و لمّا بقي الحسين (عليه السلام) في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل يمانيّة محقّقة يلمع فيها البصر، ففرزه و نكثه لكيلا يسلبه و .
و مكث طويلا من النهار كلّما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه، و كره ان يتولّى قتله و عظيم اثمه عليه!
و أتاه مالك بن النّسير البدّي الكنديّ فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس الذي عليه و أصاب رأسه فأدما ه و امتلأ البرنس دما فقال له الحسين: لا اكلت بها و لا شربت، و حشرك اللّه مع الظالمين!
ثم القى ذلك البرنس و دعا بقلنسوة فلبسها و اعتمّ عليها و ف كان معتمّا على القلنسوة بالخزّ الأسود و عليه قميص أو جبّة من خزّ، و كان مخضوبا بالوسمة، و هو يقاتل قتال الفارس الشجاع، يتّقي الرّمية، و يفترص العورة، و يشدّ على الخيل .
و أقبل شمر بن ذي الجوشن في نفر نحو من عشرة من رجّالة أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقله و عياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه و بين رحله فقال الحسين (عليه السلام): ويلكم! إن لم يكن لكم دين، و كنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنياكم احرارا ذوي أحساب! امنعوا رحلي و أهلي من طغامكم و جهالكم!
فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة! و اقدم عليه بالرجّالة، فأخذ الحسين (عليه السلام) يشدّ عليهم فينكشفون عنه .
قال عبد اللّه بن عمّار البارقي: شدّت عليه رجّالة ممن عن يمينه و شماله، فحمل على من عن يمينه حتى ذعروا، و على من عن شماله حتى ذعروا! فو اللّه ما رأيت مكسورا قط- و قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه- أربط جأشا و لا أمضى جنانا و لا أجرأ مقدما منه! و اللّه ما رأيت قبله و لا بعده مثله! إن كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه و شماله انكشاف المعزى اذا شدّ فيها الذئب!
و قد دنا عمر بن سعد من حسين (عليه السلام) اذ خرجت زينب ابنة فاطمة اخته: فقالت: يا عمر بن سعد! أ يقتل أبو عبد اللّه و أنت تنظر إليه! ف صرف بوجهه عنها و كأني انظر الى دموع عمر و هي تسيل على خدّيه و لحيته! .
و هو (عليه السلام) يشدّ على الخيل و يقول:
اعلى قتلي تحاثّون: أما و اللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه أسخط عليكم لقتله منّي! و أيم اللّه إني لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون أما و اللّه لو قد قتلتموني لقد القى اللّه بأسكم بينكم و سفك دمائكم، ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم! .
ثم انّ شمر بن ذي الجوشن اقبل في الرجّالة نحر الحسين عليه السّلام، و فيهم سنان بن انس النخعي، و خوليّ بن يزيد الاصبحي ، و صالح بن وهب اليزني، و القشعم بن عمرو الجعفي، و عبد الرحمن الجعفي ، فجعل شمر بن ذي الجوشن يحرّضهم ف- أحاطوا بالحسين عليه السّلام احاطة!
و اقبل الى الحسين (عليه السلام) غلام من أهله فقال الحسين عليه السّلام ل اخته زينب ابنة علي: احبسيه، فأخذته اخته زينب ابنة علي لتحبسه، فأبى الغلام و جاء يشتدّ الى الحسين (عليه السلام).
و قد أهوى بحر بن كعب الى الحسين (عليه السلام) بالسيف، فقال الغلام يا ابن الخبيثة! أ تقتل عمّي ! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فاطنّها إلى الجلدة، فاذا يده معلّقة، فنادى الغلام! يا امّتاه!
فأخذه الحسين (عليه السلام) فضمّه الى صدره و قال: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك، و احتسب في ذلك الخير، فان اللّه يلحقك بآبائك الصالحين برسول اللّه و علي بن أبي طالب و حمزة و الحسن بن علي صلّى اللّه عليهم اجمعين.
اللهمّ امسك عنهم قطر السماء، و امنعهم بركات الارض، اللهمّ فان متّعتهم الى حين ففرّقهم فرقا، و اجعلهم طرائق قددا، و لا ترضى عنهم الولاة أبدا، فانّهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا!
و لقد مكث طويلا من النهار و لو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، و لكنهم كان يتّقي بعضهم ببعض، و يحبّ هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء!
فنادى شمر في الناس: و يحكم! ما ذا تنظرون بالرجل! اقتلوه! ثكلتكم امّهاتكم! فحمل عليه من كل جانب!
مصرع الحسين عليه السّلام
فضرب زرعة بن شريك التميمي ضربة على كفّه اليسرى ، و ضرب ضربة اخرى على عاتقه، فاخذ ينوء و يكبو على وجهه الشريف و في تلك الحال حمل عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع (عليه السلام) فجعل لا يدنو أحد من الحسين (عليه السلام) إلا شدّ عليه سنان بن أنس مخافة أن يغلب على رأس الحسين عليه السّلام حتى نزل إليه فذبحه و احتزّ رأسه! و دفعه الى خوليّ بن يزيد الاصبحي.
و سلب ما كان على الحسين (عليه السلام) فأخذ قيس ابن الاشعث قطيفته و سلب اسحاق بن حيوة الحضرمي قميص الحسين . و اخذ سيفه رجل من بني نهشل، و أخذ نعله الأسود الأودي و أخذ بحر بن كعب سراويله و تركه مجردا .
و مال الناس على نساء الحسين (عليه السلام) و ثقله و متاعه، و الورس و الحلل و الابل فانتهبوها، و إن كانت المرأة تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها! .
و قال الناس لسنان بن أنس: قتلت حسين بن علي و ابن فاطمة ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قتلت اعظم العرب خطرا، جاء الى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم، فأت امراءك فاطلب ثوابك منهم! لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلا!
و كانت به لوثة ، فأقبل على فرسه حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضّة و ذهبا أنا قتلت الملك المحجّبا
قتلت خير الناس امّا و أبا و خيرهم اذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد: أدخلوه عليّ، فلمّا ادخل خذفه بالقضيب ثم قال:
يا مجنون! أشهد انك لمجنون ما صححت قط، أ تتكلّم بهذا الكلام! أما و اللّه لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك!
و حمل شمر بن ذي الجوشن في رجّالة معه على ثقل الحسين عليه السّلام فانتهوا الى علي بن الحسين الاصغر و هو مريض منبسط على فراش له:
و ال- رجّالة معه يقولون: أ لا نقتل هذا؟
قال حميد بن مسلم: فقلت: سبحان اللّه! أ نقتل الصبيان؟ إنما هذا صبيّ! .
حتى جاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يعرضنّ لهذا الغلام المريض احد، و لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة، و من أخذ من متاعهم شيئا فليردّه عليهم. فما ردّ أحد شيئا
و أخذ عمر بن سعد: عاقبة بن سمعان، فقال له: ما أنت؟
قال: أنا عبد مملوك، فخلى سبيله، فلم ينج أحد منهم غيره .
ثم إنّ عمر بن سعد نادى في أصحابه: من ينتدب للحسين و يوطئه فرسه! فانتدب عشرة، منهم: اسحاق بن حيوة الحضرمي، و احبش بن مرثد الحضرمي فأتوا فداسوا الحسين (عليه السلام) بخيولهم حتى رضّوا ظهره و صدره .
و صلّى عمر بن سعد على من قتل من اصحاب ه و دفنهم.
و سرّح برأس الامام عليه السّلام من يومه ذلك مع خوليّ بن يزيد الى عبيد اللّه بن زياد، فاقبل خوليّ دار القصر فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت اجانة في منزله فلما اصبح غدا بالرأس الى عبيد اللّه بن زياد .