نور العترة

كربلاء الثورة النموذجية…

شكلت عاشوراء الحسين (عليه السلام) مفصلاً مهماً وأساسياً في تاريخنا الجهادي الإسلامي، حيث أنّها الثورة التي وضعت الأسس العامة للنهوض من أجل الإصلاح بمعنى – تقويم مسار الأمة عبر إعادته إلى الصراط السوي -.
ولا شكّ أنّ الإسلام لا يتمكن من أن يسير بالأمة بشكلٍ صحيح إلّا إذا كان في الموقع المفترض أن يكون فيه وهو “الحاكمية”، ولتحقيق هذا الأمر لا بدّ من توافر القيادات التي تستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة الجليلة والخطيرة في آنٍ معاً، ومتحلّية بالمواصفات التي تجعلها أمينة على الإسلام وعلى موقعيّته.
من هنا نجد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عندما ثار على الإنحراف المتجسّد بوصول يزيد إلى السلطة، أوضح أنّ سبب ثورته هو “إرادة الإصلاح” وأوضح الأوصاف التي ينبغي أن تتجنّبها كلّ حركةٍ تدَّعي الإصلاح وتهدف إلى تصحيح المسار العام، ويعتبر (عليه السلام) أن تحقّق تلك الأوصاف السلبية يجنح بالحركة ويبتعد بها إلى منزلقٍ قد لا يقلّ خطورةً وفساداً عمّا هو قائم من أوضاع.
والنص الجامع المعبّر عن ذلك، هو ما قاله (عليه السلام): (ألا وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح).
فالإمام (عليه السلام) بما أنّه لا يريد من حركته الثورية إبراز الرفض للنظام القائم، وإنّما يريد تغييره ليتلاءم مع الحالة العامة للأمة، نرى بأنّه قد ابتعد عن كلّ تعبيرٍ يخالف الهدف المنشود والغرض المقصود، مع أنّ الكثير من حركات الرفض قد يصاحبها أنواع مختلفة من التعابير السلبية تبعدها عن حدود الهدف، بل قد تصل بها إلى مستوى الرفض من الجماهير التي تدَّعي تلك الحركة أنّها قامت من أجل تغيير أوضاعهم نحو الأفضل والأحسن.
والذي نريد الوصول إليه أنّ أية حركة ثورية تهدف إلى خدمة المجتمع وفق شعاراتها المرفوعة، لا يمكن الإكتفاء بأحقية العناوين والشعارات من دون تجسيد ذلك في المسار الفعلي لحركة الثورة، لأنّ هذا هو الذي يعطي الفاعلية والمصداقية، وعلى أساس ذلك يمكن أن تستجيب الناس وتعطي تلك الحركة ما يدفع بها إلى الأمام بسبب الإحتضان الشعبي، وهذا يؤدّي إلى التكامل بين الثورة وجماهيرها بنحوٍ يقوّي من موقع الجميع في مواجهة الظلم القائم.
وهذه المسؤولية بلا شك كبيرة، وتحتاج إلى الكثير من المرونة والدراية بطرق المداراة من جهة، ولمنع التصرّفات السلبية التي لن تعود بالأذى على المرتكب للتجاوزات، بل ستتعدّاها إلى نفس الثورة التي ينتمي إليها فيعرّضها لخطر الإستفراد والعزل عن محيطها وجماهيرها التي كان من الممكن، بل من المفروض أن تكون الدرع الواقي طالما أنّ شعارات الثورة لخدمتها.
لهذا نجد الإمام الحسين (عليه السلام) يؤكّد على الأهداف الرسالية لحركته الثورية، ويوجّه الأنظار إلى الممارسات الخاطئة والظالمة للحكم الأموي المتسلّط على الأمة بزعامة يزيد بن معاوية، ويؤكّد من ناحية أخرى أنّ ثورته لن تنجرّ إلى مثل تلك الممارسات والأساليب التي يمكن أن تجعلها بعيدة عن الهدف المنشود.
وهذا الأمر لعلّه الذي دفع بالإمام الحسين (عليه السلام) إلى أن يمنح الذين خرجوا معه من مكة إلى الكوفة فرصة التحلّل من بيعته، عندما وصلته أخبار أهل الكوفة، وما جرى من عبيد الله بن زياد وتسلّطه عليها وقتله لمندوب الإمام (عليه السلام) الشهيد “مسلم بن عقيل”، وقد أدّى هذا الأمر كما نعلم إلى انسحاب الأكثرية الذين كان قسمٌ منهم قد أغرى نفسه بالحصول على المغانم والأرباح باسم الثورة وشعاراتها، مع أنّه قد لا يكون مدفوعاً لأن يثور لولا ذلك الإغراء للنفس.
وبذلك استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) أن يصفّي أنصاره من كلّ العناصر ذوي الغايات والمصالح، ولم يبق معه إلّا الذين هم مؤمنون بعمق بضرورة الثورة ولو أدّت إلى القتل والإستشهاد.
ويوجد في هذا المجال نص للإمام الحسين (عليه السلام) يوضح فيه السبب الرئيس الذي يدفع بالناس إلى الإحجام عن الثورة عندما لا يطمئنّون إلى النتائج وهو: (الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما دارت به معايشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون)، ولا شكّ أنّ الحكم الظالم من أبرز أنواع البلاء والإمتحان.
ونحن نعتقد أنّ نقاء الهدف من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وابتعادها بالموقف الرسالي المتشدّد لقيادته عن الممارسات السلبية، وخلو الثائرين من العناصر غير المتديّنة بشكلٍ كبير، واستشهادهم جميعاً، بحيث لم ينجُ إلّا الإمام زين العابدين (عليه السلام) بسبب مرضه الشديد – ولحكمة معلومة كان ذلك المرض – هذه الأسباب كان لها الدور الكبير في كلّ ما أحدثته الثورة الحسينية من تأثيرات إيجابية كبيرة على مستوى حفظ الإسلام على امتداد القرون، من خلال الثائرين الذين عملوا على تجسيد روح الشخصية الحسينية بأعلى ما يمكنهم من الصفاء والإخلاص والسلامة في التوجّهات والأهداف، وهذا ما كان يحقّق التفاعل الوجداني والفكري والعملي مع أولئك الذين ألهمتهم تلك الثورة.
من هنا نعتبر أنّ الحركات الإسلامية الأصيلة المنطلقة من أجل الإصلاح هي الإمتداد الفعلي للثورة الحسينية لأنّها تتوحّد معها في المبدأ والمنتهى، وإن كانت تختلف في بعض التفاصيل التي أفرزها المسار التاريخي عند المسلمين، إلّا أنّه لا ينبغي أن نسمح لتلك الإفرازات أن تجعل من الثورة الحسينية وشعاراتها أسيرةً لمذهبٍ معيّن أو جماعةٍ محدّدة من أبناء الإسلام، وإذا رجعنا إلى الشعار الذي حملته لا نجد فيه الخصوصيات التي يحاول البعض من المصطادين في الماء العكر من المنافقين أو الأعداء أن يحدّدوا تلك الثورة، والحال أنّ كلّ الحركات الإسلامية تعمل بمضمون ذلك الشعار، ألا وهو: (… وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))، ولا ريب أنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو لعموم المسلمين، إذ أنّه فوق التفاصيل المذهبية التي يتوزع بسببها المسلمون، ويلتقي عنده كلّ الثائرين في سبيل إصلاح مسيرة أمته التي كانت خير أمة أُخرِجَت للناس لتكون الشاهدة والشهيدة على الأمم الأخرى.
لذلك تتحمّل تلك الحركات مسؤولية كبرى في الحفاظ على المسلكية التي تجعلها في مواقع التأثير في أوساط الأمّة، لأنّ هذه المسلكية الرشيدة الصادقة والمخلصة لما تتبنّاه من منطلقات وأهداف هي التي تزرع في وجدان الناس ووعيهم عوامل الإطمئنان والثقة، وتسمح بالتالي لحركة الثورات الإسلامية في عالمنا الإسلامي المعاصر من أن تتسلّم قيادة المسيرة في هذه الفترة من الصراعين الداخلي والخارجي اللذين تخوضهما الأمة ضدّ الإنحراف الناتج عن التحالف غير المقدّس بين النفاق والكفر، وضدّ أيّة محاولة تتبنّاها الأمة انطلاقاً من إسلامها، وبنحوٍ لا يتوافق مع توجّهات القوى الإستكبارية المتسلّطة على العالم والمؤثّرة في حركة سير الأنظمة الحاكمة لشعوبنا التي تغلي بالثورة ضدّ كلّ هذا الواقع الظالم الذي يسبّب وما زال يتسبّب بأنواع الآلام المختلفة التي تعاني منها.
والفرصة الكبيرة متحقّقة في هذا الظرف العصيب الذي اتّجهت فيه شعوبنا الإسلامية نحو الرجوع إلى أصالتها وتسلِّم قيادة أمورها لحركات الإصلاح، فحريٌ بنا أن نغتنم هذه الفرصة التاريخية المهيأة أمامنا، ولكن مع ملاحظة المسلكية التي تحدّثنا عن تأثيراتها التي إمّا أن تدفع بنا إلى الأمام إيجابياً أو ترجعنا إلى الوراء سلبياً، وهذا الأمر مرهون بوعي القيادات المخلصة الحريصة والواعية لما تخطّطه القوى الإستكبارية وما يمكن أن تحدثه من الخلل والتشرذم فيما لو تمكّنت من التغلغل إلى داخل جسمنا الثوري المتنامي.
فالروح الإستشهادية المقتدية بالنهج الحسيني هي السلاح الأكثر فعالية من بين الأسلحة المتعدّدة التي تملكها هذه الأمّة المعطاء، وهي قادرة بعون الله من الوصول إلى الأهداف، إمّا على مستوى النصر الفردي بالشهادة أو النصر العام للأمة على الأعداء، وإنّ غداً لناظره قريب والله المستعان. والحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى