التاريخ الإسلاميالتعليمالفكر و التاريخمقالات

عصر النهضة.. دراسات ومناقشات…

الدراسة الثالثة.. أسس التقدم عند مفكري الإسلام

شرع الدكتور فهمي جدعان في جمع مادة كتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث)، منذ مطلع سنة 1973م، وعكف على صياغة صورتها الفكرية واللغوية الأولى خلال السنة الجامعية 1975-1976م، حين منحته الجامعة الأردنية إجازة تفرغ علمي قضاها في فرنسا، ثم أدخل عليها بعد ذلك تعديلات وإضافات، بلغت بها الصورة التي خرج عليها الكتاب سنة 1979م.
تقصَّد جدعان في هذا الكتاب تحليل قضية اعتبرها من أخطر القضايا التي شغلت الفكر العربي الحديث، هي قضية الترقي أو التقدم، كما تبلورت في أعمال أكثر المفكرين العرب، والتي جاءت تجسيداً لوجود وعي ذاتي أصيل وفاعل في التاريخ، وهذه القضية ربما تكون الوحيدة التي تستقطب كافة تجليات الفكر العربي الحديث، وتثوي وراء جل الفعاليات النظرية والعملية، التي حملت المثقفين العرب على تباين مواردهم ومقاصدهم، لأن يسهموا في عمليات الهدم والبناء في العالم العربي الحديث.
ولا يزعم جدعان، بأن أحداً قبله لم يلتفت إلى هذه القضية، فإن الدراسات التي تدور حول النهضة والإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني في العالم العربي لا يسهل حصرها، لكنه لا يتردد في الزعم أن هذه الدراسات عربية أو غربية، هي غير كافية من ناحية، ولا تلتزم دوماً جانب الدقة وسلامة القصد من ناحية ثانية، وهذا لا يعني عنده أن دراسته ستكون كافية ونهائية، لكنها تطمع في أن تسد فراغاً لم يسده أحد من قبل، كما تتطلع أن تقدم فهماً لهذا الفكر أقرب إلى الدقة والأمانة، وينأى بأهله عن مظان الشبهة والزلل والتشويه.
ولا يتحرج جدعان كثيراً حسب قوله، من الإلماع إلى هذه المظان، وذلك بسبب ما تبيَّنه في أعمال الخائضين في الفكر العربي الحديث من ميل به إلى الهوى، أو من اختزال له في هذا التيار الضيق الضحل أو ذاك، أو توسع به ليحتضن كل نحلة جلَّت أو هزلت، أو من اقتطاع له من التاريخ جملة، أو إجمال له فيه كلية، بشكل يعريه ذلك الاقتطاع من أصوله، وينكر عليه هذا الإجمال تميزه وتمايزه، أو ما أشبه هذا وذاك من محاذير يقع فيها حَسَن النية أحياناً، وسيئ النية أحياناً أخرى.
وذكر جدعان أنه حرص في هذا الكتاب، على التعلق بثلاثة أمور: أولها إحياء أعمال عدد من المفكرين العرب المسلمين الذي أهملتهم الدراسات الحديثة بالإجمال إهمالاً لا يغتفر، ثانيها توسيع دائرة البحث الجغرافية بحيث تحتضن مفكري المشرق العربي ومغربه على حد سواء، ثالثها الهجر المنهجي للطريقة التشريحية الباردة في التعامل مع الثقافة العربية الإسلامية.
ومن جهة المنطلق، يرى جدعان أن الذي ينطلق منه هذا الكتاب، هو الاعتقاد بأن قطيعة كاملة مع الأصول لم تحدث في الفكر العربي الحديث إلا في دوائر محدودة جدًّا، والطرح الصحيح لهذا الفكر -في نظره- يكمن في اعتبار أن الهواجس الحديثة قد ظلت مطلة باستمرار، في القطاع الكبير من تجلياته على وجوه الفكر العربي الكلاسيكية المختلفة.
أما أولئك الذين أداروا ظهورهم للأصول، وطرحوا مفهوم النهضة العربية الحديثة على أسس مقطوعة الصلة بالأصول، فهذا المنهج لا يرتضيه جدعان ولا يتفق معه، وحسب رأيه أننا لا نستطيع فهم الفكر العربي الحديث، إلا إذا استوعبنا مبادئ الفكر العربي السلفي ومقدماته، معتبراً أن كل محاولة لبتر هذا الفكر، لا بد أن تؤول بصاحبها إلى سوء فهم وتقدير لهذا الفكر.
لهذا حبذ جدعان الكلام على أزمنة حديثة عربية، دون الكلام على عصر حديث، ومن شأن هذا الموقف أن يقر في الأذهان فكرة تبدو لجدعان صادقة تماماً، وهي أن الأزمنة الحديثة العربية تبدأ مع ابن خلدون بالذات، لا مع مدافع نابليون التي يقال: إنها أيقظت مصر والعالم العربي من السبات العميق.
وما يعنيه جدعان بمفكري الإسلام، يتحدد في فريق معين من المثقفين، نسبتهم إلى الإسلام ليست نسبة عادية، مستقاة من الانتماء إلى دين الإسلام انتماء إرثيًّا أو جغرافيًّا أو حضاريًّا عامًّا أو ما أشبه ذلك، وإنما هم -في نظر جدعان- فريق من الكتاب أو المفكرين ينتمي معظمهم إلى فئة المثقفين المتنورين بالعلوم العصرية، بعضهم ينتمي إلى فئة الشيوخ الإصلاحيين، وقليل منهم ارتبط اسمه بحركات دينية وسياسية، وأغلبهم قد نشط نشاطاً فرديًّا خالصاً، وما يجمع بينهم اشتراكهم في الاعتقاد بأن الإسلام كدين وثقافة وحضارة، ينبغي أن يقوم بدور فعال في توجيه الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ومن هذه الجهة، ميز جدعان مفكري الإسلام هؤلاء، عن فريق آخر من المفكرين الذين لا نزاع أنهم مسلمون أيضاً، لكنهم في نظره لم يخصوا الإسلام بدور فاعل في كتاباتهم ومشروعاتهم الأدبية والفكرية، أو أنهم عرفوا بمواقف لا تكترث بالإسلام، أو لا تخلو من عداء له، أو لصورة ما من صوره.
وحين توقف جدعان أمام مفهوم التقدم، تنبه إلى اعتراض، له ما يسوغه حسب قوله، وتحدد هذا الاعتراض في أن مفهوم التقدم في العصر الحديث له معنى اصطلاحي خاص لا يجوز التهاون في إطلاقه، وهذا المعنى ليس هو المعنى الشائع عند مفكري الإسلام المحدثين، الذين يصعب القول: إنهم بوصفهم مسلمين مستعدون للأخذ به، أفلا يكون الأصح إذاً أن يدور الكلام على مفهوم النهضة عند هؤلاء، لا على مفهوم التقدم؟
هذا الاعتراض في نظر جدعان وجيه، ويرى أن الخلط في المفاهيم أمر مجاف للدقة العلمية، وبالفعل اختار جميع الدارسين للفكر العربي الحديث مصطلح النهضة، ووسموا به مجمل الإنتاج الفكري في القرنين التاسع عشر والعشرين.
أمام هذا الاعتراض، اعتبر جدعان من وجه أول، أن بعض وجوه مفهوم التقدم التنويري قد لاقت صدى لا ينكر عند هؤلاء المفكرين المسلمين، ومن وجه ثانٍ أن مصطلحي التقدم والترقي قد تردد في كتابات هؤلاء المفكرين أكثر من مصطلح النهضة الذي لم يستخدم إلا قليلاً.
مع ذلك لا يبدو عند جدعان، أن ما أسماه صراع المصطلحات يعد خطيراً، وبإمكانه أن يسلم بما يطالبه به بعض الدارسين من ضرورة الكلام عن أسس النهضة، لا عن أسس التقدم، أو الإقرار بأن التقدم المقصود هنا هو في الحقيقة مجرد نهضة فحسب، وفي هذه الحالة يرى جدعان أن احتفاظه بمصطلح التقدم جاء مرتفقاً بالاستخدام العام للكلمة من ناحية، وباستخدام المفكرين العرب المسلمين أنفسهم لهذه الكلمة من ناحية ثانية.
وما يهم جدعان أن ينبه عليه، أنه لا يؤرخ للفكر العربي الحديث، فقد قصر جهده على دراسة فريق لا يستوعب كل ما انطوى عليه هذا الفكر، كما أنه لا يؤرخ تاريخاً كاملاً للمشكلة التي اختارها موضوعاً لبحثه، فإن الهم الأساسي قد تمثل عنده في اختيار أكثر الأعمال تعبيراً عن إشكالية التقدم، من أجل تحليل هذه الإشكالية، وبيان العناصر الأساسية المكونة لها.
والتحليل الذي يرتضيه جدعان لا ينفصل عن التاريخ، فقد لجأ إلى طريقة يتعانق فيها الآمر التاريخي بآمر التحليل، فلا هي بالتاريخ الخالص، ولا هي بالتحليل المتفرد بالعمق، ولكنها مزيج من الاثنين تضعنا على أرض التاريخ والمعرفة في آن واحد.
وفي الطبعة الثالثة من الكتاب الصادرة سنة 1988م، لمس جدعان إقبال جمهرة واسعة من القراء على كتابه، وبات حسب قوله قرير العين، فقد أغدق القراء والنقاد على هذا الكتاب، من التقريظ والعطف والثناء، فوق ما كان ينتظر، وكان ذلك عزاء شافياً له عن سنوات العمل المضنية التي صرفها فيه.
أما الأصوات الناقدة للكتاب، فهي ثلاثة أصوات وصفها جدعان بالمنكرة، صوت أول أخذ عليه أنه مصاب بلوثة تقدمية، وصوت ثانٍ زعم أن الروح التي سرت في الكتاب هي روح سلفية، وصوت ثلاث أداه بصره إلى ألَّا يرى في الكتاب إلا عدمية متحدرة بصاحبه من هزيمة حزيران النكدة.
وعند تحقيق جدعان في هويات أصحاب هذه الأصوات، لم يكن من العسير عليه حسب قوله، أن يتبين في الصوت الأول وجه الفقيه المعاصر المنبت الصلة بأزمنة التنوير الإسلامية البديعة، وبأزمنة التنوير الحديثة المذهلة على حد سواء.
وتبين لجدعان في الصوت الثاني، وجه واحد من الجند القدامى لماركسية آفلة، وفي الصوت الثالث وجه باطني متخف في أهاب داعية قومي غيور، قصارى أمره أن يعظ أمة العروبة موعظة التفاؤل، ويعلمها اكتساب فضيلة الطاعة، فكان ذلك وحده مسوغاً له لئلَّا يشغل نفسه بدفع شيء من هذه النقائص.
وعن طبيعة هذا العمل، يقول جدعان: إن هذا العمل هو عمل تحليلي نقدي ذو غرضين: الأول ملء فجوة عميقة في تاريخنا الفكري، والثاني الإسهام في بناء الوعي العربي الحالي والقابل وفقاً لنهج العقلانية النقدية المشخصة، وما جاوز هذين الغرضين، أو قصر عنهما يظل فرعاً لم يكن التوجه إليه، أو التوسل به، في البحث أمراً مقصوداً في ذاته ولذاته.
وما بين الطبعة الأولى من الكتاب والطبعة الثالثة، حدثت أمور كثيرة، مع ذلك يرى جدعان أن لا شيء مما حدث يبدل من واقع الأفكار والتحليلات التي اشتمل عليها الكتاب، وقصارى ما حدث لا يجاوز عملية تجذر غال في محور يمثل أحد المحاور الرئيسية التي دار عليها الكتاب، هو الأساس السياسي للتقدم.
والنظر في بعض مسائل الكتاب وقضاياه، أفضى بجدعان إلى تأملات جديدة مشرعة على المستقبل، وبدا له أن المكان الطبيعي لها هو خاتمة الكتاب، فعمد إلى هذه الخاتمة بالتعديل الجذري الواسع، جاعلاً قوامها قولاً جديداً في الإسلام والمستقبل، اقتبس أجزاءه الأساسية من كتابه (نظرية التراث) الصادر سنة 1985م.
وأما متن الكتاب، فلم يتبين لدى جدعان ما يلجئ فيه إلى أي تعديل أو تغيير جذري، ورغم أن دراسات الفكر العربي الحديث قد احتلت مكاناً بارزاً في خارطة القوى الإبداعية العربية خلال السنوات آنذاك، إلا أن جدعان متأسفاً لم يجد فيها ما يمكن أن يغني على وجه الحقيقة، الصيغة التي انتهى إليها هذا الكتاب قبل عشر سنوات.
وفي الطبعة الرابعة الصادرة سنة 2010م، اعتبر جدعان أن الكتاب بات مرجعاً أكاديميًّا وفكريًّا وثقافيًّا يحال إليه كل الذين يعنون بالإسلام في العالم العربي الحديث، وفي هذه الطبعة حذف جدعان من الكتاب مقدمة الطبعة الثالثة من دون أن يشير إلى ذلك، مع إنها احتوت على نص وجدته مهمًّا في تكوين المعرفة بالطور الفكري والتاريخي الذي تمثله الكتاب خلال حقبة ثمانينات القرن العشرين.
وأضاف جدعان لهذه الطبعة الرابعة مدخلاً، شرح فيه وجهة نظره بشأن ما طرحه عليه البعض من الحاجة إلى استئناف البحث في موضوع الكتاب، واستكمال النظر في الظواهر الإسلامية الجديدة، ليكون الكتاب متجدداً ومعاصراً للوقائع والأحداث، لكن جدعان لم ير -حسب قوله- مسوغاً إلى ذلك، محدداً ثلاثة أسباب هي:
أولاً: أن هذا الكتاب لم يقصد منه أن يكون تاريخاً للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، لا بل إنه لم يقصد أن يجرد القول في كل قول يمكن أن يكون ذا علاقة بالفكر أو العمل الإسلاميين.
ثانياً: أن الأدبيات التي ظهرت منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، وجملة حركات وجماعات الإسلام السياسي ليس لها عد ولا حصر، واستحضارها في هذا الكتاب سيكون ضرباً من تكرار القول الذي لن يقدم شيئاً ذا بال.
ثالثاً: وهو الأعظم أهمية وخطراً حسب وصف جدعان، أن عقل الحركات والجماعات الإسلامية الراديكالية المعاصرة، يمثل قطيعة حاسمة في علاقته مع العقل المؤسس لأعمال مفكري الإسلام الذين نهض الكتاب لدراسة أعمالهم.
وهذه القضية تحديداً لها معنى خاص عند جدعان، وأراد من هذا المدخل التوقف عندها باهتمام، شارحاً رؤيته لهذه القطيعة التي وصفها بالحاسمة.
والكتاب في بنيته التركيبية حسب طبعته الثالثة، يتكون من مقدمتين، وستة فصول، وحسب طبعته الرابعة يتكون من مدخل ومقدمة وستة فصول، عالجت الموضوعات الآتية: (ميتافيزيقا التقدم، الحقيقة والتاريخ، الدخول في الأزمنة الحديثة، التوحيد المحرر، دروب الفعل، القيم)، وخاتمة حملت في الطبعة الثالثة عنوان (الإسلام والمستقبل)، وفي الطبعة الرابعة أصبحت من دون عنوان1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الكلمة، مجلة فصلية، السنة الحادية والعشرون، العدد 84، صيف 2014م / 1435هـ.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى