بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين ، و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الأولين إلى قيام يوم الدين .
يقول المؤرخون : إن عبد الملك بن مروان ، هو أول من ضرب النقود في الإسلام . و يوردون في سرِّ ذلك حكاية طويلة نلخصها بما يلي :
إن الكسائي دخل على الرشيد فوجد بين يديه مالاً كثيراً ، فأمر بتفريقه في خدمة الخاصة . و كان بيده درهم تلوح كتابته ، و هو يتأمله .
فقال : هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب و الفضة ؟
قال الكسائي قلت : يا سيدي هو عبد الملك بن مروان .
قال : فما كان السبب في ذلك ؟
قلت : لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة .
فقال الرشيد : سأخبرك . . كانت القراطيس 1 للروم .
قال : و كان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم ، و كانت تلك القراطيس تطرز بالرومية ، و كان طرازها :
” باسم الأب ، و الابن ، و روح القدس ” .
فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان قبله ، حتى أيام عبد الملك ؛ فتنبه له ، و كان فطناً . . . فعندما ترجم له : أنكره ، و قال : ما أغلظ هذا في أمر الدين و الإسلام . . إلى أن قال : فكتب عبد الملك لعامله على مصر : عبد العزيز بن مروان يأمره بإبطال ذلك الطراز ، على ما كان يطرز به من ثوب و قرطاس و ستر و غير ذلك ، و أن يأمر صناع القراطيس : أن يطرزوها بصورة التوحيد : “شهد الله أنه لا إله إلا هو” .
و كتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ، و معاقبة من وُجد عنده بعد هذا النهي شيء بالضرب الوجيع ، و الحبس الطويل . .
فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد ، و حمل إلى بلاد الروم ، و منها انتشر الخبر ، و وصل إلى ملكهم ، فترجم له ذلك الطراز الإسلامي ؛ فأنكره و غلظ عليه ، و استشاط غيظاً . . فكتب إلى عبد الملك يطلب منه أن يرجع الطراز إلى حالته الأولى ، و أرسل إليه بهدية .
فرد عبد الملك الهدية و الرسول ، و أعلمه أن لا جواب له .
فأضعف ملك الروم الهدية ، و أرجع الرسول إلى عبد الملك ، و معه رسالة أخرى فرد عبد الملك الهدية و الرسول ، و لم يجبه أيضاً .
فغضب ملك الروم ، و كتب إليه : أنه يقسم بالمسيح : “لتأمرنّ برد الطراز إلى ما كان عليه ، أو لآمرن بنقش الدراهم و الدنانير ؛ فإنك تعلم أنه لا ينقش منها شيء إلا ما ينقش في بلادي ؛ فينقش عليها شتم نبيك الخ . .” .
فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر ، و غلظ ، و ضاقت عليه الأرض و قال : ” أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام ؛ لأني جنيت على رسول الله ( ص ) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر ، و لا يمكن محوه من جميع مملكة العرب ” إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم .
فجمع عبد الملك أهل الإسلام ، و استشارهم ؛ فلم يجد عند احد منهم رأياً يعمل به .
فقال له روح بن زنباغ : إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ، و لكنك تتعمد تركه .
فقال : ويحك ؟ من ؟ .
فقال : عليك بالباقر من أهل بيت النبي ( ص ) .
قال : صدقت ، و لكنه ارتج علي الرأي فيه .
فكتب إلى عامله بالمدينة : أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرماً ، و متعه بمأتي ألف درهم لجهازه و بثلاثمائة ألف درهم لنفقته ، و أزح علته في جهازه ، و جهاز من يخرج معه من أصحابه .
و حبس رسول ملك الروم عنده إلى موافاة محمد بن علي . فلما وافاه أخبره الخبر .
فقال الباقر : لا يعظم هذا عليك ؛ فإنه ليس بشيء من جهتين :
إحداهما : إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله ( ص ) .
و الأخرى وجود الحيلة فيه . . فقال عبد الملك : و ما هي ؟! .
قال : ” تدعو في هذه الساعة بصناع يضربون بين يديك سككاً للدراهم و الدنانير و تجعل النقش عليها سورة التوحيد ، و ذكر رسول الله ( ص ) :
أحدهما : في وجه الدراهم و الدنانير .
و الآخر : في الوجه الثاني . و تجعل في مدار الدراهم و الدنانير ذلك البلد الذي يضرب فيه ، و السنة التي تضرب فيها تلك الدراهم و الدنانير .
و تعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً ، من الثلاثة الأصناف : التي العشرة منها عشرة مثاقيل ، و عشرة منها وزن ستة مثاقيل ، و عشرة منها وزن خمسة مثاقيل . . فتكون أوزانها جميعاً واحداً و عشرين مثقالاً ، فتجزئها من الثلاثين ؛ فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل . و تصب سنجات من قوارير ، لا تستحيل إلى زيادة و لا نقصان ؛ فتضرب الدراهم على وزن عشرة ، و الدنانير على وزن سبعة مثاقيل . .” .
و كانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية ، التي يقال لها اليوم : ” البغلية ” ؛ لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام .. منقوش عليها صورة الملك ، و تحت الكرسي مكتوب بالفارسية ” نوش خُر ” أي كل هنيئاً . و كان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً ، و الدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل ، و العشرة وزن خمسة مثاقيل هي ” السيمرية ” الخفاف و الثقال ، و نقشها نقش فارس .
ففعل عبد الملك ذلك . .
و أمره الباقر : أن يضرب السكك في جميع بلدان الإسلام ، و أن يتقدم إلى الناس في التعامل بها ، و أن يتهددوا بقتل من يتعامل بغير هذه السكك ، من الدراهم و الدنانير و غيرها . و أن تبطل ، و ترد إلى مواضع العمل حتى تعاد على السكك الإسلامية .
ففعل عبد الملك ذلك ، ورد رسول ملك الروم إلى آخر القصة .
و قال الرشيد للكسائي في آخرها : و ثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم 2 .
هذه هي القصة التي أوردوها لإثبات : أن عبد الملك هو أول من ضرب الدراهم و الدنانير في الإسلام .
و لكن هذه الرواية لا تخلوا من مآخذ هامة ، تجعلنا نقف منها موقف الحذر و ذلك لأننا حتى لو غضضنا النظر عن :
1. أنه يفهم من هذه الرواية : أن الرشيد وحده هو الذي أزاح الستار عن هذه الأحداث الهامة ، و التي تشتمل على مادة خصبة للرواة و نقلة الأخبار ، و التي تنص على تلك المكاتبات بين عبد الملك ، و ملك الروم ، و شيوع أمر تغيير الطراز حتى وصل الخبر إلى ملك الروم ، ثم جمع عبد الملك لأهل الإسلام و استشارته لهم و الأهم من ذلك التجاؤه إلى خصومه و خصوم عرشه ” أهل البيت ” لحل هذه المشكلة حتى لقد قال جرجي زيدان : ” فلم يشأ أن يستنجد أحد أئمة بني هاشم ـ و هم مناظروه في الملك ـ لكنه لم ير بدا من استقدامه الخ . . ” .
فكيف بعد ذلك كله ينحصر مصدر الرواية بالرشيد ، عدو الأمويين و أهل البيت معاً ؟! أم يمكن أن يكون الناس قد خافوا من الأمويين ، ثم من العباسيين و حتى الكسائي ـ خافوا ـ أن يظهروا أمراً يتضمن فضيلة لأحد أئمة أهل البيت ؟! .
فكيف إذن . . وصلت لنا فضائل علي و سواه من أهل البيت عليهم السلام رغم اجتهاد الامويين و غيرهم في طمسها و نقضها ؟! .
2. إن الرواية تنص على أن أهل مصر كان أكثرهم نصارى . . مع أنه كان قد مضى على فتح مصر أكثر من نصف قرن ؟!! .
3. تنص الرواية على أن عبد الملك لم يجب ملك الروم على رسالتيه في أمر الطراز . . و هو أمر غريب !! فلماذا لا يجيبه حتى و لو بالنفي ؟!! .
4. يلاحظ : أن الرواية تحاول التأكيد على فطانة عبد الملك ، و على غيرته الشديدة على الإسلام . . فهل يفهم من هذا أنه كان أغير ، و أفطن من الخلفاء الذين سبقوه ، فهو أكثر فطنة من الخليفة الثاني عمر ، الذي تنص الرواية نفسها على أن أبا البغل قد ضرب الدراهم الكسروية له ؟!! .
5. هل ثمة من سرِّ يكمن في المقابلة بين ما تنص عليه الرواية من أن عبد الملك قد تهدد على مخالفة أمره في الطراز بالضرب ، و الحبس الطويل . . و بين نصها على أن الإمام قد أمر بالتهديد بالقتل لكل من يخالف ما رسم في أمر السكة و النقود ؟!! .
أحسبُ أن الأمر لا يخلو من شيء ما !! هو الذي اقتضى إظهار الإمام بمظهر القاسي الذي لا يرحم ، و عبد الملك بخلافه !! .
6. يلاحظ : أن الرواية تهتم كثيراً في إعطاء أهمية قصوى لما قام به عبد الملك فهل هو من أجل أن توحي للناس بوجوب أخذ هذا الأمر مأخذ الجد بهدف تصديقه بالنسبة لعبد الملك ، و إبعاد الأنظار عن المتبني الحقيقي لقضية النقود الإسلامية ؟!! كما سيأتي .
إننا سوف نغض النظر عن كل ذلك وسواه من نقاط الضعف ، التي يمكن استخلاصها من هذه الرواية .
و نكتفي بتسجيل نقاط أربع ، رأينا : انها جديرة بالتسجيل نظراً لأهميتها ، و هذه النقاط هي :
أولاً : إن هذه الرواية تنص : على أن ملك الروم قال لعبد الملك : إنه لا ينقش من الدراهم و الدنانير شيء إلا ما كان ينقش في بلاده ، و عبد الملك يصدق بذلك و يخاف منه ؛ حيث إنه لا يمحى سب النبي ( ص ) بعد من مملكة العرب أصلاً .
مع أن الرواية نفسها تنص على أنه كان هناك ثلاث فئات من الدراهم الكسروية المتداولة في ذلك الوقت . . كما أن الدنانير الكسروية كانت متداولة في تلك الفترة بكثرة أيضاً .
فكيف يكون موقفنا من هذا التناقض الموجود في الرواية ؟! .
و لماذا الخوف من عبد الملك ؟!
و لماذا يرفض عملة الروم كلياً و يأمر بتداول النقد الفارسي الكسروي فقط إلى أن يجد الوسيلة التي تضيع على ملك الروم أهدافه و ما كان قد عقد العزم عليه ؟! .
و إذا كان قد أمر بتغيير الطراز ؛ فلماذا لا يأمر بتغيير النقد ؟!
و أين كانت عنه حينئذ فطانته و حنكته المدعاة ؟!
و أيضاً لماذا لا يعلن على الملأ كذب ملك الروم في دعواه تلك ؟! .
و لماذا ؟! و لماذا ؟ إلى آخر ما هنالك .
ثانياً : إن هذه الرواية تنص : على أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو عبد الملك ، و قد أكد ذلك و أصر عليه عدد من المؤرخين و الباحثين .
و ذكروا : أن عمر كان قد ضربها في سنة 18ﻫ . على النقش الكسروي ، و وجدت نقود مضروبة في سنة 28ﻫ أي في عهد عثمان على النقش الكسروي أيضاً . و قالوا : إن معاوية أيضاً قد ضرب نقوداً على النقش الكسروي و بعده ضربها مصعب بن الزبير على النقش ذاته فعندهم : أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو عبد الملك ، خامس خلفاء الأمويين .
و لكننا لا نستطيع أن نقبل هذا الرأي ، و نحن نرى أن هناك ما يثبت خلافه ، و بعد هذا الرأي عن الصواب . . و يدل على أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، صلوات الله و سلامه عليه . . أما قبله ، فقد أمر عمر بن الخطاب بضرب الدراهم على نقش الكسروية و شكلها باعيانها مع بعض الزيادة الطفيفة و ذلك في سنة ثمانية عشرة 3 .
و مما يدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام هو أول من ضرب النقد الإسلامي ، ما قاله جودت باشا : ” إن المسلَّم عند أهل العلم : أن الذي أحدث ابتداء ضرب السكة العربية هو الحجاج بأمر عبد الملك ، حين كان والياً على العراق من قبله ( 75 – 76 ) .
و لكن ظهر خلاف هذا عند الكشف الجديد في سنة 1276 ؛ و ذلك أن رجلاً إيرانياً اسمه جواد ، أتى دار السعادة بسكة فضية عربية ، ضربت في البصرة سنة 40 من الهجرة . و الفقير رأيتها بين المسكوكات القديمة عند صبحي بك أفندي ، مكتوب على أحد وجهيها بالخط الكوفي : ﴿ الله الصمد ، لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ﴾ و في دورتها : ” محمد رسول الله ، أرسله بالهدى و دين الحق ، ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون ” . و على الوجه الآخر : ﴿ لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ﴾ و في دورتها : ” ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة 40 ” 4 . انتهى .
و صبحي باشا هو : أحد الوزراء العثمانيين .
و قال الحلواني المدني : لم يثبت في الرواية الصحيحة : أن أحداً من الخلفاء الاربعة ضرب سكة أصلاً إلا علي بن أبي طالب ، فإنه ضرب الدراهم على ما نقله صبحي باشا المورد لي في رسالة له رسم صورة فيها ذلك الدرهم ، و عزا ذلك إلى لسان الدين ابن الخطيب في الإحاطة 5 .
و في نص آخر : ” وفي خلافة علي سنة 37 ، وكتب فيها ولي الله ، وفي سنة 38و39 بسم الله ربي ، و في درهم بالخط الكوفي في جانب منها : ﴿ الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ﴾ . و في دورته : محمد رسول الله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون . و في الجانب الآخر : ﴿ لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ﴾ و في دورته ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة أربعين ” 6 .
و قال الكتاني : و في مكتبتنا في قسم النقود دراهم مكتوبة بالكوفي عليها ﴿ لا إله إلا الله محمد رسول الله ﴾ . و في آخر الكتابة اسم ” علي ” ، يقطع الناظر المتأمل فيها ، و في كتابتها ، و نقشها القديم : أنها لعلي بن أبي طالب ” 7 .
و نقل السيد الأمين ، و الشيخ عباس القمي ، عن دائرة المعارف البريطانية ، ج 17 ص 904 عند الكلام عن المسكوكات العربية ما ترجمته :
” إن أول من أمر بضرب السكة الإسلامية هو الخليفة علي بالبصرة سنة 40 من الهجرة ، الموافقة لسنة 660 مسيحية ، ثم أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية ” 8 انتهى .
و قد وجدت نقود مسكوكة في زمن عبد الملك في سنة 77 ، و هي دينار ذهبي 9 . و في سنة 79 و هو دينار أيضاً . و سنة 80 و هو درهم فضي 10 .
و يلاحظ أن النقش الذي وجد عليها هو بذاته النقش الذي ضربه الإمام علي في سنة 40ﻫ .
و إذا تحقق لدينا أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو علي عليه السلام ، و أن عبد الملك عندما واجه تلك المشكلة مع ملك الروم ما بين سنة 74ﻫ و 77ﻫ . إنما رجع ـ بإشارة أحد أحفاد علي ( ع ) ـ إلى ما كان عليه السلام قد بدأه ـ إذا تحقق لدينا ذلك ـ .
و عرفنا : أن معاوية قد عاد و ضرب النقود على السكة الكسروية ، بمجرد استقلاله بالحكم ، و بالذات في سنة 41ﻫ . أي بعد ضرب علي عليه السلام للسكة الإسلامية بسنة واحدة فقط . . فإننا نعرف : أن معاوية قد حاول هو و من تبعه من الأمويين و أشياعهم ، و غيرهم كآل الزبير ـ كما أوضحته المكتشفات من مسكوكاتهم ـ حاول معاوية و هؤلاء ـ طمس السكة الإسلامية التي ضربها الإمام علي عليه السلام ، و إخفاءها ؛ ظلماً للحقيقة ؟ و تجنياً على التاريخ لا لشيء إلا لأن ذلك من آثار علي الذي يكرهونه كل الكره ، و يمقتون كل ما كان من قبله ، و من آثاره .
و قد وجد النقد الذي ضربه معاوية ، و صوّره جرجي زيدان في تاريخ تمدنه ، و صوّره أيضاً صاحب العقد المنير ، و غيرهما . . و إذا به قد استبدل ذلك الذي قد سنّه علي ( ع ) في النقش على النقد . . من ذكر الله و رسوله حسبما تقدم ـ استبدله ـ بنقد 11 نقش عليه صورته متقلداً سيفه .
و في نص آخر : أنه نقش عليه صورته و صورة خالد بن الوليد متقلدين سيفيهما .
و في نص ثالث : أن على أحد وجهيه : تصوير خسروا برويز ، مكتوب على جانبه الأيمن داخل الدائرة بالخط البهلوي ” معاوية أمير ورويش نيكان ” أي معاوية أمير المؤمنين ، و خارج الدائرة بالخط الكوفي : ” بسم الله ” و على جانبه الأيسر بالخط البهلوي أيضاً ” افزوتو ” .
و على الوجه الآخر : تصوير لبيت النار ، و على طرفيه الرجلان المراقبان للنار ، و قد كتب داخل الدائرة على الجانب الأيمن بالخط البهلوي كلمة : ” دان ” المخففة من دار ابجرد ، مدينة الضرب ، و على الجانب الأيسر : ” يه جهل ” أي 41 سنة الضرب 12 .
و هكذا . . يتضح أن معاوية قد حاول أن يعجل في محو كل ما هو من آثار علي و لو كان ذلك بالعودة إلى نقش بيت النار ، و غير ذلك مما تقدم و إذا كان ذلك ليس غريباً على الحجاج بالنسبة لمصعب ، حيث غير السكة التي ضربها مصعب ، و قال : ” ما نبقى من سنة الفاسق أو المنافق شيئاً ” 13 . . فما الذي يجعل ذلك غريباً على معاوية الذي جعل سب علي على المنابر سنة يهرم عليها الكبير و يشب عليها الصغير؟! .
ثالثاً : إن هذه الرواية تقول : إن الإمام الباقر هو الذي أمر عبد الملك بذلك . و إن روح بن زنباغ إنما أشار على عبد الملك به . . و هذا غير معقول :
لأن البعض يقول : إن عبد الملك قد ضرب النقود سنة 74ﻫ 14 .
و البعض الآخر يقول : إنه ضربها في سنة 75ﻫ 15 و فريق ثالث يرى أن ذلك كان في سنة 76ﻫ ، و قال البلاذري : ” عبد الملك بن مروان أول من ضرب الذهب و الورق بعد عام الجماعة” 16 و على كل حال فإنهم متفقون على أن ضرب عبد الملك للنقود كان ما بين الـ74و77 وعليه فإننا إذا ما أضفنا إلى ذلك : أن ولادة الباقر( ع ) كانت في سنة 57ﻫ . و وفاة والده زين العابدين ( ع ) كانت سنة 94ﻫ .
فإننا سنرى : أن عُمْرَ الباقر حين ضرب النقود كان ما بين 17 و 19 سنة ؛ فهو في مقتبل عمره ؛ و لم يكن له بعد من الشهرة ما يغطي على شهرة أبيه ، و لا من الشخصية ما يضارع شخصيته ، و لا كان ذكره قد سار في الآفاق بحيث يغطي على أبيه ، إلى حد أن يهمل أمره ، و تذهب منزلته لا سيما و أن أباه كان يتمتع باحترام كبير جداً ، و شهرة واسعة ، فاقت كل ذلك الذي منحه الناس و بالأخص الأمويون لأي من أبنائه ، بل و حتى آبائه الطاهرين .
فالظاهر : أن صاحب هذه القضية مع عبد الملك هو الإمام زين العابدين بالذات ، و ليس هو الإمام الباقر ( ع ) .
قال الصعدي : ” قال في الانتصار : و أول من ضرب الدراهم في الإسلام عبد الملك بن مروان سنة خمس و سبعين من الهجرة ، و كان السبب في ذلك : أن القرطاس كان يحمل إلى الروم ، و كان يكتب على عنوانه : لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم . فشق ذلك على صاحب الروم لما كان كافراً ؛ فكتب إلى عبد الملك : أما أن تزيلوا ما تكتبون على القرطاس ، أو يأتيكم على الدراهم ما تكرهون . فتحير عبد الملك في الجواب ؛ فاستحضر علي بن الحسين زين العابدين ؛ فاستشاره في ذلك .
فقال : حَرِّم التبايع إلا بما تضربه من الدراهم ، فبطل بذلك كيد صاحب الروم . فأمر أن يكتب عليها ﴿ قل هو الله أحد ﴾ إلى آخر السورة غيظاً للروم ” انتهى ، و في الشفاء نحو حديث الدراهم 17 .
و قد صرح بذلك الشهيد رحمه الله في البيان ، في باب زكاة النقدين ، حيث قال : ” و الدنانير في الدينار بزنة المثقال ، و هو لم يختلف في الإسلام و لا قبله ، و في الدرهم : ما استقر عليه في زمن بني أمية بإشارة زين العابدين الخ . . ” 18 .
و حكى في الوسائل ذلك عنه في الذكرى .
كما أن صاحب الجواهر قد صرح في كتاب الزكاة ، في مسألة أن عشرة دراهم سبعة مثاقيل : بأن ذلك كان بإشارة زين العابدين عليه السلام .
و قال ابن كثير وهو يتحدث عن السجاد : ” و قد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق ، فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه في أمر السكة ، و طراز القراطيس . . ” 19 .
و يؤيد ذلك : ان في بعض نسخ المحاسن و المساوئ قوله : ” الباقي من أهل بيت النبي ” . بدل : الباقر من . . . الخ . . و قوله : إلى موافاته علياً ؛ فلما وافاه أخبره الخبر ؛ فقال له علي الخ . . ” بدل قوله : موافاة محمد بن علي . . و فقال له محمد بن علي الخ . . 20 .
لكن باقي ما في الرواية بقى على حاله .
و بعد كل الذي قدمناه نقول : إن كون زين العابدين هو المشير على عبد الملك هو الحق الذي لا محيص عنه .
بقى علينا أن ننظر في الأمر الرابع و الأخير ؛ فنقول : و أما :
رابعاً : فلقد ذكرت هذه الرواية : أن عبد الملك قد أمر عامله على المدينة : أن يعطي الباقر !! مئتي ألف درهم لجهازه ، و ثلاثة مئة ألف درهم لنفقته !! .
فلماذا هذا السخاء العظيم من عبد الملك ؟!
فهل هو لأجل نفي تهمة البخل عنه ، و التي جعلت المؤرخين يعتبرونه أول من بخل ، حتى كان يقال له : رشح الحجر ؛ لبخله 21 ؟!
أم إننا يمكن أن نصدق : بأن ذلك أمر طبيعي ، تقتضيه الحاجة و لا سيما بملاحظة أن الإمام لابد و أن يصطحب معه جماعة من أصحابه ، يحتاجون إلى مثل هذه النفقة و مثل ذلك الجهاز ؟! .
هل يمكن أن نصدق ذلك ، و نحن نرى الشعراء ، و غيرهم يسافرون المسافات الطويلة ، و التي لا تقل عن هذه المسافة ، طمعاً بالألف درهم ، فما دون ؟! . . و أي قافلة مهما عظمت تحتاج على عشر هذا المبلغ ، بل إلى أقل منه بكثير فيه وقت كانت النقود في ذات قيمة عظيمة ، و القليل منها يقضي من الحاجات الكثير ؟! و إذا كان هذا السخاء غير طبيعي و لا مقبول . . فهل يقصد من إظهاره التدليل على مدى اهتمامه بالإسلام ، و غيرته على المسلمين ؟! .
أم أن المقصود منه مجرد التعظيم التهويل ، ليدخل في روع الناس أن عبد الملك هو أول من ضرب النقود الإسلامية حقاً ؟! .
أم إنهم يريدون أن يلفتوا الأنظار إلى حسن سلوك عبد الملك و حقيقة معاملته و إحسانه حتى لألد خصومه ، و خصوم دولته . . العلويين ؟!!
إن ما بأيدينا من الدلائل و الشواهد يؤيد هذا الاحتمال الأخير ويدعمه . ولكن وأياً كانت الحقيقة فإن النتيجة التي نستطيع أن نستخلصها بعد جولتنا هذه ، و الرأي الذي يمكننا أن نطمئن إليه في هذه القضية هو :
1. إن عبد الملك ليس هو أول من ضرب النقود الإسلامية و إنما الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
2. إن معاوية في محاولته لطمس ذلك و إخفائه قد عاد و ضرب النقود على النقش الكسروي .
3. إن قضية عبد الملك مع ملك الروم ـ بعد تطهيرها من تلك الشوائب التي علقت بها عمداً أو عن غير عمد ـ قد أربكت عبد الملك ، فاستشار السجاد ، و ليس الباقر ؛ فأشار عليه بأن يعود إلى ما رسمه علي عليه السلام من ضرب النقود بالسكة الإسلامية ، و أن ينقش عليها نفس ما نقشه علي عليه السلام ؛ ففعل عبد الملك ذلك .
جعفر مرتضى العاملي
23/صفر/1396ﻫ .
- 1. نوع من البُرُد ، و يقال للصحيفة قرطاس أيضاً .
- 2. راجع : المحاسن و المساوئ ـ للبيهقي ـ : ج 2 ص232 فما بعدها ط القاهرة ، و ط صادر ص 468 و هامش اللمعة ـ ط النجف ـ : ج 1 ص 51 فما بعدها ، و تاريخ التمدن الإسلامي : المجلد الاول ص 136 و أكملها ص 140 و حياة الحيوان : ج1 ص53 فما بعده ، و الإمام الصادق و المذاهب الأربعة : المجلد الأول ص 459 عنه ، و عن العقد المنير : ص 18 ، و هامش ص 7 من شذور العقود . . و نسبها ابن الأثير و أبو هلال العسكري في الأوائل ، و السيوطي و غيرهم لخالد بن يزيد الأموي . و هو خطأ و القصة موجودة أيضاً في أعيان الشيعة .
- 3. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : ج7 ص499 .
- 4. التراتيب الإدارية : ج1 ص421و422 ، و العقد المنير : ج1 ص44 . و حول ما كتب على النقود راجع : تاريخ الخلفاء : ص217 أيضاً .
- 5. التراتيب الإدارية : ج 1 ص 418/419 عن رسالة نشر الهذيان من تاريخ جرجي زيدان : ص5 .
- 6. التراتيب الإدارية : ج1 ص420 عن وفيات الأسلاف : ص361 .
- 7. التراتيب الإدارية : ج1 ص422 .
- 8. أعيان الشيعة : ج3 ص599 ذيل حالات امير المؤمنين ( ع ) ، تحت عنوان : ” أول من ضرب السكة الإسلامية ” ، و هدية الأحباب للقمي : ص111 عند ذكر البيهقي لكن الأول ذكر : أن طبعة دائرة المعارف هي الـ 23 و الثاني ذكر أنها الـ 13 ، و ليراجع : العقد المنير : ج1 ص45 .
- 9. العقد المنير : ج1 ص52 عن كتاب الدينار الإسلامي : ص18/19 ، و مجلة المقتطف : جزء 9 من المجلد الرابع .
- 10. مستمسك العروة الوثقى : ج1 ص571/570 ط3 .
- 11. راجع : التراتيب الإدارية : ج1 ص 419 و 422 ، و ج 2 ص 69 عن المواهب الفتحية في علوم اللغة العربية : ج1 ص 253 و 152 ، و عن تاريخ جودت باشا : المقدمة ص 274 .
- 12. راجع : تاريخ التمدن الإسلامي : ج1 ص135 ، و العقد المنير : ج1 ص194 تجد صورة هذا النقد ، و صرح المقريزي أيضاً بعودة معاوية إلى النقد الكسروي . فراجع .
- 13. راجع : العقد المنير : ج1 ص47 عن النقود العربية : ص33 . و راجع : نور القبس : ص 296 ، و فتوح البلدان ـ للبلاذري القسم الثالث ، بتحقيق صلاح الدين المنجد ـ : ص 475 ، و العراق في العصر الأموي : ص82 عن المقريزي في شذور العقود .
- 14. فتوح البلدان ـ للبلاذري ـ : قسم 3 ص 574 و 575 ، و التراتيب الإدارية : ج1 ص421 ، و العقد المنير : ج1 ص49 .
- 15. مآثر الانافة : ج 3 ص 345 ، و تاريخ الخلفاء : ص 218 ، و البحر الزخار : ج 3 ص 50 عن التخليص عن ابن سعد في الطبقات ، و التراتيب : ج 1 ص 417 و 421 عن الطبقات ، و عن المدائني .
- 16. فتوح البلدان ـ للبلاذري القسم الثالث ـ : ص576 .
- 17. راجع : جواهر الأخبار و الآثار ـ المطبوع بهامش البحر الزخار ـ : ج3 ص150 .
- 18. البيان : ط هجرية ص185 .
- 19. البداية و النهاية : ج9 ص104 .
- 20. العقد المنير : ج1 ص72/73 .
- 21. مآثر الانافة في معالم الخلافة : ج 3 ص 346 .