إسئلنا

الديمقراطية الحديثة…

لعل مشكلة الفكر الإسلامي المعاصر في علاقته بمسألة الديمقراطية، وتكوين المعرفة بها، أنه لم يتابع تراكمات ما أنجزه المصلحون المسلمون في القرن التاسع عشر الميلادي، من إصلاحات وتجديدات في المجال الفكري والديني، لهذا فقد ظهر بين هذين العصرين التباين والاختلاف في الاتجاهات والمسلكيات، التباين الذي فسره البعض بالقطيعة المعرفية، حيث اختلفت نوعية وطبيعة الاهتمامات والاولويات الفكرية والعملية. وعدت هذه القطيعة سبباً مهماً في التراجع الفكري الذي أصاب الفكر الإسلامي في مرحلته المعاصرة، والممتدة تحديداً من الخمسينيات إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
وتكرس هذا التراجع مع قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين، التي دخلت في خصومات وتصادمات مع الخطابات الإسلامية آنذاك، وذلك حين تبنت هذه الدولة خيارات فكرية وتشريعية من خارج المنظومة الإسلامية، وفتحت المجال من جهة أخرى، أمام انبعاث وتنامي الإيديولوجيات غير الإسلامية، والتي دخلت بدورها أيضا، في صدام يمكن وصفه بالعنيف مع الفكر الإسلامي بكل خطاباته واتجاهاته.
لهذا أصبح الفكر الإسلامي في ظل هذه الوضعيات مسكوناً بهاجس الخوف على الهوية، وأنه بات معرضاً للغزو الفكري والاختراق الثقافي، لذلك لم يعد بامكانه تطوير معرفته بالديمقراطية التي زج بها في معترك الصراع الإيديولوجي، حين حاولت هذه الإيديولوجيات انتساب الديمقراطية لها، واعتبرتها من مقولاتها العظمى، التي بالغت في تبجيلها والتفاخر بها. الوضع الذي خلق حاجزاً نفسياً يمنع ويعرقل اقتراب الفكر الإسلامي من فكرة الديمقراطية، خصوصاً بعد أن كانت تصور هذه الفكرة بتلازمها الذي لا ينفك مع العلمانية تارة، وانتسابها مرجعياً إلى الفلسفة الليبرالية تارة أخرى. التلازم والانتساب الذي وضع هذه المرة حواجز فكرية وثقافية وقيمية أمام الفكر الإسلامي من الاقتراب والتفاعل مع فكرة الديمقراطية. فأصحاب هذه الإيديولوجيات ساهموا في دفع الفكر الإسلامي، لتكوين صورة ملتبسة وغير ناضجة عن الديمقراطية.
لهذا فقد غلب على الفكر الإسلامي في هذه المرحلة، النظر إلى الديمقراطية من وجهتها المذهبية والفلسفية، الكلية والعامة، والتي تعارض من هذه الجهة الإسلام والنظام الإسلامي. وهذا ما تحدث عنه شارحاً له الدكتور محمد المبارك عام 1968م، في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث ومواجهة الأفكار الغربية)، فالديمقراطية كما يقول باعتبارها (نظاماً سياسياً في أوروبا، اقترنت بأفكار ومفاهيم عن الإنسان والمجتمع، وانبثقت عن فلسفة لا يقبلها الإسلام، وقد تتعارض مع فلسفته ونظرته في كثير من نقاطها.. وخلاصة القول إننا إذا اعتبرنا الديمقراطية مذهباً اجتماعياً قائماً بذاته، فليس لنا أن نقول إنها من الإسلام، أو أن الإسلام يقبلها، إذ هما مذهبان مختلفان في أصولهما وجذورهما وفلسفتهما، ونتائج تطبيقهما)
وبصورة عامة يمكن القول أن الفكر الإسلامي في هذه المرحلة كان محكوماً بذهنية الصراعات الإيديولوجية، لذلك أصبح مهموماً ومشغولاً بمنهج المقاربات والمقارنات العامة والكلية، التي تهدف إلى تأكيد وإثبات، تمايز وتفاضل وتعارض الإسلام والفكر الإسلامي مع باقي الإيديولوجيات الأخرى، التي وصلتنا من أوروبا غرباً وشرقاً.
وفي هذا النطاق أنجز الفكر الإسلامي تراكماً مهماً على مستوى المؤلفات والكتابات التي تتباين من حيث خبرتها المنهجية وكفاءتها العلمية. وفي هذا الإطار كذلك، تحدد الفهم والموقف من الديمقراطية، حيث توجه النظر إليها من جهة المقارنة بينها، وبين الإسلام بصور متعددة، بين من يغلب المشتركات، وبين من يغلب الافتراقات، وبين من يغلب التصادمات.
وخلاصة الأمر أن الفكر الإسلامي في هذه المرحلة تراجع موقفه من الديمقراطية، ولم يتقدم باتجاه تطوير المعرفة بها، وانقطع عما أنجزه المصلحون المسلمون في عصر الإصلاح الإسلامي، ولم يبن أو يستعن بتراكماته ومنجزاته، وظل موقفه في العموم الأغلب مربكاً ومتوتراً وسجالياً تجاه الديمقراطية1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 2 أغسطس 2006م، العدد 14585.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى