في الإسلام. فلم يجِزْ الله تعالى لأي فرد وتحت أي ظرفٍ أن ينقضها. وقد تمّ التأكيد على هذا الأصل في أوقات الحرب أيضاً، وأُوصي المسلمون أن يَحفظوا كلَّ عهد يقيمونه مع العدو، وأن لا يُخِلُّوا به أبداً.
ومع أنّ سورة براءة قد نزلت لتعلن البراءة من المشركين وتدعو إلى التعامل معهم بقسوة وترسل لهم التهديدات إن هم أصرّوا على شركهم، نلاحظُ في المقابل أنّ الله تعالى يُذكّر المؤمنين في آيتين منها بضرورة الحفاظ على العهد والميثاق الذي عقدوه سابقاً مع بعض المشركين، وأنّ من واجبهم أن يستقيموا على ذلك طالما استقام المشركون أيضاً.
والملفت في هاتين الآيتين أنّ الله سبحانه يعتبر هذا الحفاظ وهذه الاستقامة المشار إليهما من علامات التقوى، حيث يقول تعالى في الآية الأولى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾3.
وفي آيةٍ أخرى، يأمر تعالى المسلمين بمدّ يد العون والنصرة إلى إخوانهم الذين أسلموا، لكنّهم لا زالوا في الأسر ولم يوفّقوا للهجرة، إلاّ أن يَطلُبَ هؤلاء النصرة على قوم عقد المسلمون عهداً وميثاقاً معهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾4.
وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رعاية هذه العهود، فبعد انعقاد صلح الحديبية، فرّ أحد مسلمي مكّة منها، والتحق بجموع المسلمين في الحديبية، فقبل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم اعتراض ممثّل قريش في التفاوض ووافق على إعادته إلى مكة عملاً بأحد بنودِ الصلح، ثمّ خاطب صلى الله عليه وآله وسلم ذلك المسلم – والذي كان قد استاء من إرجاعه إلى قريش – ليخفّف عنه، فقال: “يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم…”5.
وفي معركة صفّين، ندم عدد من جنود الإمام عليّ عليه السلام بعد أن أجبروه على قبول التحكيم، وجاؤوا إليه يطلبون منه أن ينقض عهده، فقال لهم عليه السلام: “ويحَكُمْ، أبعد الرضا (والميثاق) والعهد نرجع. أوليس الله تعالى قال: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾6 وقال: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾7 8.
صحيح أنّ الوفاء بالعهد من الممكن أن يجرّ على المسلمين ضرراً مرحلياً، ولكن رعاية العهد والميثاق أكثر أهمّيّة من النفع أو الضرر المرحليين. وطبعاً، لو علم المسلمون على ضوء القرائن الموجودة أنّ العدو ينوي أن ينقض عهده ويشنّ هجومه عليهم، فيمكنهم أن ينقضوا العهد من جهتهم، غير أنّه من اللازم قبل ذلك أن يُعلِمُوا العدو عن عزمهم، ولا يحقّ لهم أن يبادروا إلى الهجوم عليه قبل إعلامه، لأنّ مثل هذا الهجوم يُعدُّ خيانة، والله لا يحب الخائنين9.
رعاية الأحكام الإنسانية في الحرب
على الرغم من جواز اللجوء إلى الخدعة لإركاع العدو في الحرب، بل ولزوم ذلك أحياناً، إلاّ أنّ المسلمين ليسوا مجازين بالاستفادة من الأساليب الظالمة وغير الإنسانية لهزيمة العدو. فقطع الماء عن العدو، وحرق المزروعات، وتسميم المياه والمواد الغذائية، وقتل النساء والأطفال والعجّز الذين لا طاقة لهم على القتال، وتخريب البنى غير العسكرية، واستخدام الأسلحة الكيميائية والجرثومية… كلّها أمور ممنوعة في الحرب.
وقد أشار القرآن المجيد إلى حكم كلّي بهذا الشأن، حيث قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾10.
واستنبط بعض المفسّرين من هذه الآية أنّه يجب الامتناع عن قتل غير الجنود العسكريين، ولا سيّما النساء والأطفال، لأنّه لا دور لهؤلاء في الحرب11، وقد أشار آخر الآية بنحو مطلق إلى لزوم الامتناع عن كل اعتداء: ﴿وَلاَ تَعْتَدُو﴾12.
وأكّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بشدّة على ضرورة رعاية الأحكام الشرعية والإنسانية في الحروب، ووصَلَنا منهم العديد من التعاليم والإرشادات على هذا الصعيد، من جملتها:
النهي عن قتل النساء والعجّز والأطفال:
فعن جعفر بن غياث أنّه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن النساء كيف سقطت الجزية عنهنّ ورفعت عنهن؟ قال: فقال عليه السلام: “لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن”13.
النهي عن إلقاء السمّ في الماء والغذا:
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: “قال أمير المؤمنين عليه السلام: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُلقى السُمُّ في بلاد المشركين”14.
عدم إتلاف الزرع:
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله عزّ وجل في خاصّة نفسه، ثمّ في أصحابه عامّة ثم يقول:… ولا تُمثِّلوا… ولا تحرقوا النخل، ولا تُغرِقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تُحرِقوا زرعاً…”15.
وبالطبع، يجب الالتفات إلى أنّه من الممكن لغرضِ قطع جذور فتنة الحرب والحدّ من وقوع مضارّ أكبر، أن لا تُراعَى هذه الأمور بمقدار حدّ الضرورة، وخصوصاً في الوقت الذي يستغلّ العدو رعاية المسلمين لهذه الأحكام لمصلحته، فيستقرّ مثلاً في مزرعة، أو أرضٍ ذات نخل، أو قلعة، ولا يكون هناك من طريق للوصول إليه إلاّ إشعال النار في المزرعة أو قطع النخيل أو إغلاق الماء.
فعندما نقض يهود “بني النضير” عهدهم، وهمّوا بقتال المسلمين، قاموا باللجوء إلى حصونهم. وفي كل مرّة كان المسلمون يقتربون من إحدى هذه القلاع وتتعرّض لخطر السقوط الحتمي، كانوا يتراجعون إلى قلعة أخرى بعد تخريب كلّ شيء وراءهم. فلهذا، ولغرض استسلامهم، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن تُقطع أشجار نخيلهم. فاعترض اليهود الذين كانوا شديدي الحرص على زراعتهم، قائلين إنّ هذا لا يتلاءم مع أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية لتوضح حقيقة ما فعله المسلمون: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾16. وعندما رأى اليهود ما كان يفعله المسلمون، سارعوا إلى الاستسلام17.
عدم التمثيل بجثث القتلى:
حيث نهى الإسلام عن التمثيل في جثث قتلى العدو على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: “إيّاكم والمثله ولو بالكلب العقور”18.
ومحل الشاهد أنّه لا يجوز أن يمثّلوا بأجساد الكفّار أو الحيوانات بمعنى أن يقطّعوها أكثر ممّا يحصل لها في القتال.
المعاملة بالمثل
أكّد الإسلام على ضرورة رعاية الأحكام الإنسانية والشرعية، ولم يكن مستعدّاً حتى في ساحة الحرب أن يطلب من أتباعه النصر عن طريق الجور والظلم، وأمّا فيما لو تجاوز العدو هذه الأحكام، فيسمح الإسلام بمقابلته بالمثل. حيث يقول تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾19.
ومع أنّه قد عُدَّت المقابلة بالمثل جائزة في هذه الآية، إلاّ أنّ المسلمين قد دُعوا من جديد في آخر الآية إلى التحمّل والإغضاء.
وفي آية أخرى، وضمن الإشارة إلى هذا الأصل، يُفهمنا القرآن الكريم أنّ المقابلة بالمثل هي أمر جائز في نفسه، وأنّ عدم رعاية حدوده لا يتلاءمُ مع أصل التقوى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾20.
الصلح ووقف إطلاق النار
إنّ الإسلام دين الصلح والهدوء والأمن والمسالمة. فللحرب والجهاد بُعد محوري يهدف إلى إرساء الصلح وقلع الفتنة وإيقاف الحروب، ولهذا يسعى الإسلام بقدر ما يمكنه إلى منع التقاتل والقتل، وهو لهذا أيضاً يقبل عرض الصلح ووقف إطلاق النار بسهولة عند توافر فرصته الحقيقية. حيث يقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلً﴾21.
وفي آية أخرى، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾22.
وفي مقطع من عهده إلى مالك الأشتر حينما ولاّه مِصرَاً، يذكر أمير المؤمنين عليه السلام أنّه إن كان الصلح لمصلحة مجتمع المسلمين، فيجب قبوله: “ولا تدفعنّ صُلحاً دعاك إليه عدوّكَ لله فيه رضى، فإنّ في الصلح دَعَةً لجنودكَ وراحةً من همومك وأمناً لبلادك…”23.
ويبقى الصلح أو إيقاف الحرب مع العدو من الأمور الأساس التي يجب أن تُحدَّد من قبل قيادة المسلمين ومرجعيتهم المتمثل بالولي الفقيه.
التعامل مع الأسرى
يختصُّ قسمٌ من أصول الحرب في الإسلام بكيفية التعامل مع الأسرى. والحكم الأوليُّ على هذا الصعيد هو أنّ إمكان أخذ الأسرى منوط بالوقت الذي تكون فيه عقبات المعركة قد زالت، ولا يؤدّي الأسرُ إلى انشغال المجاهدين بهم، وبالتالي إلى هزيمة قوات الإسلام. وأمّا قبل هذا الوقت، فالأسرُ ممنوع. وقد أشير إلى هذا الحكم في قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾24.
وجاءت الإشارة إلى ذلك أيضاً في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾25.
والسبب في هذا المنع واضح، لأنّه في بداية المعركة، حيث لا يكون انتصار المسلمين محسوماً، يؤدّي أخذ الأسرى إلى انشغال عددٍ كبيرٍ من المجاهدين بحفظهم وحراستهم بالإضافة إلى صرف إمكانات وفيرة لأجل ذلك، وهو ما يؤدّي إلى إضعاف جبهة المجاهدين وهزيمتها.
وبالالتفات إلى ما ورد في الآيات السابقة وسائر المصادر الإسلامية، فإنّ حكم الأشخاص الذين يقعون في الأسر خلال هذه الفترة الأولى من القتال، هو القتل26.
وطبعاً، في حال أسلم الأسيرُ قبل تنفيذ هذا الحكم فيه، يُرفَع عنه القتل ويطبّق بحقّه حكم الأسرى الذين يقعون في قبضة المجاهدين بعد هذه المرحلة27. وأمّا الأشخاص الذين يسقطونَ في الأسر بعد هزيمة العدو فلا يجوز قتلهم28، وقائد المسلمين ووليّهم مخيَّرٌ بينَ أن يُطلقهم دونَ مقابل أو لقاءَ فدية يدفعونها أو أن يأخذهم أرقّاء29.
والأمر الملفت على هذا الصعيد، هو كيفية التعامل مع الأسرى من وجهة نظر الإسلام، فإلى أي فئة انتموا، ينبغي التعامل معهم بإنسانية، والابتعاد عن أذيّتهم والإضرار بهم، وإعطاؤهم الماء والطعام. ولقد كان مسلمو صدر الإسلام من خلال التربية التي تلقّوها على يد هذا الدين الخاتم ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يؤثرون الأسرى بطعامهم، ويقدّمونهم على أنفسهم30.
فمن المسائل الهامّة هنا، ضرورة التعامل بعطف مع الأسرى والحرص على هدايتهم بالشكل الذي يؤدّي إلى حدوث تحوّل روحي وباطني لديهم، وإلى انجذابهم نحو الحقّ، وفي ما أرشد به القرآن المجيد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الصعيد، مرفقاً ببشارة الرحمة والعفو إلى الأسرى، نموذج جميل ودليل ساطع على عظمة الإسلام، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾31.
ولقد دعت هذه الآية الأسرى للإسلام، مستفيدة من أفضل طريقة، وألطف كلام وأرحمه.
الإجارة واللجوء
منذ قديم الأيام، تُعدّ مسألة اللجوء إلى الأفراد أو الأمكنة الآمنة لأجل حفظ الروح، من العادات الموجودة بين أبناء البشر. وقد أدّى هذا الأمر إلى إفلات المجرمين أو الأشخاص غير المذنبين الذين كانوا ملاحقين، من العقاب.
وقد كان هذا اللجوء أمراً رائجاً بين العرب قبل الإسلام، والجميع يعطونه منزلة مهمة. والإسلام بدوره قد أقرّ أصل الإجارة وأكّد عليه. وبصرف النظر عن أنواع اللجوء السياسي، ومن ضمن بحث أصول الحرب في الإسلام، نطرح هذا السؤال ليُشكّل محوراً لبحثنا: هل يوافق الإسلام على إجارة العدو طوال فترة الحرب أم لا؟ وهل يُجيز إلى مدّة معينة أن يعمد أفراد من العدو إلى الحفاظ على أرواحهم من خلال هذه الوسيلة؟ وللجواب ينبغي القول إنّ ما يُستفاد من المصادر الإسلامية هو أنّ مشروعية إجارة العدو تتمثّل في غرضين اثنين:
لسماع كلام الله والاطلاع على معارف الإسلام:
فليس للمسلمين من هدف سوى إيصال نداء الفطرة إلى مسامع الناس، وهم لا ينسون هذا الهدف في ميادين الجهاد، وقد ثبتوا عليه. فدعوة العدو إلى الإسلام قبل بدء القتال تصبُّ في هذا الطريق، بل حتى لو أنّ شخصاً ادّعى بعد القتال أيضاً أنّه لم يسمع كلام الله ثمّ طلب مهلة وأماناً ليسمع دعوة الحقّ، فمن الواجب على المسلمين أن يجيروه ويعرضوا عليه أصول الدعوة الإسلامية، ومن ثمَّ أن يعيدوه إلى مكانه سالماً آمناً، حيث يقول تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾32.
وعن أبي عبد الله عليه السلام: “لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل، فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأُناظره فأعطاهُ أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به”33.
إجارة العدو تؤدّي إلى قوة جبهة المجاهدين:
في بعض الموارد، يؤدّي الإعلان عن الاستعداد لمنح اللجوء إلى أفراد العدو، إلى وقوع الفرقة والتشتّت بين صفوف قوّاته. ومع إجارة عدد منهم فعليّاً، تضعف قوّته وتنكسر شوكته.
وفي مثل هذه الموارد التي يعود نفعها على الإسلام، يمكن أن تُجارَى هذه القوات المعادية التي لجأت إلى المجاهدين – لا لأجل سماع كلام الحقّ والإذعان له – وإنّما لأجل الحفاظ على حياتها، أو إرشادها إلى أماكن آمنة لتلجأ إليها بنفسها، وتحفظَ أرواحها من الهلاك على أيدي القوّات الإسلامية.
فعند فتح مكة، أعلن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم – وعلى أثر استسلام أبي سفيان – أنّ المسجد الحرام، وكذلك منزلَ أبي سفيان وحكيم بن حزام أماكن يأمن من لجأ إليها على نفسه34.
وأيضاً، أعلن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في حرب الطائف أنّ كلّ عبدٍ يلجأ إلى المسلمين ويفرُّ من حصنها، سوف يُعتق35، أي أنّه بالإضافة إلى قبول لجوئه، سوف يُعطى الحرية هدية فوق ذلك.
وللعلامة الطباطبائي قدس سره في ذيل شرحه للآية السادسة من سورة التوبة، كلام يمكن أن يستفاد منه ما ذكرناه آنفاً، حيث يقول: “الآية إنّما توجب إجارة المستجير إذا استجار لأمرٍ ديني يُرجى فيه خير الدين، وأمّا مطلق الاستجارة لا لغرض ديني ولا نفعٍ عائدٍ إليه، فلا دلالة لها عليه أصلاً، بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلّها”36.
* كتاب باب الأولياء، سلسلة الدروس الثقافية، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة البقرة، الآية 190.
2- سورة البقرة، الآية 177.
3- سورة التوبة، الآية 4.
4- سورة الأنفال، الآية 72.
5- سيرة ابن هشام، ج3، ص333.
6- سورة المائدة، الآية 1.
7- سورة النحل، الآية 91.
8- يُراجع، وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري، ص514.
9- يُراجع: السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ج9، ص113-114.
10- سورة البقرة، الآية 190.
11- يُراجع، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص10.
12- سورة البقرة، الآية 190.
13- وسائل الشيعة، ج15، باب 18 من أبواب الجهاد، ح1، ص64.
14- (م.ن)، باب 16 من أبواب الجهاد، ح1، ص62.
15- وسائل الشيعة، ج15، باب 15 من أبواب الجهاد، ح3، ص59.
16- سورة الحشر، الآية 5.
17- يُراجع: الميزان في تفسير القرآن، ج19، ص 208.
18- المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 6، ص 150.
19- سورة النحل، الآية 126.
20- سورة البقرة، الآية 194.
21- سورة النساء، الآية 90.
22- سورة الأنفال، الآية 61.
23- نهج البلاغة، الخطبة 53 (عهده إلى مالك الأشتر).
24- سورة محمد، الآية 4.
25- سورة الأنفال، الآية 67.
26- يُراجع: جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، الثانية، 1365 ش، خورشيد، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج21، ص122-123.
27- (م. ن)، ص124.
28- هناك موارد نادرة يُقتل فيها الأسير بسبب جرائمه أو خطورته، مثلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل رجلين من أسرى بدر.
29- يُراجع: جواهر الكلام، ج21، ص126.
30- يُراجع: الكامل في التاريخ، ابن الأثير، طبع1386 – 1966م، دار صادر للطباعة والنشر – بيروت، ج2، ص131.
31- سورة الأنفال، الآية 70.
32- سورة التوبة، الآية 6.
33- وسائل الشيعة، ج15، باب 20 من أبواب الجهاد، ح1، ص67.
34- المغازي،الواقدي، ج2، ص818.
35- يُراجع، الطبقات الكبرى، ابن سعد، بيروت، دار صادر، ج2، ص158-159.
36-الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص155.