نور العترة

وطلع الفجر .. فجر أبي الفضل عليه السّلام

نظراتها الصادقة الخجول تشهد بأنّ لديها الكثير لتقوله .. لقد صارعت الآلام المبرّحة لسنوات دون أن تصدر منها شكوى أو تبوح بآهة. لم تسمعها حتّى أمّها ـ أقرب الناس إليها ـ وهي تئنّ من فرط ألم ، أو تتبرّم من ثقل معاناته ..

أمّا اليوم فهي مشتاقة للحديث .. متلهّفة للكشف عمّا طَوَته الضلوع طوال محنتها ، ولا عجب ، فقد أطلّ فجر الفَرَج وضّاءً ، ومسح ببلسمه الجرحَ النازف فالتأم ، وتشرّبت الروح ـ بعد معاناة قاسية ـ ماء الحياة .. فعادت غضّةً نَضِرة. لديها اليوم الكثير من الكلمات التي تستبق في التعبير عن الفَرَج بعد الشدّة ، وإطلالة النور بعد حلكة الليل البهيم.

تكلّمت الفتاة عن الألم والأمل ، وعن المحنة والصبر .. وتحدّثت عن المرض العُضال الذي هاجم جسداً نحيلاً لفتاة في السابعة عشرة من العمر تُدعى « عصمت رحيمي » ، فألزمها الفراش ثلاث سنوات كاملة ، قضتها حبيسة الدار ، مرض يُدعى « اسكوليوز » ـ انحناء فقرات العمود الفقريّ وبروز عظام الكتفين ـ. لكنّ هذا المرض الذي استبدّ بالبدن النحيف الهزيل لم يقهر الروح القوية التي انطوت عليها الضلوع، فلم ينقطع أمل الفتاة قطّ في ألطاف الخالق اللامتناهية ، ولم تحطّ رحال رجائها بغير فِناء كرم الربّ الودود ..

تحدّثت وهي تشهق ، بين الفَينة والفَينة ، بعَبراتها :

ابتُليت منذ ثلاث سنوات بهذا المرض ، وقد تردّدتُ ـ برفقة أمّي ـ على المستشفيات فلم ينفعني شيء ممّا وصفوه لعلاجي ، ناهيك عن عجز عائلتي مادّيّاً عن تحمّل نفقات العلاج الذي كان بعض الأطباء يقترحه لتحسين حالتي.

ثمّ إنّي يئست من علاج الأطباء ، ونفضت يدي من فائدة عقاقيرهم. آخر طبيب متخصّص عالجني قال لي بأنّ النتائج التي توصّل إليها مَن سبقه من الأطباء واقعيّة وصحيحة ، وأنْ لا مفرّ لي من السفر إلى طهران للمعالجة بعد أن يتجاوز سنّي ثمانية عشر عاماً ، على أن تدفع عائلتي نفقات علاجي في طهران مبلغاً ضخماً يعجز أمثالنا ـ عادةً ـ عن تأمينه.

غامت الأشياء أمام ناظري بعد أن سمعت كلام الدكتور المعالج ، وتظافرت كلمات الدكتور مع الرقم الضخم الذي ذكره لعلاجي ، لتبعث في نفسي يأساً تامّاً من إمكان الشفاء على يد الأطباء ..

وبناءً على اقتراح الدكتور المعالج .. شرعتُ بارتداء صدريّة حديديّة خاصّة للحيلولة دون ازدياد انحناء الفقرات ، وكان علَيّ أن أتحمّل عناء ذلك اللباس الحديدي وألمه المُمِضّ ليلَ نهارَ.

وهكذا ارتديت تلك الصدريّة الحديديّة وصبرتُ على المحنة .. وأقنعتُ نفسي بأنّ الجزع عند تجرّع المرّ يزيد من مرارته ، وأنّ الله سبحانه قد قدّر لي هذه المحنة ، ولا مفرّ من التسليم إلى حُكم الخالق البَرّ الودود الأرحم بالعبد من أمّه وأبيه.

تصاعَدَت من أعماق الفتاة آهة حَرّى ، ومكثت مَليّاً في صمت ! لعلّها لم تصدّق حتّى الآن أنّ شتاء اليأس قد لَملَم أذياله وفرّ متقهقراً أمام ربيع الأمل الجديد المعطّر.

تنفّست الفتاةُ الصُّعَداء ، وشرعت في الحديث من جديد :

لقد وقَفَتْ أمّي معي في محنتي وقفة الأمّ الرؤوم الحنون ، وعوّضتني بحنانها ورعايتها فَقْدَ أبي. وكنتُ أتأمّل طلعتها في كفاحها المستمرّ معي ، وألمح طيف الدموع في عينيها وهي تدور بي ـ دون جدوى ـ من دكتور لآخر ، فتصطبغ محنتي بمزيد من الألم واليأس .. كنت أستمع إليها تتمتم ليلاً : لو كان المرحوم حيّاً لاستدان مبلغ العلاج ولفعل المستحيل من أجلك ! ولكن علينا ـ يا ابنتي ـ أن نصبر على هذا الاختبار الإلهيّ ، وأن لا نيأس من رحمة الله الواسعة ، وعلينا ـ إذا كنّا نعتقد بحكمة الله عزّ وجلّ ـ أن نعلم بأنّ الله تعالى الذي بيده المرض والابتلاء، يملك مقاليد العافية والفرج أيضاً.

تقول الفتاة : ثمّ جاءت أيّام محرّم الحرام ، وحلّت ليلة تاسوعاء من شهر المحرّم ، فنهضتُ بجسدي النحيل بعد ثلاث سنوات من العناء والمصابرة ، وقُمت أُجرّر أقدامي بقلب مُنكسر محزون ؛ لأتقرّب إلى أئمّتي الأطهار عليهم السّلام وأُواسيهم بمصابهم بسيّد الشهداء عليه السّلام. وطلبتُ من أمّي أن تصحبني إلى حسينيّة محلّتنا ـ حيث تُقام مراسم العزاء كلّ ليلة ـ ، فرافقتني أمّي إلى الحسينيّة وأجلستني في ناحية. كانت الفتاة تتحدّث بكلماتها وعبراتها ، وكانت تُطفئ بدموعها النار المستعرة بين الجوانح.

قالت : كان الظلام تلك الليلة حالكاً ، لكنّي كنت في حالة غريبة .. كأنّي كنتُ أفتّش في حلكة الظلمة عن إطلالة فجر جديد .. كانت زرقة السماء تبدو في عينَيّ سوداءَ مدلهمّة ، لكنّ قلبي كان يحدّثني بأنّ الفجر على الأبواب.

كنتُ أذرف الدموعَ سِخاناً وأنا أستمع إلى صوت الخطيب وهو يتحدّث متفجّعاً حول مُصاب أبي عبدالله الحسين عليه السّلام وأخيه أبي الفضل العبّاس عليه السّلام ، وكان جوّ المجلس يَعبَق بروحانيّة عجيبة مُحبَّبة .. أحسست للحظةٍ أنّي أضعَفُ البشر وأشدُّهم فَقراً ووحدة .. وأنّي لا أعدو أن أكون فتاهً يتيمة عليلة ليس لها من ملجأ تأوي إليه .. أحسستُ فجأة بأنّ الغُصّة التي أخفيتُها في قلبي سنوات ثلاث قد طفحت وغمرت وجودي بأسره .. نسيتُ للحظاتٍ ـ وأنا في دوّامتي ـ ما كنتُ أحسّه من الألم في فقرات ظهري وكتفيّ.

وفجأة شعرتُ بهالةٍ من النور تحيط بي ، وشعرت بأنّ بدني قد صار خفيفاً كالريشة ، وأنّي أغرق في بحار من النور .. كان كلّ ما يحيط بي أبيضَ برّاقاً متلألئاً ..

نهضتُ على قدمَيّ ، فأحسستُ بألم مبرّح من الصدريّة الحديديّة ، فصرختُ من أعماق وجودي باسم أبي الفضل عليه السّلام ، واعتنقت أمّي وأنا أُتمتم باسمه الشريف .. ومع صرختي تلاشت جميع آلامي. وحَدّقَتْ أمي في قامتي المنتصبة غير مصدّقة .. ثمّ صرخَتْ صرخةَ شوق وشُكر وهَوَتْ ساجدةً لربّ العالمين.

أجل ، لقد شملتني ليلةَ التاسوعاء رعايةُ أبي الفضل العبّاس قمرِ بني هاشم عليه السّلام ، لقد طلع الفجر الذي ارتقبتُه طويلاً على يدَي حامل لواء الحسين عليه السّلام ..

مقتبس من مجلّة : [ زائر ] / السنة الرابعة / العددان : ٤۲ و ٤۳ لسنة ۱٤۱۷ هـ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى