إسئلنا

الحضارات…

البحث في فلسفة حوار الحضارات، هو لتكوين المنظور الكلي، والتعرف على ماهية الحضارات، والرؤية الكونية للوجود الإنساني، وعن مستقبلنا المشترك في هذا العالم. هذا المعنى يظهر وثوقية العلاقة بين الفلسفة وحوار الحضارات. فالفلسفة هي لبناء القاعدة الفكرية المتماسكة لقضية حوار الحضارات، وتعميق الرؤية حولها، ورفدها بمنظومة من المفاهيم والأفكار والرؤى التحليلية والإستشرافية والنقدية. ولعل من أعمق النقاشات وأكثرها جدية ومنهجية تلك النقاشات التي تبحث في المنظورات الفلسفية لهذه القضية، التي لم تتبلور لها هوية واضحة، أو يتحدد حولها منطق مشترك، ولتجريد هذه القضية من حسابات المصالح السياسية الضيقة، أو المنافع الاقتصادية المحكومة بذهنية الربح أو الخسارة، ولرفع مستوى التفكير وتجاوز الإدراك السطحي والأفق المحدود حول هذه القضية.لذا ينبغي أن يتوسع الحديث ويتعمق حول بلورة المنظورات الفلسفية لحوار الحضارات، ومن داخل جميع الحضارات. والمفكرون دائماً هم أكثر الناس التفاتاً لهذا الجانب، وأشدّهم إدراكاً لقيمته، وحرصاً في النظر إليه.
وفي نظري أن فلسفة حوار الحضارات هو البحث عن المشتركات العامة والجوهرية والحية بين الحضارات في الحقول والمجالات المختلفة والمتعددة. المشتركات في حقول الثقافة والفلسفة والقانون والفنون والآداب، وفي السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية.. إلى غير ذلك من حقول. وهكذا في مجالات القيم والمبادئ كالعدالة والحرية والمساواة والحقوق.. إلى قضايا البيئة والسكان والصحة وغيرها. فكل حضارة لها عبقريتها وإبداعاتها واكتشافاتها وفتوحاتها. وهذا بخلاف الرؤية التي تنطلق منها مقولة صدام الحضارات التي تتضمن تحريضاً للغرب على مقاومة انبعاث الحضارات وتجددها، وبخلاف مقولة نهاية التاريخ التي تحرض الحضارات الأخرى على الالتحاق والاندماج بالحضارة الليبرالية والديمقراطية، التي يتبجح فوكوياما بانتصارها وتفوقها وبها يختم التاريخ. والبحث عن تلك المشتركات ليس بقصد الوصول إلى أحادية الرؤية، أو نمط التفكير الواحد، أو فرض الاتجاه الواحد، أو التسلط الثقافي. فهذا من غير الممكن على الإطلاق، فكل حضارة لها تاريخ وكل ثقافة لها تراث. وإنما القصد إظهار عظمة التنوع البشري الخلاق، وقدرة البشر على اختلافهم وتنوعهم في التفوق والإبداع. ولترسيخ النزعة الإنسانية بين البشر ومقاومة العنصرية وكل أشكال التمييز أو التفاضل بين الناس، مصداقاً لقوله تعالى﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ … ﴾ 1 [ولقد كرمنا بني آدم] فالآية تؤسس لأصالة مفهوم الكرامة، لذلك جاء ربط الكرامة بوصف لا يحتمل أية إضافة وهو وصف الآدمية الذي يعني إن الأصل في الإنسان أن يكون مكرماً بغض النظر عن أي صفة أو إضافة أخرى. ومن المقاصد أيضاً تأكيد المنحى الأخلاقي الذي يبرز قيم الخير والحق والجمال في العلاقات بين الأمم والحضارات. وهو المنحى الذي حاول تعزيزه بشفافية كبيرة ألبرت شفيتسر في كتابه (فلسفة الحضارة) حيث يعتبر ماهية الحضارة وطبيعتها كما تبين له في خاتمة المطاف حسب قوله، بأنها في جوهرها أخلاقية، ويضيف: إن الحضارة بكل بساطة، معناها بذل المجهود، بوصفنا كائنات إنسانية، من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم، من أي نوع كان في أصول الإنسانية، وأحوال العالم الواقعي. وهذا الموقف العقلي ـ حسب رأيه ـ يتضمن استعداداً مزدوجاً. فيجب أولاً أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العالم والحياة، ويجب ثانياً أن نكون أخلاقيين. وقد منح اشفيتسر جائزة نوبل للسلام سنة 1952م لنزعته الإنسانية الشاملة ودعوته المستمرة إلى السلام بين الناس. ويصفه عبد الرحمن بدوي الذي قدم الترجمة العربية للكتاب من الألمانية، بأنه من أنبل الشخصيات العالمية في القرن العشرين. ولد في ألمانيا وتوفي في أفريقيا بدولة الجابون سنة 1965م، حيث انشأ هناك مستشفى لمعالجة الفقراء والضعفاء. فكان مثالاً حياً للنزعة الأخلاقية التي دافع عنها.
وحينما ظهر الكفاح ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، عبر المناضلون هناك عن خطاب شديد التمسك بالنزعة الأخلاقية، حيث وصفوا كفاحهم بأنه ليس مجرد حركة لإنهاء التمييز العنصري، بل وسيلة لنا جميعاً لتأكيد إنسانيتنا المشتركة. لذلك كانت معركتهم واحدة من الصراعات الأخلاقية العظيمة التي أسرت مخيلة العالم، وكسبوا مساندة العالم لقضيتهم بهذه النزعة الأخلاقية والإنسانية، وانهوا نظام التمييز العنصري وكسبوا معركة الحرية في نيسان/ أبريل 1994م. ولم يحصل في العالم إحتفاء بشخصية يفوق الاحتفاء الذي حصل لـنيلسون منديلا لنزعته الأخلاقية الشديدة، التي لم يتخل عنها أو يفرط بها أو يساوم عليها. لهذا فإن الحوار بين الحضارات ليس لإظهار التفوق والتميز أو القوة والسيادة بين هذه الحضارات، وإنما لاكتشاف المشترك الإنساني والتنوع البشري الخلاق وترسيخ النزعة الإنسانية والمنحى الأخلاقي. وهي القيم والاتجاهات التي تراجعت في العالم المعاصر حيث تفشت ظواهر العنصرية بشكل متزايد وخطير خصوصاً داخل المجتمعات الغربية التي قطعت الصلة في منظومتها الفكرية بين مفهوم التقدم ومفهوم الأخلاق. فأوروبا هي من أكثر الحضارات الكبرى التي تعاملت بوحشية مع المجتمعات والحضارات الأخرى في تاريخ نهضتها وتقدمها. لذلك يمكن اعتبار الغرب في التاريخ الحديث هو الذي أدخل العالم في صراع الحضارات، وكان هو الطرف المصادم للحضارات في الأزمنة التي كان يشهد فيها تقدمه وتفوقه، فقد تعامل مع المجتمعات غير الغربية، بمنطق الاستعمار والإمبريالية، وبذهنية السيطرة والهيمنة، ومارس سياسات التمييز والاستغلال وسلب الثروات، وكرس في الثقافة والفلسفة والأدب مفاهيم التمايز بين الأجناس والتفوق بين الأعراق، واعتبر حالة يمثل دائماً مركز التمدن والتقدم والحداثة في العالم، وبقية العالم يمثلون موقعية الأطراف، وهذا هو منشأ الإختلال الحضاري في العالم. الغرب يريد أن يحتكر لنفسه الحضارة لكي يفرض على العالم التبعية، وهذا الموقف يصطدم بشدّة مع منطق التاريخ، لأن التاريخ لا يمكن أن يستمر وفق ذلك المنطق. فالتاريخ له قوانينه، وهو الذي يفرض هذه القوانين على العالم. ونظرية حوار الحضارات هي لتأكيد الإعتراف بالحضارات ورفض سيطرة الغرب الآحادية على العالم2.

  • 1. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 70، الصفحة: 289.
  • 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الوطن ـ الثلاثاء 10 يوليو 2001 م، العدد 284.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى