مقالات

حول الأحاديث الضعيفة في كتاب الكافي

بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم

بقلم: زكريَّا بركات
21 مايو 2022


لدواع مختلفة يتحدَّث أُناسٌ عن وجود أحاديثَ ضعيفةٍ في كتاب الكافي للشيخ الكليني (ت 329 هـ) ، فبعضهم يتحدَّث عن ذلك لغرض علميٍّ ودواع بحثيَّة، وبعضهم يتحدَّث عن ذلك بدوافعَ كيديَّة ومنطلقاتِ خصومةٍ لا تمتُّ إلى العلم بصلة، وقد يلوح من حديث بعضهم لحنُ الازدراء ونبرة السخريَّة؛ يشعرون أنَّهم قد حازوا صيداً ثميناً حين اكتشفوا وجودَ أحاديثَ ضعيفةٍ في أحد أهمِّ الكتب التي يعتمد عليها أتباعُ أهل البيت (ع) في رواية الحديث الشريف عن النبيِّ وآله صلوات الله عليهم.. فلهؤلاء الفرحين (ومن المؤسف أنَّ بعضهم ممن ينتسب إلى الحوزة العلميَّة الشريفة) أكتب هذه المقالة؛ آملاً هداية بعضهم، وراجياً إنقاذَ المستضعفين من شراكهم، فأقول:

أوَّلاً: إنَّ “الضَّعْفَ” وصفٌ اصطلاحيٌّ في علوم الحديث يراد منه معنى خاص، وهو حُكمٌ ينطلق من النظر إلى السند لوحده وفي حدِّ نفسه، أي من غير نظرٍ إلى ما يكتسبه الحديث من صفة أخرى إذا فُرض انضمامه إلى حُكم عقليٍّ أو آية في كتاب الله عز وجلَّ أو سندٍ أو أسانيدَ أُخرى قليلة أو كثيرة في الكتاب نفسه أو في كتب أُخرى.. وبناءً عليه، يمكن أن يكون السندُ ضعيفاً في حدِّ نفسه في موضع من كتاب الكافي، ولكنَّه ـ في نفس الوقت ـ :

1 ـ معتضدٌ بحكم عقليٍّ يُوجِبُ الحكمَ بصحَّة مضمون الحديث بالرَّغم من ضعف السند، وهذا كثير في الأحاديث التي ترتبط بمجال الحكمة والمواعظ والأخلاق.

2 ـ مُؤيَّدٌ بآية أو أكثر من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فيكون كتابُ الله شاهداً بصحَّة مضمون الحديث بالرَّغم من ضعف سنده.

3 ـ مؤيَّدٌ بسندٍ آخرَ معتبرٍ في كتاب الكافي أو في كتاب آخر، فيكون الحديث معتبراً بالسند الآخر.

4 ـ مؤيَّدٌ بأسانيدَ أُخرى في كتاب الكافي أو في كتاب آخر، وتلك الأسانيد توجب الاطمئنان أو القطع بصدور الحديث عن أهل البيت عليهم السلام.

فهذه أربع حالات كثيراً ما تتحقَّق مع كون سندٍ ما ـ في حدِّ نفسه ـ ضعيفاً، وفي كُلِّ واحدة من هذه الحالات لا يكون الضَّعفُ السندي مُضرًّا، ولا يفرح به إلَّا جاهلٌ قليلُ العلم والفهم، أو عالمٌ عديم التقوى والبصيرة.

ومن المؤسف أنَّ الذين تصدَّوا للحديث عن إحصائيَّات الضعيف في كتاب الكافي، لم يتناولوا هذه الجهة بالبحث والتحقيق، فكان المفترض بهم أن يميِّزوا بين الأسانيد الضعيفة التي لا ضير في ضعفها لاندراجها تحت واحدة من تلك الحالات الأربع، وبين غيرها من الحالات التي يمكن القول بأنَّ الضعف السندي قد أسقط الحديث من الاعتبار بشكل نهائيٍّ؛ إلَّا أنَّ هذا التمييز يحتاج إلى جهدٍ كبير وعمل موسوعي لا يقوى عليه أنصافُ العلماء الذين ضررهم أكثر من نفعهم.

ثانياً: كثيرٌ من الذين تحدَّثوا عن إحصائيَّات الأحاديث الضعيفة في كتاب الكافي، اعتمدوا على أحكام العلَّامة المجلسي في كتابه “مرآة العقول” ، وهو شرحٌ لكتاب الكافي؛ والحقيقة أنَّ العلَّامة المجلسي يحكم على الأحاديث بالضعف السندي وهو لا يقبل هذا التضعيف، بل هو يحكم بالضعف على أساس معايير مدرسة معيَّنة في الإطار الإمامي، في حين ينتمي العلَّامة المجلسي إلى مدرسة تذهب إلى صحَّة أحاديث الكافي كلِّها من جهة السند. فالذي يتنطَّع فيه هؤلاء الفرحون يتمُّ على مدرسة دون أخرى، وليس تامًّا على مبنى علماء الإماميَّة كافَّةً. فلو كان ما يذكرونه إشكالاً حقًّا، لكان غير تامٍّ لكونه أخصَّ من المطلوب.

ثالثاً: إنَّ المدرسة التي تؤمن بانقسام أحاديث الكافي إلى ضعيف وغيره، يختلف أعلامُها من الإماميَّة في التضعيف، فالعلَّامة المجلسي ـ مثلاً ـ يحكي عنهم ضعف كلِّ سند يقع فيه الحسين بن يزيد النوفلي، ويبلغ عدد رواياته في الكافي 495 روايةً، وجماعة من علماء الإمامية يعتقدون بوثاقة النوفلي لمختلف الأدلَّة، وهو الحقُّ، وهو ثقة عند السيِّد الخوئي لكونه من رجال كامل الزيارات وتفسير علي بن إبراهيم القمي.فتبيَّن أنَّ هناك 495 سنداً معتبراً عند جماعة من العلماء الذي ينتمون إلى المدرسة التي ينسب إليها المجلسي التضعيف.. هذا بخصوص النوفلي، وهناك أمثلة أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها وحصرها.. وبذلك يتبيَّن أنَّ مئات من التضعيفات ليست مُتَّفقاً عليها. وهذا ممَّا يزيد الأحصائيات التي فرح بها خصوم الكافي وهناً وضعفاً. ونقول لهم: لأيِّ سبب تخفون هذه الحقيقة؟! أم تراكم تجهلون ذلك؟ وما هي قيمة التضعيف وتأثيره على طائفةٍ وقسمٌ كبير من علماء تلك الطائفة يرفضون التضعيفات في مئات أو آلاف الأحاديث؟

هذا، والمضحك المبكي أنَّ بعض هؤلاء المتنطِّعين يدَّعي أنَّ الإشكال بالضعف وارد على أساس المنهج السندي، ثم ينسب المنهج السندي إلى السيد الخوئي، مع أنَّك عرفت أنَّ السيِّد الخوئي لا يوافق على تضعيف المئات من الأحاديث التي يحكي المجلسيُّ تضعيفَهَا في مرآة العقول، وغير السيِّد الخوئي لا يوافق على تضعيف الآلاف، وغيره لا يوافق على تضعيف أيَّةِ رواية.. فانظر إلى مدى التدليس والإيهام الذي يمارسه هؤلاء حين ينطلقون من “مرآة العقول” ويريدون أن يوهموا الناس أنَّ التضعيف على مباني السيد الخوئي وغيره من أعلام الطائفة..!

رابعاً: من القواعد المعتمدة عند طائفة من علماء الشيعة أنَّ السَّندَ يَنجبِرُ ضَعْفُهُ بعمل المشهور وفتواهم وفقاً لمضمون الحديث، وهذا عامل آخر يزيد حَرْبَةَ خصوم الكافي وهناً، وبالرغم من الخلاف بين الأعلام في اعتماد قاعدة الانجبار، فإنَّ وجود طائفة منهم يعتمدونها ممَّا يوجبُ وهناً آخر في إشكال الخصم ويزيد نطاق إشكاله انحساراً وضيقاً.

وبناء على ما ذُكر، ينبغي أن يتوخَّى الباحثون الدقَّة العلميَّة والأمانة، وإذا أرادوا أن يتحدَّثوا عن إحصائيَّة الأحاديث الضعيفة حسب كتاب “مرآة العقول”، فعليهم أن ينبِّهوا الناس إلى أنَّ هذه التضعيفات غير معتمدة عند العلَّامة المجلسي نفسه، وإنما يحكيها حسب مباني مدرسة خاصَّة في علوم الحديث، على أنَّ أعلام تلك المدرسة ـ أيضاً ـ غيرُ مُتَّفقين على تضعيف كلِّ ما حكى المجلسيُّ تضعيفَهُ عن مدرستهم، بل كثير منهم يحكمون باعتبار مئات الأحاديث بل الآلاف التي حكى المجلسي ضعفها عن مدرستهم، إمَّا لعدم الوفاق في ضعف الراوي، أو لكبرى الانجبار. وما يتبقَّى بعد ذلك من الأحاديث التي لا طريق إلى الحكم باعتبار سندها، هي ـ أيضاً ـ مما لا يُمكن الحكمُ بضعف متونها جميعاً؛ للزوم النظر فيما وافق منها العقلَ أو الكتابَ، أو ما صحَّ منها أو تواتر من طرُق أخرى في الكافي أو غيره..

ومنه يتبيَّن مستوى الخداع الذي يمارسه من يكتفون باعتماد تضعيفات المجلسي في مرآة العقول، بُغيةَ الطعن في أحاديث كتاب الكافي؛ (كما هو دأبُ الوهَّابيَّة وأشباهها) توصُّلاً إلى الطعن في مذهب الشيعة الكرام، أو بُغيَةَ الطعن في ما يسمُّونه بالمنهج السندي؛ (كما هو دأبُ بعض المنتسبين إلى الحوزة العلميَّة الشريفة) توصُّلاً إلى طرح مناهجَ بديلةٍ اختلقوها للحصول على محوريَّة يستقطبون إليها الجهلةَ وأنصافَ المتعلِّمين والمستضعفين؛ طلباً للرئاسة وحبَّ الجاه والدُّنيا..!

وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقلَبٍ ينقلبون.

ولا حول ولا قوَّة إلَّا باللّٰه العليِّ العظيم، وإنَّا للّٰه وإنَّا إليه راجعون.

والحمدُ للّٰه ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى