قال الله تعالى في كتابه المجيد }وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ{(الأنبياء-73)، وقال تعالى }وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ{(القصص-41).
إن تكرار كلمة (أئمة) في القرآن الكريم يدلّ على وجود طائفتين كما هو الحال في كثير من الألفاظ القرآنية التي يراد منها أكثر من مصداق،فعن أبو عبد الله الصادق (عليه السلام):أنه قال (إِنَ الْأَئِمَّةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِمَامَانِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى }وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا{(لَا بِأَمْرِ النَّاسِ يُقَدِّمُونَ أَمْرَ اللَّهِ قَبْلَ أَمْرِهِمْ وَحُكْمَ اللَّهِ قَبْلَ حُكْمِهِمْ قَالَ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، يُقَدِّمُونَ أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَمْرِ اللَّهِ وَ حُكْمَهُمْ قَبْلَ حُكْمِ اللَّهِ وَيَأْخُذُونَ بِأَهْوَائِهِمْ خِلَافَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل)(الكافي-ج1-ص216) .
فمن المعلوم أن هنالك طائفتين أحداهما تدعو إلى الهدى والحق وهم الذين يصطفيهم الله جل وعلا إن كانوا أنبياء كالنبي موسى الكليم ومحمد المصطفى (صلى الله عليه واله وسلم ) أو أوصياء الأنبياء كالإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأئمة الهدى من أهل بيت النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم ) وهم جميعاً يدعون الناس إلى الهدى بأمر الله وحكمه، ويؤيدهم الله جل وعلا بالمعجزات وخوارق العادات التي يجريها على أيديهم لتكون دليلاً على صدقهم،كما قال عنهم الله جل وعلا }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ{(السجدة-24) .
والطائفة الأخرى تدعو إلى الضلال والباطل وهم الذين تسلّطوا على الناس بدون إذن أو تشريع من الله جل وعلا ورسوله(صلى الله عليه واله وسلم )، وقد اختارهم البعض قدوة واقتدوا بهم في الدنيا، فهؤلاء هم الذين يدعون إلى النار لأنهم يقدمون أمرهم وحكمهم قبل أمر الله وحكمه، ويأخذون بأهوائهم وأهواء أتباعهم على خلاف ما أتى في كتاب الله جل وعلا وسُنَّة رسوله محمد(صلى الله عليه واله وسلم ) وقد سمّاهم الله جل وعلا بأئمة الكفر وأمر بقتالهم لعدم وفائهم بأيمانهم حيث قال عنهم الله تعالى }فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ{(التوبة-12) .
إنَّ الإمامةَ -إمامة الهدى- هي عهد من الله جل وعلا عهد به إلى صفوته من عباده المخلصين وأوليائه الصالحين وأهل طاعته المُتَّقين الذين اجتباهم واختارهم لهداية الناس وجعلهم أئمة في كل زمان، وقد استمرت الإمامة في ذرية النبي إبراهيم(عليه السلام) ثم جعلها الله تعالى في نبينا محمد(صلى الله عليه واله وسلم ) ثم جعلها بعد ذلك لمن اختاره الله تعالى واصطفاه من ذرية النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم )، فلا تكون الإمامة إلّا لهم لأنّها منصبٌ عظيم وكرامة من الله تعالى حيث قال الله تعالى وهو يخاطب نبيه إبراهيم الخليل(عليه السلام) }إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ{(البقرة-124)، وبيّن الله تعالى في هذه الآية المباركة إلى أن الإمامة هي بالجعل الإلهيّ وبمحض إرادة الله تعالى واصطفائه ولا تنال بكسب الكاسب وأن الإمامة أيضاً لا تكون للظالمين حيث قال تعالى }لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ{ وقد ورد في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال (هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير،وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله,فأخبر أنه فاعل ذلك،إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنّه غير مُصَيِّره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة؛ لأنَّ الإمامة إنّما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به)(تفسير الطبري–ج2،ص20).
وقد بقيت الإمامة تجري في تلك العروق الطاهرة، والنطفة المطهّرة التي بقيت نوراً في الأصلاب الطاهرة ووصلت إلى أرحام المطهّرة حتى اكتملت بالمصطفى محمد(صلى الله عليه واله وسلم) فصدق إبراهيم(عليه السلام) بكلمات ربه وآمن بالله وكلماته، فتمت له الإمامة بإتمام الله تعالى الكلمات التي ابتلي بها، واستمرت الإمامة في عقبه إلى يوم يبعثون.
وقد ذكر النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم ) عددَ هؤلاء الأئمة من بعده بأنهم اثنا عشر إماماً للناس يخلفون النبي(صلى الله عليه واله وسلم ) ويخلف بعضهم بعضاً ويعهد الله جل وعلا إليهم برعاية الدين وحفظه وأول هؤلاء الأئمة هو علي بن أبي طالب(عليه السلام)، إمام من الله جل وعلا وليس إماماً من الناس الذين أتبع البعض أهوائهم وأعطوه منصب الخليفة الرابع في خلافتهم -خلافة الشُّؤم- فقد ذكره الله جل وعلا ورسوله(صلى الله عليه واله وسلم ) وحده مفرداً ونصبه لأمته عَلَماً هادِياً في غدير خم، عندما أوحى الله سبحانه إلى رسوله المصطفى(صلى الله عليه واله وسلم ) بأن يبلغ المسلمين بأمره، حيث قال تعالى }يَأيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّم تَفعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{(المائدة-67)، فأمتثل الرسول(صلى الله عليه واله وسلم ) لأمر الله جل وعلا وبلغ المسلمين بما أمره الله تعالى به، فأتم رسالة السماء بإتمام التبليغ بولاية الإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام)، حيث قال(صلى الله عليه واله وسلم ) في خطبة طويلة له جاء في بعضها)مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ وَ أَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ وَ أَبْغِضْ مَنْ أَبْغَضَهُ وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَه)(بحار الأنوار-ج37،ص125).
إنّ الله تعالى يدعو يوم القيامة كلَّ أناسٍ بإمام زمانهم الذي جعله الله إماماً عليهم فمنهم المُهتدي ومنهم الضالّ، قال تعالى: }يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً{(الإسراء-71)، فعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية }يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ{ قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ فقال(صلى الله عليه واله وسلم ) (أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذَبون ويظلمهم أئمة الكفر وأشياع الضلالة فمن والاهم أي-الأئمة من الله- واتّبعهم فهو مني وسيلقاني،ألا ومَن ظلمهم وكذّبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء) الكافي-ج1-ص318.
وفي قصيدة لشاعر أهل البيت(عليهم السلام) سفيان بن مصعب العبدي الكوفي مخاطباً أئمة الهدى من أهل بيت النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم ) قال في بعضها:
أئمتـُنــــا أنتـُــــم سَنُـــــدعــى بِكــــم غــــــــداً
إذا ما إلى ربّ العـِباد مَعاً قـمنـا
وأنتُم على الأعرافِ أعـرَفُ عـارفٍ
بسّيمـا الذي يَهواكـُم والذي يَشنـا
وعن الإمام الصادق عن أبيه عن جده زين العابدين(عليه السلام) أن بشر بن غالب الأسدي سأل الحسين(عليه السلام) حين صادفه في طريقه إلى كربلاء فقال(يا بن رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى }يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ{ فقال له الحسين(عليه السلام): نعم يا أخا بني أسد هما إمامان، إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها,هؤلاء في الجنة, وهؤلاء في النار, وهو قوله تعالى: }فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ{ (ميزان الحكمة-ج5-ص14) .
والمعنى من هذا كله أن من كان في هذهِ الحياة الدنيا لا يعرف قدوته وإمام زمانه، إمام الهدى والحق ولا يسلك سبيله فلن يهتدي إلى طريق الحق وإلى المغفرة والرحمة ولا يجد في الآخرة السعادة والخير، ويكون أخيراً مع إمام الضلال والباطل في النار وذلك هو الخسران المبين.