إعرف عدوكالتاريخ الإسلاميالجهاد و الشهادةزاد عاشوراءسادة القافلةسيرة أهل البيت (ع)مقالاتمناسباتمنوعات

الاستعدادات النهائيّة واتخاذ المواقع القتاليّة

جيش الفرعون
برز الجيش الاُموي واتّخذ مواقعه القتالية , وهو مؤلّف من ثلاثين ألف مقاتل , ومقسّم إلى أربعة فرق :
1 ـ فرقة أهل المدينة , ويقودها عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي .
2 ـ فرقة مذحج وأسد , ويقودها عبد الله بن سبرة الحنفي .
3 ـ فرقة ربيعة وكندة , ويقودها قيس بن الأشعث .
4 ـ فرقة تميم وهمدان , ويقودها الحر بن يزيد الرياحي الذي تركها قبل القتال بقليل والتحق بالحسين (عليه السّلام) .
والقائد الميداني العام لهذا الجيش هو عمر بن سعد بن أبي وقاص , حيث كان همزة الوصل بين الجيش وبين عبيد الله بن زياد , وبين يزيد بن معاوية .
جعل عمر بن سعد على ميمنة جيشه عمرو بن الحجاج الزبيدي , وسلّم قيادة الميسرة لشمر بن ذي الجوشن العامري , وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي , وعلى الرجّالة شبث بن ربعي , وأعطى الراية لمولاه ذويد(1) .
واتّخذت الفرق والتشكيلات العسكريّة مواقعها الميدانية القتالية , وهي تنتظر على أحرّ من الجمر الأمر بالقتال ؛ لتنقضّ على عدوها اللدود ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وآل محمّد وأهل بيت النبوة وذوي القربى (عليهم السّلام) .
الحسين وأهل البيت وأصحابهم (عليهم السّلام)
لما أيقن الإمام الحسين (عليه السّلام) أن القتال قدر لا مفر منه , وأنه صار قاب قوسين أو أدنى , رتّب أصحابه وصفّهم للحرب , وكانوا مئة , أقل بقليل أو أكثر بقليل ؛ فجعل على ميمنة رجاله زهير بن القين , وسلّم قيادة الميسرة لحبيب بن مظاهر , وثبت هو وأهل بيته في القلب , وأعطى الراية لقمر بني هاشم العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , أخيه .
وكان الإمام الحسين (عليه السّلام) قد أمر أصحابه بحفر حفرة على هيئة خندق , وأمر أن تشعل فيها النيران(2) , مثلما أمر أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض , وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض , وأن يكونوا بين البيوت حتّى يستقبلوا القوم من وجه واحد , والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم(3) .
والعلة في ذلك تكمن في أن جيش بني اُميّة يحيط بمعسكر الإمام (عليه السّلام) إحاطة السوار بالمعصم , فلو لم يفعل الإمام (عليه السّلام) ذلك لما استطاع وصحبه أن يصمدوا أكثر من دقيقتين , ولتمكّن جيش الخلافة من اجتياح معسكر الإمام (عليه السّلام) بسهولة ؛ إذ لم يصدف في التاريخ العسكري كله أن تجمّع جيش بهذه الكثرة والضخامة ليحارب فئة محدودة بهذه القلة !
وما يعنينا هنا أن أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) أصرّوا على أن يقاتلوا بين يدي الإمام وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) حتّى يموتوا جميعاً عن بكرة أبيهم , وبعد ذلك لا لوم عليهم إن اضطرّ أهل بيت النبوة للقتال .
والخلاصة : إنّ الإمام وأهل بيته وأصحابه (عليهم السّلام) أخذوا مواقعهم الدفاعية وهم ينتظرون بين لحظة واُخرى وقوع العدوان . هم على أهبة الاستعداد للتصدّي للمعتدين , والقتال حتّى الموت , وهذا أقصى ما يمكن لهم أن يفعلوه .
وتفصيل ذلك أن الإمام (عليه السّلام) جمع إخوته وبني إخوته وبني عمومته وخطب فيهم , ثمَّ سألهم في النهاية إذا كان الصباح فما يقولون , فقالوا بلسان واحد : الأمر إليك , ونحن لا نتعدّى لك قولك .
فقال العباس : إنّ هؤلاء ـ يعني الأصحاب ـ قوم غرباء , والحمل الثقيل لا يقوم به إلاّ أهله , فإذا كان الصباح فأوّل مَن يبرز للقتال أنتم , نحن نقدمهم للموت ؛ لئلاّ يقول الناس : قدّموا أصحابهم , فلما قُتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة .
فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه العباس , وقالوا : نحن على ما أنت عليه .
وفي خيمة اُخرى اجتمع الأصحاب , فقال لهم حبيب بن مظاهر : يا أصحابي , لِم جئتم إلى هذا المكان , أوضحوا كلامكم رحمكم الله ؟
فقالوا بلسان واحد : أتينا لننصر غريب فاطمة .
فقال لهم : لِم طلّقتم حلائلكم ؟
فقالوا : لذلك .
قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك , ولا نتعدى قولاً لك .
قال حبيب : فإذا صار الصباح فأوّل مَن يبرز إلى القتال أنتم , نحن نقدمهم القتال , ولا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب ؛ لئلاّ يقول الناس : قدّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم .
فهزوا سيفهم على وجهه وقالوا : نحن على ما أنت عليه .
قالت الراوية زينب (عليها السّلام) : فلقيت الحسين بعد ذلك , فسكنت نفسي , وتبسّمت في وجهه , فقال : (( اُخيّة )) .
قلت : لبيك يا أخي .
فقال : (( يا اُختاه , منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ! أخبريني ما سبب تبسّمك ؟ )) .
قالت : فقلت له : رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا …
فقال الإمام (عليه السّلام) : (( يا اُختاه , اعلمي أنّ هؤلاء أصحابي من عالم الذرّ , وبهم وعدني رسول الله , هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟ )) .
قالت : نعم .
قال : (( عليك بظهر الخيمة )) .
ثمَّ ناداهم وعرض عليهم أن ينصرفوا في سواد الليل فأبوا(4) .
دعاء الإمام الحسين (عليه السّلام)
عندما رأى الإمام الحسين (عليه السّلام) جمع جيش الخلافة كأنه السيل , ورأى الخيل تتأهب للانطلاق نحوه , رفع الإمام (عليه السّلام) يديه وقال : (( اللّهمَّ أنت ثقتي في كلِّ كرب , وأنت رجائي في كلِّ شدة , وأنت لي في كلِّ أمر نزل بي ثقة وعدة . كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد , وتقلّ فيه الحيلة , ويخذل فيه الصديق , ويشمت فيه العدو أنزلته بك , وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك , ففرّجته عنّي وكشفته ؛ فأنت وليِّ كلِّ نعمة , وصاحب كلِّ حسنة , ومنتهى كلِّ رغبة ))(5).
تجاوز حدّ التصوّر والتصديق
عندما تستعرض بذهنك صور كثرة جيش الخلافة , وصور عدّته واستعداداته , وإمكانيّاته وطاقات الدولة التي تدعمه , ومكانتها في العالم السياسي المعاصر لها كدولة عظمى , وتستعرض صورة الجمع الآخر الذي كان يضم الإمام الحسين وآل محمّد وذوي قرباه (عليهم السّلام) , والقلة القليلة التي أيّدتهم ووقفت معهم , فإنك لا تستطيع أن تصدّق أن مواجهة عسكرية يمكن أن تحدث بين هذين الجمعين , وإنّ احتمال حدوث مواجهة عسكرية أمر يفوق حد التصوّر والتصديق .
فجيش الخلافة بغنى عن هذه المواجهة ؛ لأنه ليست له على الإطلاق ضرورة عسكرية , وليست هنالك ضرورة لتعذيب الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) , وذوي قرباه وصحبه , وأطفالهم ونسائهم وهم أحياء , والحيلولة بينهم وبين ماء الفرات الجاري , ومنعهم من الماء حتّى يموتوا عطشاً في صيف الصحراء الملتهب .
ثمَّ إنّ جيش الخلافة لو حاصرهم يومين آخرين فقط لماتوا من العطش من دون قتال , ولما كانت هنالك ضرورة لتلك المواجهة العسكرية المخجلة .
إنّ أي إنسان يعرف طبيعة الإمام الحسين (عليه السّلام) , وطبيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وذوي قرباه يخرج بيقين كامل بأنهم أكبر وأعظم من أن يعطوا الدنية مخافة الموت ؛ لأنّ الموت بمفاهيمهم العلوية الخالدة اُمنية , وخروج من الشقاء إلى السعادة المطلقة .
ثمَّ لو أنّ جد الإمام الحسين (عليه السّلام) كان رجل دين لأي ملّة من الملل لوجد الجيش ـ أيّ جيش , حتّى جيوش المشركين ـ حرجاً كبيراً لمجرد التفكير في قتله , ولكان وضعه الديني حاجزاً لذلك الجيش عن سفك دمه , فكيف بابن بنت رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) , وبإمام كالإمام الحسين (عليه السّلام) ؟!
ثمَّ إنّ قتل الرجل وأولاده وأهل بيته دفعة واحدة يثير بالإنسان ـ أي إنسان , حتّى إنسان العصور الحجرية ـ شعوراً بالاشمئزاز والاستياء ؛ لأنه عمل يعارض الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها , فكيف برجل كالإمام (عليه السّلام) , وبأهل بيت كأهل بيت النبوة ؟!
ويظهر لنا أن تصرفات الخليفة وأعماله , وأعمال أركان دولته , ما هي في الحقيقة
إلاّ انعكاس لقلوب مملوءة بالحقد على النبي وعلى آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) , ومسكونة بشبح الوتر والثأر كما بيّنا .
وسيظهر بهذا التحليل أنّ الذين وقفوا على أهبة الاستعداد لقتال الإمام الحسين (عليه السّلام) وقتله , وإبادة أهل بيت النبوة لم يكونوا بشراً , إنما كانوا وحوشاً مفترسة ضارية , ولكن على هيئة البشر .
لم يعرف التاريخ البشري جيشاً بهذا الخُلق والانحطاط , ولا حاكماً بتلك الجلافة والفساد والحقد , إنها نفوس مريضة نتنة , وتغطّي على مرضها ونتنها بالادّعاء الزائف بالإسلام , والإسلام بريء منهم ؛ فلقد دخلوه مكرهين , وخرجوا منه طائعين , ألا بُعداً لهم كما بعدت ثمود !
وما يعنينا هنا أنّ الجمعين بحالة التأهّب القصوى , وأنّ كلمة سوء واحدة تخرج من فم عمر بن سعد ستشعل نار الحرب .
بعد أن صلّى عمر بن سعد بن أبي وقاص بالجيش الإسلامي صلاة العصر , وصلّوا جميعاً على محمّد وآل محمّد , نادى عمر بن سعد بأعلى صوته قائلاً : يا خيل الله اركبي وأبشري . ثمَّ زحف نحو الحسين وأصحابه (عليهم السّلام) .
وجاء العباس بن علي (عليه السّلام) , وقال للإمام : يا أخي , أتاك القوم .
فنهض الإمام الحسين (عليه السّلام) وقال : (( يا عباس , اركب ـ بنفسي أنت يا أخي ! ـ حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عما جاء بهم )) .
فاستقبلهم العباس في عشرين فارساً , فيهم زهير بن القين , وحبيب بن مظاهر , فقال لهم العباس : ما بدا لكم ؟ وما تريدون ؟
قالوا : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم .
قال العباس : فلا تعجلوا حتّى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم .
فوافقوا , ووقف أصحاب العباس يخاطبون القوم بالوقت الذي انطلق فيه العباس ليخبر الإمام (عليه السّلام) , وأخبره العباس بما سمع , فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( ارجع إليهم , فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وترفعهم عنّا العشية ؛ لعلّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ؛ فهو يعلم أني كنت اُحب الصلاة له , وتلاوة كتابه , وكثرة الدعاء والاستغفار ))(6) .
وأقبل العباس بن علي (عليه السّلام) يركض على فرسه حتّى انتهى إليهم , فقال : يا هؤلاء , إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتّى ينظر في الأمر ؛ فإنّ هذا أمر لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطق , فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله ؛ فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه , أو كرهناه فرردناه . وهدفه أن يردهم تلك العشية .
فقال عمر بن سعد : يا شمر , ما ترى ؟
قال شمر : أنت الأمير والرأي رأيك .
وأقبل عمر بن سعد على الناس فقال : ما ترون ؟
قال عمرو بن الحجاج الزبيدي : سبحان الله ! والله , لو كانوا من أهل الديلم ثمَّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها . فأجابهم عمر بن سعد .
وروى الطبري عن الضحاك بن عبد الله المشرفي قال : فلمّا أمسى حسين وأصحابه , قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون , ويدعون ويتضرعون , وتمرّ بنا خيل لهم تحرسهم , وإنّ حُسيناً ليقرأ : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ)(آل عمران / 178 ـ 179) , فسمعه رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا , فقال : نحن ورب الكعبةِ الطيبون مُيّزنا منكم …(7) .
وكانت تلك الليلة هي ليلة العاشر من محرم .
القتال الضاري في كربلاء
مَن الذي بدأ القتال ؟
القتال بطبيعته كره وشرّ على الغالب , ومَن يبدأ القتال يلج ما تكرهه النفس , ويفتح أبواب الشر المغلقة . وطوال عهد النبوة الزاهر لم يصدف على الإطلاق أن بدأ النبي (صلّى الله عليه وآله) القتال مع أعدائه ؛ فكان المشركون هم الذين يبدؤون بالقتال , ولم يصدف أن أمر أحد رجاله أو أولياءه بالخروج للمبارزة بدءاً , وكان أعداؤه هم الذيم يخرجون أولاً بعض رجالهم للمبارزة , وبعد ذلك ينتدب النبي (صلّى الله عليه وآله) من أوليائه مَن يبارزهم .
كان يتجنب دائماً أن يبدأ خصومه بالقتال , فإذا بدأ خصمه بالقتال عندئذ كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يقاتل القوم بعد أن يبلغهم الحجة , وكذلك فعل الإمام علي (عليه السّلام) , فطوال عهده الرائد لم يبدأ أعداءه بالقتال , وكان أعداؤه هم الذين يبدؤون .
والإمام الحسين (عليه السّلام) هو الإمام الشرعي , وهو الوارث لعلم الشرعيّة الإلهية وأخلاقياتها , وهو الملتزم بسنة جده (صلّى الله عليه وآله) , ومسلك أبيه (عليه السّلام) ؛ سواء في ما يتعلق ببدأ القتال , أو بأخلاقيات هذا القتال .
فعندما أجبرتهم طليعة جيش بني اُميّة أن ينزلوا في كربلاء بعراء , وبغير خضرة ولا ماء , وقبل أن يحضر الجيش قال له زهير بن القين : إنّي والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون . يابن رسول الله , إنّ قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا من بعدهم ؛ فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قِبل لنا به.
فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( ما كنت لأبدأهم بالقتال ))(8) .
ويوم المذبحة نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين , استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة !
فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( مَن هذا , كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟ )) .
فقالوا : نعم أصلحك الله هو هو .
فقال الإمام (عليه السّلام) : (( يابن راعية المعزى , أنت أولى بها صليّاً )) .
فقال له مسلم بن عوسجة : يابن رسول الله , جعلت فداك ! ألا أرميه بسهم ؛ فإنه قد امكنني , وليس يسقط سهم مني ؛ فالفاسق من أعظم الجبارين .
فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( لا ترميه ؛ فإني أكره أن أبدأهم ))(9) .
ولم يفكر الإمام (عليه السّلام) بقتالهم إلاّ بعد إعذارهم وإقامة الحجة عليهم , وقتال الإمام (عليه السّلام) دفاعي من جميع الوجوه .
كيف بدأ القتال ؟
أصبح الإمام (عليه السّلام) يوم عاشوراء , وصلّى الصبح بأصحابه , ثمَّ وقف بينهم فحمد الله وأثنى عليه , ثمَّ قال : (( أذن الله تعالى بقتلي وقتلكم في هذا اليوم , فعليكم بالصبر والقتال )) .
ثمَّ صفّهم للحرب الدفاعية ؛ فجعل زهير بن القين في الميمنة , وحبيب بن مظاهر في الميسرة , وثبت وأهل بيته في القلب , وأعطى رايته لأخيه العباس بن علي (عليه السّلام) , واتّخذوا مواقعهم أمام بيتهم وانتظروا .
بهذا الوقت بالذات , وفي صبيحة العاشر من محرم صلّى عمر بن سعد بن أبي وقاص صلاة الصبح , وصلّى بصلاته جيش بني اُميّة البالغ ثلاثين ألف مقاتل , ولم ينسَ ابن سعد ولا أي فرد من أفراد جيشه الصلاة الإبراهيمية ؛ لقد صلّوا على محمّد وآل محمّد بالوقت الذي صمّموا فيه على قتل ابن بنت النبي وإبادة آل محمّد !
بهذا الوقت بالذات تقدّم عمر بن سعد بن أبي وقاص على فرسه , وأشرف على الجيش كله , وعلى معسكر الحسين (عليه السّلام) , ثمَّ نادى بأعلى صوته : اشهدوا لي عند الأمير أني أوّل مَن رمى . فرمى سهماً , وتبعاً له رمى جيش الخلافة(10) .
وسقطت السهام [على] معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام) مثل زخات المطر , فلم يبق من أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) أحد إلاّ أصابه من سهامهم(11) .
ولا عجب من ذلك ؛ فإنّ جيش الخلافة جيش دولة عظمى , وهو مسلح تسليحاً كاملاً , والسهم من الأسلحة الضرورية , فلك أن تتصور ثلاثين ألفاً أو عشرين ألفاً وهم يطلقون معاً سهامهم بوقت واحد ومن مكان واحد !
قال الإمام الحسين (عليه السّلام) لأصحابه : (( قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم )) .
المبارزة
جرت العادات الحربية على أن تستهل الحرب بمبارزة , وهو ما تمّ في بدر , وما تمّ في اُحد والخندق . وفي كربلاء برز من جيش الخلافة يسار مولى زياد (ابن أبي سفيان) , وسالم مولى عبيد الله بن زياد , فقالا : مَن يبارز ؟ ليخرج إلينا بعضكم .
فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير , فقال لهما الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( اجلسا )) .
فقال عبد الله بن عمير الكلبي : أبا عبد الله , أتأذن لي لأخرج إليهما ؟
فرآه الإمام الحسين (عليه السّلام) رجلاً طويلاً , شديد الساعدين , بعيد ما بين المنكبين , فقال الإمام (عليه السّلام) : (( إنّي لأحسبه للأقران قتّالاً , اخرج إن شئت )) .
فخرج إليهما , فقالا له : مَن أنت ؟
فانتسب لهما , فقالا : لا نعرفك , ليخرج إلينا زهير بن القين , أو حبيب بن مظاهر , أو برير بن خضير .
فقال الكلبي ليسار : يابن الزانية , وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ! وما يخرج إليك أحد من الناس إلاّ هو خير منك . ثمَّ شد الكلبي عليه فضربه بسيفه , فبينما هو منشغل به يضربه بسيفه شهر عليه سالم مولى عبيد الله , فصاح به أصحاب الحسين (عليه السّلام) : قد رهقك العبد . فلم يأبه له حتّى غشيه , فبدره الضربة فاتّقاه الكلبي بيده اليسرى , فأطاح أصابع كفّه اليسرى , ثمَّ مال عليه الكلبي فضربه حتّى قتله .
فأقبل الكلبي وقد قتل الاثنين , فأخذت إمرأته اُمّ وهب عموداً ثمَّ أقبلت نحو زوجها تقول له : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطيبين ذرّية محمّد . ورجته أن تقاتل إلى جانبه لتموت معه , وتعلّقت بأثوابه , فناداها الإمام الحسين (عليه السّلام) قائلاً : (( جُزيتم من أهل بيت خيراً , ارجعي ـ يرحمك الله ـ إلى النساء فاجلسي معهنّ ؛ فإنّه ليس على النساء قتال )) . فانصرفت إليهن(12) .
أخذ أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) يبرزون ؛ اثنين اثنين وأربعة أربعة , فيبرز لهم من جيش الخلافة أعداد مماثلة , وفي كل مرة كان أصحاب الحسين يقتلون أندادهم من جيش الخلافة , ويفتكون بمَن يجدوه في طريقهم من ذلك الجيش فتكاً ذريعاً .
واكتشف قادة جيش الخلافة خطورة المبارزة على الجيش , فصاح عمر بن الحجاج بأصحابه : أتدرون مَن تقاتلون ؟! إنكم تقاتلون فرسان المصر , وأهل البصائر , وقوماً مستميتين , لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم . والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم .
فقال عمر بن سعد : صدقت , الرأي ما رأيت , أرسل في الناس مَن يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم , ولو خرجتم
إليهم وحدانا لأتوا عليكم(13) .
لقد كان عمر بن سعد دقيقاً بتكييفه للواقع العسكري ؛ فجيشه كثرة , وأصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) نوعية , ولو اُعطيت النوعية الفرصة كاملة لتمكّنت من هزيمة الكثرة .
كان قتل الواحد من أصحاب الإمام (عليه السّلام) يبين فيهم بوضوح ؛ لقلّتهم , بينما قتل المئات من جيش الخلافة لا يظهر ؛ لكثرتهم .
الهجوم الشامل
أمام تلك المعطيات التي نجمت عن المبارزة ؛ ولأنّ عمر بن سعد مهزوز , ولا يثق بنفسه ولا بجيشه , ولا بعواقب الاُمور , وبعد التشاور [مع] أركان حربه منع أي واحد من جيشه من الخروج لمبارزة أي واحد من أصحاب الحسين كما أسلفنا , وبالوقت نفسه أصدر أوامره لتنفيذ الهجوم الشامل على معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام) .
فزحفت ميمنة جيش الخلافة بقيادة عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الإمام (عليه السّلام) , فلما دنت تلك الميمنة من معسكر الحسين (عليه السّلام) جثا أصحاب الإمام على الركب , وأشرعوا الرماح , فلم تقدم خيلهم على الرماح , فذهبت الخيل لترجع فرشقتهم ميمنة الحسين (عليه السّلام) بالنبل ؛ فقتلوا فريقاً , وجرحوا فريقاً , وانسحب فريق ثالث .
ثمَّ حملت خيل الحسين (32 فارساً) حملات موفّقة , فما حملت على جانب من خيل أهل الكوفة إلاّ وكشفته , فلما رأى عزرة بن قيس أنّ خيله تنكشف من كل جانب ؛ نتيجة حملات خيل الحسين , بعث عبد الرحمن بن حصن إلى عمر بن سعد ليصف له ما لاقت خيله من خيل الحسين , وليبعث له رماة ليعقروا خيل الحسين (عليه السّلام) .
فقال عمر بن سعد لشبث بن ربعي : ألا تقدم إليهم ؟
فقال : سبحان الله ! تعمد إلى شيخ مصر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة ! لم تجد من تندب لهذا ويجزي عنك غيري ؟!
فدعا عمر بن سعد الحصين بن تميم , فبعث معه المجففة وخمسمئة من الرماة , فأقبلوا حتّى دنوا من الإمام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه , ورشقوهم بالنبل , فلم يلبثوا أن عقروا كلَّ خيولهم , فصاروا رجالة .
ولما قُتل مسلم بن عوسجة قال شبث بن ربعي لمَن حوله : ثكلتكم اُمّهاتكم ! أبقتل مثل مسلم تفرحون ؟! رأيته يوم أذربيجان وقد قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين !
قال أبو زهير العبسي : لقد سمعته يقول : لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً , ولا يسدّدهم لرشد . ألا تعجبون أنّا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين , ثمَّ عدونا على ابنه , وهو خير أهل الأرض , نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ! ضلال يا لك من ضلال !
وقال عمر بن الحجاج لأصحابه : قاتلوا مَن مرق عن الدين , وفارق الجماعة .
فصاح به الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( ويحك يا حجاج ! أعليّ تحرض الناس ؟! أنحن مرقنا من الدين وأنتم تقيمون عليه ؟! ستعلمون إذا فارقت أرواحُنا أجسادَنا مَن أولى بها صليّاً ))(14) .
وحمل عمرو بن الحجاج , واقتتل الفريقان , وقُتل مسلم بن عوسجة , فمشى إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) ومعه حبيب بن مظاهر , فقال له الإمام (عليه السّلام) : (( رحمك الله يا مسلم , فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))(الأحزاب / 23)(15) .
وقال له حبيب بن مظاهر : عزّ عليَّ مصرعك يا مسلم , أبشر بالجنّة .
فقال بصوت خافت : بشّرك الله بخير .
قال حبيب : لو لم أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بما أهمّك .
فقال مسلم : اُوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين (عليه السّلام) ـ أن تموت دونه .
فقال حبيب : أفعل وربِّ الكعبة . ثمَّ فاضت روحه الطاهرة .
وبالوقت الذي هجمت فيه ميمنة جيش الخلافة على ميمنة أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) , هجمت فيه ميسرة ذلك الجيش بقيادة شمر بن ذي الجوشن على ميسرة أصحاب الإمام (عليه السّلام) , وثبتت ميسرة الإمام الحسين (عليه السّلام) ثباتاً بطولياً خارقاً .
وقاتل عبد الله بن عمير الكلبي قتالاً رهيباً ؛ فقتل تسعة عشر فارساً , واثني عشر راجلاً , فشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فقطع يده اليمنى , وقطع بكر بن حي ساقه , فأخذه الجيش أسيراً , فمشت إليه زوجته حتّى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب , وتقول له : هنيئاً لك الجنّة .
فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام له يقال له : رستم : اضرب رأسها بالعمود .
فضرب رأسها فشدقه , فماتت في مكانها(16) , فكانت أوّل امرأة قُتلت من أصحاب الحسين (عليه السّلام) .
وبعد أن قتلوا امرأة الكلبي جاؤوا إلى زوجها الجريح ويمناه مقطوعة , وساقه مبتورة , فذبحوه وقطعوا رأسه ورموه إلى جهة معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام) , فأخذت اُمّه الرأس ومسحت الدم عنه , ثمَّ أخذت عمود خيمة وبرزت للأعداء , فردّها الإمام الحسين (عليه السّلام) وقال لها : (( ارجعي فقد وُضع عنك )) .
فرجعت وهي تقول : اللّهمَّ لا تقطع رجائي .
فقال لها الإمام (عليه السّلام) : (( لا يقطع الله رجاكِ ))(17) .
وحمل الشمر حتّى طعن فسطاط الحسين (عليه السّلام) بالرمح , وقال : عليَّ بالنار لأحرقه على أهله .
فتصايحت النساء , وخرجن من الفسطاط , وناداه الحسين (عليه السّلام) : (( يابن ذي الجوشن , أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ! أحرقك الله بالنار ))(18) .
وقال له شبث بن ربعي : أمرعباً للنساء صرت ؟! ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك , وموقفاً أقبح من موقفك ! فاستحى التافه وانصرف , وحمل على جماعته زهير بن القين في عشرة من أصحاب الإمام (عليه السّلام) حتّى كشفوهم عن البيوت(19) .
أبو الشعثاء أعظم الرماة
كان يزيد بن زياد المعروف بأبي الشعثاء مع ابن سعد , فلما ردّوا على الإمام (عليه السّلام) شروطه انضمّ له , وجثا على ركبتيه بين يدي الإمام (عليه السّلام) , ورمى بمئة سهم , والحسين (عليه السّلام) يقول : (( اللّهمَّ سدد رميته , واجعل ثوابه الجنّة )) .
فلما نفذت سهامه قام وهو يقول : لقد تبيّن لي أنّي قتلت منهم خمسة(20) .
ثمّ حمل على القوم فقتل منهم تسعة وقُتل(21) .
مقتل الحرّ بن يزيد الرياحي
لما لحق الحرّ بن يزيد بالإمام الحسين (عليه السّلام) قال يزيد بن سفيان من بني شفرة , وهم من بني الحارث أحد بطون تميم : أما والله لو أنّي رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعنه السنان . وبينما الناس يتجاولون ويقتتلون , والحرُّ يحمل على القوم متمثلاً بقول عنترة :
ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرِه ولـبانِه حتّى تسربل بالدمِ
فقال الحصين بن تميم ـ وكان على شرطة عبيد الله ـ ليزيد بن سفيان : هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى .
فخرج إليه , وقال له : هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة ؟
قال : نعم , قد شئت . فبرز له , وبعد قليل قتله الحرّ .
ورموا سهماً فعقروا فرس الحر , فوثب عنه وجعل يقاتل راجلاً حتّى قتل نيفاً وأربعين , ثمَّ شدّت عليه الرجّالة فقتلته , وحمله أصحاب الحسين (عليه السّلام) ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه(22) , ووضعوه بين يدي الحسين (عليه السّلام) وبه رمق , فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول : (( أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك , وأنت الحرّ في الدنيا , وأنت الحر في الآخرة ))(23) .
أربعة من أصحاب الإمام (عليه السّلام) قُتلوا معاً
قال الطبري : وبرز عمر بن خالد , وجابر بن الحارث السلماني , وسعد مولى عمر بن خالد , ومجمع بن عبد الله الصائدي , فانقضّوا على جيش الخلافة , وتوغّلوا بالصفوف , فأحاط بهم جيش الخلافة وقطعوهم عن أصحابهم , فحمل العباس بن علي (عليه السّلام) فاستنقذهم وهم جرحى , فلما دنا منهم الجيش شدّوا بأسيافهم وقاتلوا معاً حتّى قُتلوا معاً في مكان واحد(24) .
مقتل برير بن خضير
روى الطبري عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس قال : خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة فقال : يا برير بن خضير , كيف ترى الله صنع بك ؟
قال : صنع الله ـ والله ـ بي خيراً , وصنع الله بك شراً .
قال : كذبت , وقبل اليوم [ما] كنت كذّاباً . هل تذكر وأنا اُماشيك في بني لوذان وأنت تقول : إنّ عثمان كان على نفسه مسرفاً , وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضال مضلّ , وإنّ إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب ؟
قال برير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي .
فقال له يزيد بن معقل : فإني أشهد أنك من الضالين .
فقال له برير بن خضير : فهلاّ باهلتك , ولندع الله أن يلعن الكاذب , وأن يقتل المبطل , ثمَّ اخرج فلاُبارزك .
فخرجا , فرفعا أيديهما إلى الله يدعوان أن يلعن الكاذب , وأن يقتل المحقُّ المبطلَ . فضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ , وبعد أن قتل برير يزيدَ بن معقل حمل عليه رضي بن منقذ العبدي فاعتركا ساعة .
ثمَّ إنّ برير قعد على صدر العبدي , فاستغاث العبدي جيش الخلافة , فسمعه كعب بن جابر بن عمرو الأزدي وركض نحوه , فقال : إنّ هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد .
ثمَّ رفع رمحه ووضعه في ظهره , ولما أحس برير بوقع الرمح برك على يزيد فعضّ وجهه وقطع طرف أنفه , فطعنه كعب , وما زال به حتّى ألقاه , ثمَّ أخذ يضربه بالسيف حتّى قتله , فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته أو اُخته : أعنت على ابن فاطمة , وقتلت سيد القراء ! لقد أتيت عظيماً من الأمر ! والله لا اُكلمك أبداً .
وقال شعراً جاء فيه :
فـابلغ عبيدَ الله إمّا لقيته بـأني مطيعٌ للخليفة سامعُ
قتلتُ بريراً ثمَّ حمّلت نعمةً أبا منقذٍ لما دعا من يماصعُ
فردّ عليه رضي بن منقذ بشعر جاء فيه :
لقد كان ذاك اليوم عاراً وسبّةً تـعيرهُ الأبناء بعد المعاشرِ

فـياليت أنّي كنتُ من قبل قتلِه ويومَ حسينٍ كنتُ في رمسِ قابرِ
مقتل عمرو بن قرظة الأنصاري
كان بقرب الإمام الحسين (عليه السّلام) , لا يأتي الحسين سهمٌ إلاّ اتّقاه بيده , ولا سيف إلاّ تلقّاه بمهجته , ولمّا اشتدّ الوطيس استاذن الإمام الحسين (عليه السّلام) فأذن له , فقاتل قتالاً خارقاً حتّى قتل خلقاً كثيراً , واُثخن بالجراح , فالتفت إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) وقال له : يابن رسول الله , أوفيت ؟
قال له الإمام (عليه السّلام) : (( نعم أنت في الجنّة , فاقرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّي السّلام وأعلمه أني في الأثر ))(25) . وفاضت روح عمرو المباركة في عالم الملكوت .
مقتل نافع بن هلال
كانت لنافع خطيبة , ولما رأت أنّ نافعاً قد برز تعلّقت بأذياله وبكت بكاءً شديداً , وقالت : إن تمضِ فعلى من اعتمد بعدك ؟
فسمع الحسين (عليه السّلام) بذلك , فقال : (( يا نافع , إنّ أهلك لا يطيب لها فراقك , فلو رأيت أن تختار سرورها على البراز )) .
فقال نافع : يابن رسول الله , لو لم أنصرك اليوم فبماذا اُجيب رسول الله غداً ؟!
وبرز فقاتل قتالاً شديداً(26) , وكان يرتجز ويقول :
أنـا الـغلامُ اليمنيُّ الجملي ديني على دينِ الحسين وعلي
إن اُقـتل الـيومَ فـهذا أملي وذاك رأيـي واُلأقـي عملي
ولم يزل يقاتل حتّى قتل ثلاثة عشر رجلاً من جيش الخلافة(27) , وفنيت نباله , فجرّد سيفه وأخذ يضربهم به , فأحاطوا به , ورموه بالحجارة والنصال حتّى كسروا عضديه , وأخذوه أسيراً(28) .
فقال لهم : لقد قتلتُ منكم اثني عشر سوى مَن جرحت , وما ألوم نفسي على الجهد , ولو بقيت لي عضدي ما أسرتموني(29) .
وجرّد شمر بن ذي الجوشن سيفه , فقال له نافع : والله يا شمر , لو كنتَ من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا , فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه . ثمَّ قدّمه شمر وضرب عنقه صبراً(30) .
ميمنة وميسرة وقلب جيش الخلافة البالغ ثلاثين ألفاً يهجمون هجوماً واحداً مركّزاً على معسكر الحسين (عليه السّلام) الذي فيه أهله , وقرابة مئة من أهل بيته وأنصاره . واستعمل جيش الخلافة كامل عدّته وعتاده أثناء هجومه المركّز على ثلاثة محاور , ومع هذا صمد الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وأنصاره , وهم لا يتجاوزون المئة , وقاتلوا قتالاً يفوق حدّ الوصف والتصوّر من بُعيد صلاة الفجر حتّى منتصف النهار .
ووصف الطبري قتالهم بأنه أشد قتال خلقه الله .
وفشل جيش الخلافة باختراق معسكر الحسين (عليه السّلام) , أو الوصول إلى خيامه بعد أن خسر ذلك الجيش المئات إن لم يكن الآلاف من أفراده القذرين الذين لا خلاق لهم . ولم يقدر هذا الجيش على قتال الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهله وأصحابه إلاّ من جهة ؛ وذلك لاجتماع أبنيتهم , وتقارب بعضها من بعض كما وصف ذلك الطبري في تاريخه .
صلاة الظهر
أخذ أصحاب الإمام (عليه السّلام) يتساقطون كالفراقد ؛ واحداً واحداً , واثنين اثنين , وأربعة أربعة , وضيّق جيش الخلافة الخناق على الإمام (عليه السّلام) , واقتربوا منه , فقال أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي : يا أبا عبد الله , نفسي لك الفداء ! إني لأرى هؤلاء قد اقتربوا منك , ولا والله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك , واُحبّ أن ألقى ربي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها .
فرفع الإمام (عليه السّلام) رأسه ثمَّ قال : (( ذكرت الصلاة , جعلك الله من المصلّين الذاكرين . نعم هذا أوّل وقتها )) , ثمَّ قال : (( سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي )) .
فنادى منادي أصحاب الحسين بذلك , فقال الحصين بن تميم : إنّها لا تُقبل .
فقال له حبيب بن مظاهر : زعمت أنّ الصلاة من آل رسول الله لا تُقبل
وتُقبل منك يا حمار(31) !
وفي رواية للطبري , قال أبو مخنف : فأذّن الحسين بنفسه , فلما فرغ من الأذان نادى : (( يا ويلك يا عمر بن سعد ! أنسيت شرائع الإسلام ؟! ألا تقف عن الحرب حتّى نُصلّي وتصلّون ونعود إلى الحرب ؟ )) .
فلم يجبه , فنادى الحسين (عليه السّلام) : (( استحوذ عليهم الشيطان ))(32) .
وأمام رفض جيش الخلافة التوقّف عن القتال , ولأداء الصلاة قيل : إنه صلّى فيهم صلاة الخوف(33) .
ولما فرغ الإمام (عليه السّلام) من الصلاة حرّض أصحابه على القتال , فقال : (( يا أصحابي , إنّ هذه الجنّة قد فتحت أبوابها , واتّصلت أنهارها , وأينعت ثمارها , وزيّنت قصورها , وتألّقت ولدانها وحورها , وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا معه , وأبي واُمّي يتوقعون قدومكم , ويتباشرون بكم , وهم مشتاقون إليكم , فحاموا عن دين الله , وذبّوا عن حرم رسول الله )) .
وصاح الإمام (عليه السّلام) بأهله ونسائه , فخرجن مهتكات الجيوب , وصحن : يا معشر المسلمين ! يا عصبة المؤمنين ! الله الله ! حاموا عن دين الله , وذبّوا عن حرم رسول الله , وعن إمامكم , وابن بنت نبيكم ؛ فقد امتحنكم الله بنا , فأنتم جيراننا في جوار جدنا , والكرام علينا , والله فرض مودتنا , فدافعوا بارك الله فيكم عنّا .
وصاح الحسين (عليه السّلام) : (( يا اُمّة القرآن , هذه الجنّة فاطلبوها , وهذه النار فاهربوا منها )) .
وسمع الجميع صياح النساء , ولم يرمش لأحد من جيش الخلافة رمش ؛ لأنّ قلوبهم غلف , بل على العكس استبشروا (بالنصر) على ابن بنت محمّد , وآل محمّد !
وأمّا أصحاب الإمام (عليه السّلام) فأجابوا : لبّيك يا حسين , لبّيك يابن رسول الله . وضجّوا بالبكاء والنحيب(34) .
شهامة عمر بن سعد وجيش الخلافة
لأن عمر بن سعد هو القائد الميداني لجيش الخليفة , وهو رمز أخلاقيّات وعقائد ذلك الجيش ؛ فقد تأثّر عندما سمع بكاء بنات النبي (صلّى الله عليه وآله) واستغاثتهن .
وعندما شاهدهنّ واقفات باكيات أمام أبنية الحسين (عليه السّلام) وخيمه , ولمّا شاهد أنّ جيشه الجرّار البطل لا يقوى على قتال الإمام (عليه السّلام) وأصحابه إلاّ من جهة واحدة ؛ لأنّ هذه الأبنية والخيام متماسكة ومتداخل بعضها في بعض , وتعيق حركة جيش الخلافة .
ولأنّ عمر بن سعد يريد أن يحسم الحرب سريعاً لصالحه , ولكلِّ هذه الأسباب أرسل عمر بن سعد رجالاً وكلّفهم بتقويض تلك الأبنية والخيام ؛ وتشجيعاً لرجاله الأشاوس أباح لهم أن ينهبوا ما في تلك الأبنية والخيام !
ووصل رجال جيش الخليفة المكلّفين بمهمة تقويض الأبنية والخيام , واكتشف الإمام (عليه السّلام) وأصحابه ذلك ؛ فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) يتخللون البيوت كما قال الطبري , فيشدّون على الرجل وهو يقوّض وينهب فيقتلونه ويرمونه من قريب , وهكذا أفشلوا إحدى المشاريع الإجراميّة لعمر بن سعد بن أبي وقاص .
لمّا اكتشف عمر بن سعد بن أبي وقاص ما حلّ برجاله الذين أرسلهم لتقويض خيام الإمام (عليه السّلام) وأبنيته جنّ جنونه , وفقد صوابه , فقال : أحرقوها بالنار , ولا تدخلوا بيتاً ولا تقوّضوه .
فجاؤوا بالنار وأخذوا يحرقون الخيام والأبنية , فقال الإمام (عليه السّلام) لأصحابه : (( دعوهم فليحرقوها , فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوها إليكم )) .
وحمل شمر بن ذي الجوشن حتّى طعن فسطاط الحسين (عليه السّلام) برمحه , ونادى : عليَّ بالنار حتّى أحرق هذا البيت على أهله .
فصاحت النساء وخرجن من الفسطاط , وصاح الحسين : (( يابن ذي الجوشن , أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ! أحرقك الله بالنار )) .
وروى الطبري , عن حميد بن مسلم قال : قلت لشمر بن ذي الجوشن : سبحان الله ! هذا لا يصلح لك , أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين ؛ تُعذب بعذاب الله , وتقتل الولدان والنساء ؟! والله , إنّ في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك .
قال حميد : فقال : مَن أنت ؟
قال : قلتُ : لا اُخبرك مَن أنا , وخشيت والله لو عرفني أن يضرّني عند السلطان .
وجاءه رجل كان أطوع له مني ؛ شبث بن ربعي , فقال : ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك , ولا موقفاً أقبح من موقفك ! أمرعباً للنساء صرت ؟!
قال حميد : فاستحيا شمر , فذهب وانصرف . وبهذا الوقت حمل عليه زهير بن القين فكشفه وأصحابه وانصرفوا , ونجت الخيام من الحريق إلى حين .
مقتل أبي ثمامة الساعدي
قاتل أبو ثمامة شأنه شأن كلّ واحد من أصحاب الإمام دون الإمام (عليه السّلام) قتالاً عجيباً , وأخيراً قال للإمام : إنّي قد هممت أن ألحق بأصحابي , وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلاً .
فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة )) .
فتقدم أبو ثمامة وقاتل حتّى قُتل(35) .
تقويم الموقف والاستعجال بطلب الموت والشهادة
استذكار خطّة الإمام (عليه السّلام) وأصحابه
بيّنا أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) عندما قدر أن المواجهة بينه وبين الفرعون وجنوده لا مفرّ منها , وأنّ القتال سيحدث لا محالة , أعدّ للأمر عدته , واستثمر إمكانياته المحدودة أحسن استثمار :
1 ـ فقد أمر بحفر خندق حول معسكره من ثلاث جهات ؛ اليمين واليسار والخلف , وأمر بأن يملأ بالحطب حتّى إذا ما بدأ القتال أشعلوا النار فيه .
2 ـ أمر أصحابه وأهل بيته بأن يقرّبوا بيوتهم بعضهاً من بعض , وأن يدخلوا بعضها في بعض بحيث يتعذّر على جيش الفرعون أن يتخللها أو يجوس خلالها .
3 ـ إنّ الخندق بمثابة سور يحول بين جيش الخلافة وبين الوصول إلى داخل المعسكر , وكان تداخل الأبنية والخيام ببعضها سوراً آخر .
4 ـ حقّقت هذه الترتيبات حماية منيعة لمعسكر الإمام , وللإمام وأهل بيته وصحبه (عليهم السّلام) بحيث حمتهم من أيمانهم وشمائلهم ومن خلفهم , وحمت الذّرّية .
5 ـ فرضت هذه الترتيبات على جيش الخلافة فرضاً بأن يواجهوا الإمام (عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه من جهة واحدة , وفوّتت على الجيش الفائدة التي توخّاها من توزيع قوّاته على شكل دائرة , أو حلقة محيطة بالإمام (عليه السّلام) وعسكره , واضطر هذا الجيش أن يُعيد تجميع قواته لتهاجم الإمام (عليه السّلام) وأهله وصحبه من جهة واحدة .
6 ـ وبالوقت نفسه قسّم الإمام (عليه السّلام) أهل بيته وأصحابه إلى ثلاثة أقسام ؛ ميمنة وميسرة , وثبت هو وأهل بيته في القلب .
7 ـ عندما بدأ هجوم جيش الخلافة الشامل على ثلاثة محاور ؛ ميمنة وميسرة وقلب , تلقّت ميمنة وميسرة وقلب جيش الإمام (عليه السّلام) جيش الطاغية يزيد .
8 ـ وبالرغم من التفوّق العددي الهائل لجيش الخلافة , ومن التفوق بالعدة والعتاد إلاّ أن الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وصحبه قد نجحوا نجاحاً ساحقاً بالصمود وبالتصدي , والأهم من ذلك أنّهم قد أفشلوا الموجة الاُولى من الهجوم , واضطروا قادة وجيش الخلافة للتراجع وتنظيم صفوفهم وإعادة خططهم .
9 ـ خلال فترة التراجع أخذ فرسان الحسين (عليه السّلام) من الميمنة والميسرة والقلب يشنّون هجمات ساحقة على ميمنة وميسرة وقلب جيش الخلافة , وأمعنوا قتلاً وجرحاً بكلِّ مَن طالت أيديهم .
إنّه وإن لم تتوفّر لدينا إحصائيات إلاّ أن منطق الأشياء ونوعية الرجال الذين كانوا حول الإمام (عليه السّلام) تؤكّد أن جيش الخلافة قد خسر المئات إن لم يكن الآلاف خلال المواجهة الاُولى من الهجوم , وخلال الهجمات الساحقة التي قام بها أصحاب الإمام (عليه السّلام) .
10 ـ هذه النتائج المذهلة التي حقّقها الإمام (عليه السّلام) وجماعته هزّت قيادة جيش الخلافة هزة عنيفة ؛ فاستعملت تلك القيادة كامل قواتها لعقر خيول الإمام (عليه السّلام) , وبذلت جهودها لتقويض ابنية وخيم الإمام (عليه السّلام) , وأصدرت أمراً بحرق معسكر الإمام (عليه السّلام) وخيمه بالفعل , ولو استطاعت تنفيذ هذا الأمر لنفّذته ؛ لأنه لا قيادة جيش الخلافة ولا جيشه لديهم أيّ ذرة من الدين أو الخلق ليرعوا في مؤمن إلاّ ولا ذمة .
11 ـ لقيادة جيش الخلافة هدف محدد وواضح , وهو قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) وإبادة أهل بيت النبوة , وهذه القيادة على استعداد لقتل كلّ مَن يحول بينها وبين تحقيق هذا الهدف ؛ فقادة الجيش وأفراده مندفعون نحو هدفهم كالوحوش الكاسرة , وقد طلّقوا دينهم وأخلاقهم وإنسانيّتهم طلاقاً بائناً لا رجعة فيه , وهم مصمّمون على تحقيق هدفهم , فكلّما رُدّوا عادوا .
12 ـ وهدف الإمام (عليه السّلام) , وأهل بيت النبوة , وأصحاب الإمام منحصر بالدفاع عن دينهم , وعن حرمات الإسلام , وعن أنفسهم , ونيل رضوان الله بجهاد أعدائه الذين يحكمون باسم الإسلام , ويتاجرون به وهم أعداؤه .
وأغلى ما يملكه الإمام (عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه الحياة , وقد صمّموا على تركها , وعلى لقاء الله ؛ لأن الحياة تحت حكم الظالمين ذل وشقاء , والموت في سبيل الله سعادة مطلقة .
ولكن قبل أن يموت الإمام (عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه يتوجّب عليهم أن يذيقوا الذين أجرموا وبال أمرهم , وأن يرغموا اُنوفهم , ويمرغوا كبرياءهم القذر , ويجاهدوا في الله حق جهاده , وكان عليهم أن يخوضوا بحار الموت شرقاً ومغرباً كما وعد الإمام (عليه السّلام) , وأن يضربوا ضربات كالحريق , تولي الضياغم من هولها مدبرة .
13 ـ خلال الكر والفرّ والهجمات المتكررة من الجانبين قُتل أكثر أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) , فمن بُعيد الفجر إلى صلاة العصر , وأقل من مئة يتصدّون لجيش دولة عظمى قوامه ثلاثون ألف مقاتل .
وحسب المقاييس والموازين الموضوعية كان من المفترض أن يتمكّن الجيش من سحق الإمام (عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه خلال ربع ساعة من الزمن , ومن دون خسائر تُذكر في صفوفه . لقد بدأ القتال بُعيد صلاة الفجر , وجاءت صلاة الظهر , وجاء العصر والوطيس في أوجه , فأيّ قائد أنت يا مولاي ! وأي رجال رجالك !
قتْلُ مَن تبقّى من الأصحاب
لا نعرف على وجه التحديد عدد الأصحاب , ولا الكثير من سيرهم
الشخصية ؛ لأن السجلاّت الرسمية كانت بيد دولة الخلافة , وهذه الدولة تعتبر الإمام (عليه السّلام) , وأهل بيت النبوة , وآل محمّد , وذوي قرباه , ومَن والاهم (فئة مجرمة) ـ حاشاهم ـ ؛ لذلك تعمّدت طمس أخبارهم والتعتيم عليهم , ومنعت أولياءها من ذكرهم , وحاولت أن تشوّه قدسية عدالة قضيتهم .
لكن الباحث تكاد تتوفر لديه القناعة المطلقة ليجزم بأن أهل البيت وأصحاب الإمام (عليهم السّلام) الذين خاضوا غمار الحرب في كربلاء كانوا مئة رجل , ينقصون قليلاً أو يزيدون قليلاً ؛ فكل مراجع دولة الخلافة رسمياً تتطابق على أنّ العدد أقل من المئة , ومراجع أهل بيت النبوة تجزم بأنه ربما كان أقل من المئة قليلاً أو أكثر قليلاً .
فإذا أخرجنا من العدد ثمانية عشر مقاتلاً ( الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) ) , فإنّ عدد أصحاب الحسين سيكون 82 رجلاً , ينقصون قليلاً أو يزيدون قليلاً , فإذا عرفت إصرار اُولئك الأصحاب على أن يفدوا الإمام (عليه السّلام) بمهجهم وأرواحهم , وأن يحولوا بين جيش الخلافة وبين الاقتراب من الإمام (عليه السّلام) .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدد جيش الفرعون وعدته , وفساد عقيدة قادته وأفراده , وانعدام الخلق عندهم .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ المعركة مستمرة من بُعيد الفجر وحتّى العصر , وكانت وما زالت مستمرة .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) كانوا كما وصفهم عدوهم (فرسان المصر , وأهل البصائر , وقوماً مستميتين …) , فإنّنا نكاد نجزم أنه لم يقترب وقت العصر ومن أصحاب الإمام (عليه السّلام) على قيد الحياة إلاّ عدد لا يتجاوز العشرة كانوا متحلّقين حول الإمام وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) , يدافعون عنهم دفاع المستقتل المستميت .
وكان دورهم دفاعياً مقتصراً على البقاء في مكان واحد , والذبّ عن الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) , بالوقت الذي كانت تتدفّق فيه نحو مكان الإمام (عليه السّلام) الآلاف من جيش الخلافة , ولا غاية لتلك الآلاف إلاّ قتل الإمام (عليه السّلام) , وإبادة أهل بيت محمّد وذوي قرباه .
طريقة للاستعجال بالشهادة : الخروج
جيش الخلافة يقترب من الإمام وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) , وما تبقّى من الأصحاب عاجز عن مواجهة الجموع المتدفقة نحو موقع الإمام وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) , ولا بدّ من خروج عناصر لتعترض سبيل جند الخلافة فتعيق حركته إنْ لم تستطع أن تغيّر مجراه .
ما تبقّى من الأصحاب
يجالد بين يدي الإمام وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام)
زهير بن القين وابن عمه
قال سلمان بن مضارب البجلي , ابن عم زهير بن القين : ائذن لي بالخروج يابن رسول الله . فأذن له الإمام (عليه السّلام) , فقاتل الجموع الزاحفة نحو الإمام (عليه السّلام) حتّى قُتل , واستأذن بعده زهير بن القين , ووضع يده على منكب الإمام (عليه السّلام) وقال مستأذناً :
أقـدم هُديت هادياً مهديّا فـاليوم ألقى جدّك النبيّا
وحـسناً والمرتضى عليّا وذا الجناحين الفتى الكميّا
وأسـدَ الله الشهيد الحيّا
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( وأنا ألقاهم على إثرك )) .
فحمل زهير على القوم وقتل منهم مئة وعشرون , وكان يقول في حملاته :
أنـا زهيرٌ وأنا ابنُ القينِ أذودكم بالسيفِ عن حسينِ
وتربّص به كثير بن عبد الله الصمي , والمهاجر بن أوس فقتلاه , فوقف الحسين (عليه السّلام) وقال : (( لا يبعدنك الله يا زهير , ولعن قاتليك لعن الذين مُسخوا قردة وخنازير ))(36) .
حبيب بن مظاهر
واستأذن حبيب بن مظاهر , وقاتل قتال الأبطال , وتربّص به رجل من بني تميم يقال له : بديل بن صريم , فطعنه فوقع , وحاول حبيب أن ينهض فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع نهائياً , ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه .
قال أبو مخنف : لمّا قُتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسيناً , وقال : (( [عند الله] احتسب نفسي وحماة أصحابي ))(37) .
عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان
جاءا إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) فقالا : يا أبا عبد الله , عليك السّلام , حازنا العدو إليك فأحببنا أن نُقاتل بين يديك ؛ نمنعك وندافع عنك .
قال الإمام (عليه السّلام) : (( مرحباً بكما , ادنوا منّي )) . فدنوا منه وقاتلا بين يديه قتالاً شديداً حتّى قُتلا(38) .
وورد أنهما بكيا , ولمّا سألهما الإمام (عليه السّلام) قالا : والله , ما نبكي على أنفسنا , ولكن نبكي عليك ؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك …(39) .
أبناء العم الجابريان
جاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع , ومالك بن عبد بن سريع , وهما ابنا عم , وأخوان لاُ .

المصدر: http://h-najaf.iq

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى