نور العترة

التحقيق في سند حديث الثقلين من رواية الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري …

قال أبو عيسى الترمذي: (حدّثنا نصر بن عبد الرّحمن الكوفي، قال: حدّثنا زيد بن الحسن، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله «صلّى الله عليه وسلّم» وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «أيّها النّاس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي»)
ثم قال الترمذي: (وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد ابن أرقم، وحذيفة بن أسيد، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وزيد بن الحسن، قد روى عنه سعيد بن سليمان، وغير واحد من أهل العلم) 1.
وليس من علّة في رجال سند الحديث من رواية الترمذي هذه سوى ما ورد من جرح في زيد بن الحسن الأنماطي، وزيد بن الحسن هذا وثقه ابن حبّان، فذكره في كتابه الثقات 2، وعدّله الترمذي، فهو عنده في مرتبة «صدوق»، فيكون حديثه عنده من الحسن لذاته، وذلك لأنّ الترمذي قال: (وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه).
قال الشيخ الألباني: (جمع الترمذي بين لفظتي «غريب» و «حسن» إنّما يعني في اصطلاحه أنّه حسن لذاته) 3.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير 4، ولم يورد فيه جرحًا، وذهب بعض علماء أهل السّنة إلى أنّ من ترجم له البخاري في تواريخه ولم يجرحه بشيء، فهو ثقة عنده، قال التهانوي: (وكذا كل من ذكره البخاري في تواريخه ولم يطعن فيه فهو ثقة، فإنّ عادته ذكر الجرح والمجروحين) 5.
نعم جرحه أبو حاتم الرّازي بقوله: (منكر الحديث) 6، وقال عنه ابن حجر: (ضعيف) 7، وترجم له الذهبي في ديوان الضعفاء والمتروكين 8، وتاريخ الإسلام 9، والمغني في الضّعفاء 10، وتذهيب تهذيب الكمال 11، ونقل قول أبي حاتم فيه، وترجم له في الكاشف، وقال: (ضعّف)12.
أمّا الذّهبي وابن حجر فهما من المتأخرين، وحكمهما عليه بالضّعف اجتهادًا منهما لم يذكرا سببه، فلا يعتدُّ بجرحهما لأنّه جرح مجمل لم يبيّنا سببه، ويحتمل احتمالًا كبيرًا، بل هو الأظهر أنّهما ضعّفاه لقول أبي حاتم فيه بأنّه «منكر الحديث»، خصوصًا وأنّ الذهبي وفي أكثر من كتاب له اقتصر في ترجمة زيد على ذكر قول أبي حاتم، فلم يورد جرحًا لمعتبر من رجال الجرح والتعديل فيه، فيكون مرجع جرحهما له هو جرح أبي حاتم، وجرح أبي حاتم ليس من الجرح الذي بموجبه تطرح رواية الرّاوي مطلقًا، ولا تقبل بحال من الأحوال.
وذلك لأنّ علماء علوم الحديث اختلفوا في عبارة «منكر الحديث»، هل هي من الجرح المجمل أم المفسّر؟، فذهب إلى كل واحد من القولين فريق، هذا إذا كان المراد بها الجرح، لأنّ هذه العبارة يطلقها بعض رجال الجرح والتعديل ويريد بها تفرّد الرّاوي برواية بعض الأحاديث، فلا تكون جرحًا، وإن تبيّن أنّها جرح فإنّها جرح في حفظ الرّاوي لا في صدقه وعدالته.
قال الشيخ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل: (وفلان «منكر الحديث» ذكر بعضهم أنّ هذا جرح مجمل، لأنّ المنكر في تعريفه هو الضعيف الذي خالف المقبول، وكلمة «ضعيف» في ذاتها جرح مجمل، فصحّ أنّ قولهم: «منكر الحديث» جرح مجمل -كذا قيل-والظاهر أنّ هذا جرح مفسّر، وهو يدلُّ على ضعف في حفظ الرّاوي، بدليل أنّه خالف المقبول، فاتّضح أنّه ضعّفه من قبل حفظه، إلاّ إذا قال ذلك البخاري، فهو جرح مجمل، لأنّ البخاري يقول ذلك فيمن لا تحلُّ الرّواية عنه، وقد سبق أنّ قولهم: «فلان لا تحلّ الرّواية عنه»، من ألفاظ الجرح المجمل، لأنّه لم يعلم سبب ذلك، لكن يتنبّه أنّهم يطلقون فلان «منكر الحديث» ويقصدون التّفرّد، فإذا علم أنّهم يقصدون الجرح، فهو جرح مفسّر، والله العالم) 13.
ولا يعلم هل أراد أبو حاتم الرّازي من قوله عن زيد بأنّه «منكر الحديث» الجرح أم التفرّد، ولو سلّمنا أنّه أراد الجرح، فإنّ أبا حاتم من المتشدّدين جدّاً في الجرح، فهذا الذهبي يقول عنه: (إذا وثّق أبو حاتم رجلًا فتمسّك بقوله، فإنّه لا يوثّق إلاّ رجلًا صحيح الحديث، وإذا ليّن رجلًا، أو قال فيه: «لا يحتج به»، فتوقّف حتّى ترى ما قال غيره فيه، فإن وثّقه أحدٌ فلا تبن على تجريح أبي حاتم، فإنّه متعنّت في الرّجال، قد قال في طائفة من رجال «الصّحاح»: ليس بحجة، ليس بقوي، أو نحو ذلك) 14.
وقال أيضًا: (يعجبني كثيرًا كلام أبي زرعة في الجرح والتّعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنّه جرّاح) 15.
وقال أبو الحسنات: (ومنها 16 أن يكون الجارح من المتعنتين المتشدّدين، فإنّ هناك جمعًا من أئمة الجرح والتعديل لهم تشدّد في هذا الباب، فيجرحون الرّاوي بأدنى جرح، ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أولي الألباب، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر، وجرحه لا يعتبر إلاّ إذا وافقه غيره ممن ينصف ويعتبر.
فمنهم أبو حاتم، والنّسائي، وابن معين، وابن القطّان، ويحيى القطّان، وابن حبّان، وغيرهم، فإنّهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنّت فيه، فليتثبّت العاقل في الرّواة الذين تفرّدوا بجرحهم وليتفكّروا فيه) 17.
وقال الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم: (من هو متعنّت في الجرح متثبّت في التعديل، يغمز الرّاوي بالغلطتين والثلاث، ويليّن بذلك حديثه، ومن هؤلاء شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطّان، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرّازي، والنسائي) 18.
وقال الشريف حاتم بن عارف العوني في شرحه لموقظة الذهبي: (ثمّ ذكر هنا الإمام الذهبي الحاد والمعتدل والمتساهل، فذكر القطّان، وابن معين، وأبا حاتم، وابن حراش، أنّهم من المتشدّدين، وزاد عليهم في كتب أخرى له شعبة، وأبا نعيم الفضل ابن دكين، وعفّان بن مسلم، والنّسائي، وابن حبّان، وأبا الفتح الأزدي) 19.
والذي نخلص إليه من كل ذلك، أنّ جرح أبي حاتم لزيد بن الحسن القرشي الأنماطي لا يعتدُّ به، لما هو معلوم عنه من التّعنّت في الجرح والتّشدد فيه، فيقدّم عليه تعديل ابن حبّان 20، وأبي عيسى الترمذي، هذا أوّلًا.
ثانيًا: قلنا أنّ قول أبي حاتم في زيد بن الحسن بأنّه «منكر الحديث» لا يعلم هل أراد منه الجرح أم أراد به تفرّد زيد برواية بعض الأحاديث، وحتّى لو قلنا بأنّه أراد الجرح، وأنّه جرح في حفظ زيد، فإنّ زيدًا لم ينفرد برواية هذه الرّواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق «عليه السّلام»، وإنّما تابعه عليها متابعة تامّة الرّاوي حاتم بن إسماعيل، وذلك عند الرّافعي في كتابه «التدوين»، فقال: (وروى أحمد بن ميمون، عن محمد بن مدان، وحدّث سبطه أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن ميمون عنه، وعن محمد بن الحجّاج، قالا: حدّثنا محمد بن مهران، حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر، أنّ النبي «صلّى الله عليه وسلّم» قال يوم عرفة في حجّته على ناقته القصواء:  «أيّها النّاس، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي») 21.
والنتيجة: أنّ طريق الترمذي لحديث الثقلين من رواية زيد بن الحسن الأنماطي، هو طريق حسن كما ذهب إلى ذلك أبو عيسى الترمذي22.

  • 1. سنن الترمذي ٦/131، رواية رقم:3786.
  • 2. الثقات ٦/٣١٤.
  • 3. سلسلة الأحاديث الصحيحة ٢/١٨٥.
  • 4. التاريخ الكبير ٣/٣٩٢.
  • 5. قواعد في علوم الحديث، صفحة 223.
  • 6. الجرح والتعديل ٣/٥٦٠، رقم الترجمة: ٢٥٣٣.
  • 7. تقريب التهذيب، صفحة ٣٥٢، رقم الترجمة: ٢١٣٩.
  • 8. ديوان الضعفاء والمتروكين، صفحة ١٥٠، رقم الترجمة: ١٥٢٦.
  • 9. تاريخ الإسلام ١٣/١٧٩، رقم الترجمة: ٩٦.
  • 10. المغني في الضّعفاء ١/٣٥٨، رقم الترجمة: ٢٢٦٧.
  • 11. تذهيب تهذيب الكمال ٣/٣٤٤، رقم الترجمة: ٢١٢٤.
  • 12. الكاشف ١/٤١٦، رقم الترجمة: ١٧٣١.
  • 13. شفاء العليل بألفاظ الجرح والتعديل، صفحة ٥٢٨.
  • 14. سير أعلام النبلاء ١٣/٢٦٠
  • 15. سير أعلام النبلاء ١٣/٨١.
  • 16. أي من موارد رد الجرح وتقديم التعديل عليه.
  • 17. الرّفع والتكميل في الجرح والتعديل، صفحة ١١٧.
  • 18. ضوابط الجرح والتعديل، صفحة ٤٦.
  • 19. شرح الموقظة، صفحة ٢٤٨.
  • 20. وزيد بن الحسن ليس من المجهولين حتّى يردُّ توثيق ابن حبّان له.
  • 21. التدوين ٢/٢٦٦.
  • 22. المصدر كتاب “حديث الثقلين فوق الشبهات” للشيخ حسن عبد الله العجمي، نقلا عن الموقع الرسمي لسماحته حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى