أسئلة وأجوبةالتعليممقالات

الفقهاء امناء الرسل …

إن دراسة مبدأ ولاية الفقيه بات معبراً طبيعياً لكل من يريد معرفة سر نجاح الحكومة الاسلامية في ايران بزعامة الامام الخميني.

وبعد أن كان البحث المدرسي والحوزوي يعنى من هذا المبدأ بدراسة ما له علاقة بشؤون الحسبة والأيتام والأوقاف العامة، أصبح اليوم يتصدر دائرة التفكير السياسي بعد أن حاز الفقيه على سلطات واسعة في اتخاذ القرارات السياسية وإدارة الحكم بكل مستوياته.
وقبل أن نطلع على بعض ما استطاع الامام الخميني أن يدونه بهذا الشأن نذكر هذه المقدمة التاريخية:
فمنذ غيبة الامام المهدي(ع) آخر أئمة المسلمين الشيعة، فإنه نادراً ما ذكرت لفظة الولاية بمعناها السياسي الحكومي. ولعل أول من نادى بولاية الفقيه ضمن معطياتها السياسية والاجتماعية تدبيراً وتنظيماً هو الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الجزيني(720 ـ 784 هـ). غير أن الشهيد الجزيني لم يصرح بذلك علانية وإنما يمكن اقتناص مدركات هذا المبدأ من خلال كلماته في كتابه “اللمعة الدمشقية” في جملة من أبواب الفقه في العبادات والمعاملات. في حين أنه لو راجعنا ما كتبه شيخ الطائفة الطوسي وعلاّمتها الحلي، لا نجد ألفاظاً مثيلة عما هو مسطور في كتابات الشهيد الأول. وتستمر نظرية ولاية الفقيه بالبروز مع المحقق الكركي(870 ـ 940هـ) وتصل الى لحظة مفصلية حين يحكم الشاه اسماعيل الصفوي ايران وفق هذه النظرية التي بلورها وأظهرها المحقق الكركي بصورة أجلى وأوضح.
وامامنا نص مهم عن تلك الحقبة التاريخية يسطر فيه الشاه اسماعيل موقفه إزاء هذه النظرية إذ يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
حيث أنه يبدو ويتضح من الحديث الصحيح المنسوب الى الامام الصادق(ع) انظروا من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته حاكماً فإذا حكم بحكمنا فمن لم يقبل منه فإنما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّه وهو رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله وواضح أنّ مخالفة حكم المجتهدين ووارث علوم سيد المرسلين ونائب الأئمة المعصومين(ع) لا زال كاسمه العلي، عليّاً عالياً ولا يتابعه، فإنه محالة مردود وعن مهبط الملائكة مطرود وسيؤخذ بالتأديبات البليغة والتدبيرات العظيمة.
فهذا البيان يمثل أول خطاب سياسي مبنيّ على ولاية الفقيه ولأول مرة ترد عبارة نائب الامام في غير كتاب من كتب الفقه.
والمعروف عند الشيعة أن نائب الامام قد أخذ حقيقته ومشروعيته من جملة من الروايات والنصوص القرآنية التي تجعل له صلاحية في الحكم والقيادة. منها هذه الرواية المنقولة عن رسول الله(ص) يقول فيها: “الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال(ص): إتباع السلطان ـ أي الجائر ـ فإذا فعلوا فاحذروهم على دينكم.
ومنها رواية عمر بن حنظلة التي اشتهرت بالمقبولة وهي عندي صحيحة والنص كما ورد في وسائل الشيعة عن محمد بن يعقوب بن محمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داوود بن الحسين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان ـ غير العادل ـ والى القضاة، أيحلّ؟ قال:
من تحاكم اليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم الى الطغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى﴿ … يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ … ﴾ 1 قلت كيف يصنعان؟ قال ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا رادّ على الله وهو على حد الشرك بالله.
وهذه الرواية واضحة في كون الامام قد جعل الفقيه العادل العالم بالحلال والحرام والعارف بأحاديثهم حاكماً.
ولكن وقع الخلاف بين المفسرين لهذه الرواية في سعة حاكمية الفقيه وهل للفقيه ما للامام من الحاكمية أم له بعض ما للامام في ذلك؟
بيد ان انتصار الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني رضوان الله عليه مثّل قفزة نوعية في أطروحة ولاية الفقيه فلم تعد حينها العقيدة شأناً فردياً، ولا العبادات علاقة مع الله منعزلة عن القضايا الاجتماعية والسياسية. ولا الفقيه هو الذي يجلس في التكايا غير معني بما يدور حوله من أحداث، وغير مستعد لخوض أي صراع مع غيلان السياسة.
فهذه الصورة عن طهرانية وزهد وورع الفقهاء يجب أن يضاف اليها فعل ومشاركة وصنع للقرار ومواجهة لمن يريد الاسلام ذليلاً مهاناً هامشياً. فالاطروحة التي من أجلها جاهد الامام هي في إعادة الاسلام ليكون منهج حياة يغرف منه الناس تنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويستمدون منه قوتهم في وجه الطغاة والمستعمرين.
لذلك كان لا بد من تنقيه الفكر الديني من رواسب الزهد السلبي ومن الحيادية والعزلة ليصبح قيمة مادية وثقافية وحضارية تصنع للأجيال حاضرها ومستقبلها.
وإذا عدنا الى مواقف الامام ضد الشاه فإننا نرى أنها بقدر ما اتسمت هذه المواقف بالشجاعة والجرأة والتحدي، فإنها كانت تهدف أيضاً الى التأكيد على أن علماء الدين في الأمة هم “خلفاء الرسل” و”حكاماً على الناس” “وورثة الأنبياء” “وحصون الاسلام”. وان تقاعس العلماء وسكوتهم أشد ضرراً من تقاعس من سواهم.
وما من شك أن الامام أراد للأمة،من خلال العلماء، أن ترتفع الى مستوى النضج والوعي والمسؤولية لتتصفى نهائياً كل مقومات الاستغلال وألوان الظلم الانساني. وطبيعة الصراع أيضاً تستوجب انخراط علماء الدين في الواجب الثوري وانحيازهم الى المستضعفين لإصلاح الأوضاع القائمة على استبداد الحكام واستغلال المستعمرين.
وكان تخوف الامام شديداً من أن بقاء العلماء في حال العزلة قد يشكل مبرراً للأجيال القادمة من تقبل أعمال الظلمة. ما قد ينظرون لهذا الأمر على كونه حجة فيلجأون للصمت والسكوت باعتبارأن العلماء أنفسهم يمضون هذا الواقع.
وعندما يقف الامام عند عبارات مثل الفقهاء “أمناء الرسل” وكون “مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه”، فإنه يريد أن يحدد وظيفة الفقيه ومسؤولياته وصلاحياته في الاجتماع الاسلامي، وأن دوره الخطير يتعدى موضوعات كالحسبة وولاية القصّر الى بناء الدولة الاسلامية التي هي في الأساس ظاهرة اجتماعية أصيلة عمل لها الأنبياء والرسل في سبيل تحقيق تنظيم اجتماعي قائم على الحق والعدل، وان وظيفة الفقهاء الاستمرار في هذه المسيرة والعمل على تجسيد وتطبيق أهداف الأنبياء وقيادة المجتمع نحو الهداية الالهية.
ويظهر أن سخط الامام العارم على كثير من علماء الدين كما نجده في كتابه الحكومة الاسلامية ناشئ من جهلهم أن الحفاظ على الدين والعقيدة والقرآن لا يتم من خلال استجرار المذاكرة في هذه الموضوعات دون أن يكون هناك أثر فعلي ونتاج حقيقي على أرض الواقع.
فهو عندما يفسر حديث الامام الثاني عشر، الذي يقول فيه: “أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله”. فإنه يعتبر أن المقصود بالحوادث الواقعة ليس المسائل الشرعية بل المقصود من ذلك هو الأحكام المستجدة. أي الحوادث الاجتماعية والسياسية الطارئة والمشاكل التي تواجه المسلمين. وعندما يدعو الناس الى الرجوع الى الفقهاء فلأنهم حجة كما هو حجة. فإنه يريد أن يقول أن للفقيه من الحجية ما للامام في ذلك في كل القضايا، العام منها والخاص، الاجتماعية والسياسية.
فإذن مهمة الفقيه بحسب فهم الامام الخميني تتجاوز ما تعارف عليه الفقهاء، وصلاحياته وسلطاته تتعدى ما اعتادوا عليه. فللفقيه كل ما للامام من الحجية لأنه منصوب من قبله وولايته عامة على الناس جميعاً.
ويتأسس من ذلك أن الفقيه عليه أن يعمل لإقامة الدولة الاسلامية وإدارة أمور المسلمين وأخذ الواردات العامة وصرفها في وجوهها المعروفة. ولهذا يتحرك الامام فكرياً (ولاية الفقيه) وسياسياً (تحركات شعبية وأنشطة تعبوية) ليؤكد أن مبدأ ولاية الفقيه هو اكمال لأهداف الأنبياء والأئمة(ع) وأنه ليس شيئاً نكراً يقوم به خلافاً للمعتقد والسيرة، بل هو من صلب العقيدة وجوهر الرسالة.
فبعد تنقيح المطالب سنداً ودلالة وبعد فهم مقاصد الأحكام العبادية وقراءة الاسلام قراءة واعية وشاملة وتشخيص المصالح العليا للناس لا يجد الامام إلا ان يدعو الى تجسيد مبدأ ولاية الفقيه عملياً لأن الفقهاء كما يقول: “مكلفون بالعمل الجدي لأجل إقامة حكومة اسلامية”.
ومن هنا يتضح أن الفقهاء مؤتمنون على تراث الأنبياء ومطالبون بتنفيذ أهدافهم وتجسيد سيرتهم عبر اقامة الحكومة الاسلامية التي تضمن مراعاة مصالح الناس وحقوقه2.

  • 1. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 60، الصفحة: 88.
  • 2. المصدر: جريدة النهار/ 19/8/2007 ـ العدد: 23095ـ السنة: 75ـ ص:11، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى