سادة القافلةسيرة أهل البيت (ع)في رحاب نهج البلاغةمناسباتمنوعات

الإمام علي عليه السلام والرأي الآخر

يقول عبّاس محمود العقّاد: (في كلّ ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه.. ) وليس ثمّة شكّ في خصوصيته المتميّزة، إذ (اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف; مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال).

إنّ الحديث عن أبعاد شخصية الإمام علي(عليه السلام) ليس بالأمر اليسير أبداً، إن لم يعجز عنه الفطاحل، أو يهابون الخوض فيه. ونحن إذ نسمح لأنفسنا أن نمسّ جانباً محدّداً من مواقفه، (لا نقصد انجاز مشروع صياغة وتحديد كامل فكر الإمام.. (في هذه الإثارة)، وإنّما نهدف من هذا العمل المتواضع الإطلالة على بعض ملامح وصور هذا الفكر العملاق) ليس إلاّ.

فعلى صعيد الحكم وتحمّل تبعاته، لم يكن الإمام علي(عليه السلام) طارئاً أو هامشياً، «فقد كان(عليه السلام) على تمام الأهبة لولاية الحكم، كان قد خبر المجتمع الإسلامي في أقطاره، وخالط كافّة طبقاته، وراقب حياتها عن كثب، ونفذ إلى أعماقها، وتعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها ويجمعها.

وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الفريد الذي كان يتمتّع به من النبي(صلى الله عليه وآله)، فهو وزيره ونجيبه، وأمين سرّه، وقائد جيوشه، ومنفِّذ خططه، ومعلن بلاغاته.. هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتّع بها أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم.

وإذا لم يُقدّر له أن يصل إلى الحكم بعد النبي فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة، بل ساهم فيها مساهمة خصبة (وإنّ فسحة الربع قرن التي مرّت على علي بن أبي طالب، منذ رحيل الرسول حتّى تسلّمه الخلافة ) لم تكن بالفسحة البسيطة، لا بطول مداها ولا بقيمة الأحداث التي مرّت عليها.

ورغم ما لقيه من جحود وإقصاء وتهميش، من لدن العقلية الحاكمة فإنّه لم يقابل ذلك بالمثل، وإنّما كان ينطلق، وفق الموقف الشرعي، من منطلق الحرص على وحدة الموقف وما تتطلّبه المصلحة العليا.

ورغم انفتاحه الإيجابي على مجمل الحياة الإسلامية، وبمختلف مشاربها، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي معارضة الإمام علي(عليه السلام) للنهج القائم، مع حرص شديد على الطابع السلمي لمعارضته تلك.

وهكذا بدأت أوّل معارضة من داخل الصفّ الإسلامي نفسه تتبلور بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)، حينما تخلّف العديد من الصحابة الكبار عن بيعة أبي بكر وآزروا الإمام علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة (عليهما السلام) في معارضتهم لمنطق السقيفة.

ويبقى موقف الإمام علي(عليه السلام) من مسألة «السقيفة» أوّل موقف معارض له، وظلّت القضية موضع إدانته، لأنّه أمر دُبِّر في ليل.

ولعدم قناعة الإمام(عليه السلام) بما جرى ظلّ مؤمناً بحقّه في الخلافة واعتزل الناس وما هم ستّة شهور، ولم يسمع له صوت فيما يسمّى بحروب الردّة ولا سواها.

ومن الواضح أنّ هذا الاعتزال لم يكن سوى احتجاج سياسي على ما حدث تحت خيمة السقيفة. والقراءة المتأنّية للموقف وتداعياته تقودنا إلى تحليل مهم، وهو ما قام به باحث إسلامي معاصر، حين قال: (نظنّ أنّ اعتراضه كان لثلاثة اُمور:

الأوّل: لكي يثبت حقّ المعارضة للمسلمين، حتّى لو كانوا أقلّية، وحتّى لو كانت المعارضة لما استقرّ عليه رأي الأغلبية، وكذلك حتّى لو كانت المعارضة لأكثر الاُمور حسّاسية وهي اختيار الحاكم.

الثاني: اعتراضه على طريقة اختيار الحاكم، لكي لا يثبت في ذهن الناس أنّ ما تمّ هو النموذج الأوحد أو الأمثل الذي يجب أن يسير عليه المسلمون، ولكي يفرّق الناس بين ما تمّ وما كان يجب أن يكون عليه الأمر.

فالبيعة التي تمّت في سقيفة بني ساعدة هي أمر قُضي بليل ولا تصحّ أن تكون نموذجاً لاختيار المسلمين لحاكمهم.

الثالث: أنّه كان يرى في نفسه أقدر الناس على الحكم، ولو حكم لحمل الناس على الجادّة، وأظهر النموذج الإسلامي الصحيح الذي كان يؤمن به هو، وهو يخالف منهج أبي بكر وعمر.

وقد هدرت منه، ذات مرّة، شقشقته المعروفة، متعرّضاً إلى ما لحق به من جور وحيف: «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا; ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير. فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخيّة عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!

فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجىً، أرى تُراثي نهباً، حتّى مضى الأوّلُ لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده، ثمّ تمثّل بقول الأعشى:

شتّان ما يومي على كُورها ***** ويومُ حيّانَ أخي جابرِ

فياعجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته إذْ عقدها لآخر بعد وفاته! لَشدَّ ما تشطّرا ضرعَيْها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مَسُّها، ويكثر العِثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرمَ، وإنْ أسلسَ لها تقحّم، فمُني الناسُ ـ لعمرُ اللهـ بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض، فصبرتُ على طول المدّة، وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدُهم، فيالله وللشورى! متى اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم، حتّى صِرتُ اُقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففتُ إذْ أسفّوا، وطرتُ إذْ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هَن وهَن، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبتْ به بِطنته).

بهذه النبرة المشحونة بالأسى والمرارة.. اختزل الإمام علي محنته المريرة مع مَنْ سبقوه في الخلافة.. ورغم كلّ ذلك وما رافقه من محاولات الاقصاء الدائبة والعمل على إبقائه في الظلّ، فإنّ هذا لم ينعكس سلباً على موقفه العام، ولم تفلح تلك الممارسات في تحقيق مآرب أصحابها، إذ لم تجعله بمنأى عن هموم الأمّة، إنْ لم يندك في عمق حركتها، ولم تشغله عن وعي التحدّيات التي تواجهها، فلم يعزف طرفة عين عن رصد خيوطها وقراءة نتائجها.

منقول من مجلة الوارث العدد ٢٦ السنة ٢٠١٥

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى