مناسبات

الإمام علي(ع) والشهادة

“وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[1].

الإمام علي (ع) وعشق الشهادة

من دروس الإسلام العظيمة درسٌ علّمنا إياه أمير المؤمنين(ع) بعد أن عاشه في حياته, ووصل إلى غايته ألا وهو عشق الشهادة والسير في دربها.

الإمام علي(ع) والشهادةفقد انتهت معركة بدر بعد أن قَتَل الإمام علي(ع) نصف عدد قتلى المشركين وشارك في النصف الآخر, لكنّه بقيّ حيّاً تسطع من جبهته علامة النصر, ومضت معركة أُحد, وبقي الإمام علي(ع) المدافع عن رسول الله(ص), وقد أصابته ثمانون جراحة حيث كانت الفتائل في جسده تدخل من موضع وتخرج من آخر, لكنّه لم يستشهد, فشقَّ ذلك عليه، فشكا إلى رسول الله(ص) مفتخراً: “بأبي أنت وأمي, الحمد لله الذي لم يَرَني ولَّيْتُ عنك، ولا فررت, بأبي وأمي، كيف حرمت الشهادة؟!

فقال له(ص):” أبشر، فإنّ الشهادة من ورائك”[2].

وبقي الإمام علي(ع) ينتظر ذلك اليوم, وتأتي معركة الجهاد الأخرى, ويبقى عليه السلام دون شهادة, فيذهب إلى رسول الله(ص) مذكّراً: “يا رسول الله، أوليس قد قلتَ لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين, وحيزت عنِّي الشهادة, فشقَّ ذلك عليَّ فقلت لي :أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟! فقال له رسول الله(ص): “إن ذلك كذلك، فكيف صبرك إذاً“؟

فأجاب الإمام(ع): “يا رسول الله, ليس هذا من مواطن الصبر, ولكن من مواطن البشرى والشكر”[3].

وكانت الشهادة عنوان الدعاء لأمير المؤمنين وقت الحرب، فمن دعائه(ع) لمّا عزم على حرب صفّين : ” اللهم ربَّ السقف المرفوع…. إن أظهرتنا على عدونا، فجنِّبنا البغي وسدِّدنا للحق . وإن أظهرتهم علينا, فارزقنا الشهادة, واعصمنا من الفتنة “.[4]

وكانت الشهادة خاتمة رسائله دعاءً منه لله تعالى:

ففي ختام كتابه لمالك الأشتر لما ولاّه مبصر: “…وأنا أسأل الله بسعة رحمته  وعظيم مواهبه وقدرته على إعطاء كل رغبة…أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة”[5].

وكان أمير المؤمنين (ع) يتحسّر على فقدان إخوانه وعشّاق الشهادة في صفّين أمثال عمّار(رض), فكان(ع) يقول: “… ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء… أين إخواني الذين ركبوا الطريق, ومضوا على الحقّ !… الذين تعاقدوا على المنية…”[6]

وكان(ع) حينما ينظر إلى أولئك الذين خذلوه يقول: “فوالله، لولا طمعي عند لقاء عدّوي في الشهادة, وتوطيني نفسي عند ذلك, لأحببت ألاَّ أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً”[7].

وكان يحرِّض الناس على القتال قائلاً: ” أيها الناس، إنَّ الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب ، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل، والذي نفس عليٍّ بيده، لألفُ ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش “[8].

وكان الإمام(ع) ينتظر ساعة شهادته باشتياق, وكان في مرضه الشديد عارفاً بأنّه لن يؤدّي إلى موته؛ لأنّه كان ينتظر وعد الشهادة, لذا أجاب أبا فضالة حين خاف عليه الموت من مرضٍ ألمّ به:” يا أبا فضالة، أخبرني حبيبي وابن عمي (ص): أنّي لا أموت حتى أؤمَّر, ولا أموت حتى أقتل, ولا أموت حتى يخضّب هذه من هذه بالدم، وضرب بيده إلى لحيته وإلى هامته – قضاء وعهداً معهوداً إليَّ وقد خاب من افترى”[9].

وجاء وقت الشهادة

وكان الإمام علي(ع) ينتظر شهر رمضان الذي يعلم أنّه شهر شهادته, وكيف لا ؟! وهو يتذكّر أنه سأل رسول الله (ص): “ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ فقال (ص): يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن ارتكاب محارم الله عزّ وجل، ثم بكى(ص),فقال له علي (ع)ما يبكيك؟ فقال (ص): يا علي, أبكي لما يُستحلُّ منك في هذا الشهر”[10].

وكان الإمام علي(ع) ينتظر تلك الليلة المباركة التي سيصلّي في فجرها صلاةً كم كان قد انتظرها! إنَّها تلك الصلاة التي قال عنها رسول الله(ص): ” كأنّي بك وأنت تصلي لربّك ، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، فضربك ضربة على قرنك, فخضّب منها لحيتك “[11].

وعرف أمير المؤمنين تلك الليلة, وخرج إلى المسجد مستبشراً. لقد أبت مسيرة الإمام علي(ع) إلا أن يكون المسجد مبتدأ ولادته ومنتهى شهادته. لقد دخل (ع) الصلاة هائماً في الله, وحينما شعر بضربة الشهادة على رأسه كانت كلمته التي عبّر فيها عن نتيجة كلّ ذلك العشق للشهادة, فقال(ع):” فزت وربّ الكعبة” وقال بعدها: “والله ما فاجأني من الموت وارد كرهته ، ولا طالع أنكرته ، وما كنت إلا كقارب ورد ، وطالب وجد”[12].

خصال الشهداء

تُرى لما كلّ هذا الحب من أمير المؤمنين للشهادة والسعي إليها؟

إنّ جواب ذلك يكمن في قوله تعالى“وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ …”[13].

إنّ حال الشهيد بعد قتله ليس سباتاً وركوداً, بل هو في حياة حقيقية فيها الرزق المتجدّد من فضل الله تعالى.

ماذا يُرزقون؟

عن الإمام الصادق(ع):” قال رسول الله(ص): للشهيد سبع خصال من الله:

الأولى: أول قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب .

والثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه فتقولان: مرحبا بك ويقول هو مثل ذلك لهما.

والثالثة: يكسى من كساء الجنة.

والرابعة: يبتدره خزنة الجنة من كل ريح طيبة، أيّهم يأخذ منه.

 والخامسة: أن يرى منزله.

 والسادسة: يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت.

والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لراحة لكلِّ نبيٍّ وشهيد”[14].

وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ

إنّ قول تعالى هذا يعني:

1- أنّ هؤلاء الشهداء تأتيهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.

2- استمرار الإخوّة والتفكير بالجماعة، فالموقف في البرزخ بعيد عن الأنانية.

أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

سئل أمير المؤمنين عن قوله تعالى :”أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[15],من هم هؤلاء الأولياء. فأجاب(ع):” هم قوم أخلصوا لله تعالى في عبادته ، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، فعرفوا آجلها ، حين غرّ الناس سواهم بعاجلها ، فتركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم، وأماتوا منها ما علموا أنّه سيميتهم “[16].

ممّا يخاف الإنسان؟ الجواب أنّ سبب خوفه أحد أمرين: إمّا من محذور يخاف وقوعه وهو بعد لم يقع, أو من من نعم يخاف زوالها.

مما يحزن الإنسان؟ الجواب من محذور وقع, مثل فقد الولد, وخسارة المال….

 بناءًا عليه، فإنّ الشهداء في مقامهم البرزخي لا خوف ولا حزن, فلا خوف؛ لأنَّ النعم دائمة, ولا حزن على فقدها؛ لأن”مَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ3″[17].

“يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ “[18]

رغم كلّ الحفاوة السابقة بالشهداء, والنعم الكبيرة المغدقة عليهم، فإنهم يستبشرون بنعمة آتية تتحقق من مشهد يوم القيامة.

·   لعلّها نعمة الشفاعة التي تحدّث عنها الرسول الأكرم(ص) بقوله الوارد عنه: “ثلاثة يشفعون إلى الله, فيشفّعون: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء”[19].

·   ولعلّها نعمة الموقف الذي لو رآهم فيه الأنبياء(ع) لترجّلوا.

·    ولعلّه نعمة اللقاء مع الأنبياء والأوصياء…

أعرفت معنى قول رسول الله : ما من نفس تموت لها عند الله خير يسّرها أنّها ترجع إلى الدنيا ، ولا أن لها الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد ، فإنّه يتمنى أن يرجع، فيقتل في الدنيا ، لما يرى من فضل الشهادة”[20].


[1]سورة آل عمران, الآيات 169-171.

[2]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار،ج40, ص 114.

[3]الريشهري, محمد, ميزان الحكمة, ج5, ص 190.

[4]نهج البلاغة, خطب الإمام علي(ع), ج2, ص 84.

[5]المجلسي, محمد باقر، بحار الأنوار, ج74, ص 265.

[6]نهج البلاغة, خطب الإمام علي(ع), ج2, ص  109.

[7]الريشهري, محمد, ميزان الحكمة, ج2, ص 1513.

[8]الريشهري, محمد,  ميزان الحكمة, ج2, ص 1514.

[9]المرعشي, النجفي، شرح إحقاق الحق, تحقيق شهاب الدين النجفي, (لا,ط), قم, (لا,ت), ج8, ص 785.

[10]البروجردي, جامع أحاديث الشيعة, ج9, ص 21.

[11]الصدوق, الآمالي, ص 155.

[12]نهج البلاغة, خطب الإمام علي(ع), ج3, ص 21.

[13]سورة آل عمران, 169, 170.

[14]المشهدي, محمد, تفسير كنز الدقائق, تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي, ط1, مؤسسة النشر الإسلامي, قم, 1410هـ, ج2, ص 534.

[15]سورة يونس, الآية, 62.

[16]المجلسي, محمد باقر,  بحار الأنوار, ج66, ص 319.

[17]سورة النحل, الآية, 96.

[18]سورة آل عمران, الآيات 169-171.

[19]المجلسي, محمد باقر, بحار الأنوار, ج8, ص 34.

[20]الريشهري, محمد, ميزان الحكمة, ج2, ص 1515.

المصدر:موقع سراج القائم (عج)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى