روايات أهل البيت(ع)

الامامة منصب الهي …

قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 1.

الحديث حول هذه الآية الكريمة سيكون في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول

هناك كلام كثير بين المفسرين حول المراد بالكلمات في هذه الآية الكريمة، والتي ابتلى الله سبحانه وتعالى بها نبيّه إبراهيم «عليه السلام»، والظاهر أنّ المراد بها هو مجموعة التكاليف والمسؤوليات والمهام والأوامر الإلهية الصعبة الصارمة التي كلّف الله سبحانه وتعالى وأمر بها إبراهيم «عليه السلام» وامتحنه من خلالها، فقام بها على أكمل وجه بحيث أنّه استحقّ بعد هذا الامتحان العسير أن يحصل على منصب فوق منصب النبوّة، وهو منصب الإمامة، ومن أهم هذه التكاليف:

1-أمر الله لإبراهيم بذبح ولده

لقد بقي إبراهيم «عليه السلام» فترة من الزّمن ليست بالقصيرة لم يُرزق بالذريّة، فدعا ربّه سبحانه وتعالى أن يرزقه بذريّة صالحة، فاستجاب الله دعاءه وبشّره بغلام حليم، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ 2.
ولما أن وصل هذا الغلام إلى مرحلة من العمر بحيث أنّه يستطيع القيام بمساعدة والده في أموره وشؤونه، رأى إبراهيم «عليه السلام» في المنام رؤيا يؤمر من خلالها بذبح ولده هذا، وينقل أن هذه الرؤيا تكررت ثلاث مرات في ثلاث ليال متتالية، الأمر الذي دعاه أن يستجيب لأمر الله سبحانه وتعالى، لأنّ رؤيا الأنبياء «عليهم السلام» رؤيا حق وصدق.
فأخبر ولده برؤياه، وأمر الله سبحانه وتعالى له بذبحه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ … ﴾ 3، فما كان من الابن إلاّ أن سلّم لأمر الله وإرادته، قائلاً كما حكاه الله سبحانه في القرآن الكريم: ﴿ … قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ 3.
ولما أراد إبراهيم «عليه السلام» تنفيذ ما أمر به أخذ ابنه إلى المكان المعروف الآن بمنى، وينقل أنّه لما أمرّ السكين على رقبة ابنه لم تؤثر لثلاث مرات، عندها نودي: ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ 4، وأي بلاء أعظم من هذا البلاء، أن يؤمر الإنسان بذبح ولده بيده، وليس أي ولد هذا، فهو الابن الورع التقي الطائع لربّه المسلّم لأمره، البار بوالديه، الذي وصفه الحق جلَّ شأنه بالحليم، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ 5، فاجتاز إبراهيم «عليه السلام» هذا الامتحان والاختبار الإلهي العظيم بنجاح.

2- إسكان الزّوجة والولد في أرض قاحلة

ويعد إسكان إبراهيم لزوجته وابنه في مكة المكرّمة، حيث لم يكن في ذلك المكان من قبل أيُّ إنسان، ولا ماء ولا زرع، من المهمات الصعبة والاختبارات الشاقة التي واجهها «عليه السلام».
فينقل المفسّرون أنّه وبسبب غيرة سارة زوجة إبراهيم الأولى – والتي لم ترزق بعد بالولد – من جاريته هاجر التي رزقها الله بالولد، طُلب من إبراهيم «عليه السلام» أن يذهب بهاجر وابنها إلى مكان آخر، وطبقاً للأوامر الإلهيّة ذهب بهما إلى مكة، تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والكلأ، والتي لا يؤمن فيها على ساكنها من الوحوش والضواري البريّة، فتركهما هناك بعد أن ودّعهما، ومع أنّ هذا الأمر صعب وشاق على إبراهيم «عليه السلام» إلاّ أنّه تحمل كل ذلك تسليماً لإرادة الله وأمره سبحانه وتعالى.

3- الوقوف البطولي في وجه عبدة الأصنام

وبعد أن أمر الله نبيّه إبراهيم «عليه السلام» بدعوة نمرود وقومه إلى طاعته سبحانه وتوحيده وترك عبادة الأصنام، وبعد أن رفضوا دعوته وعجز عن استجابتهم له، فلم ينفع معهم ما أتاهم به من دليل وحجة وبرهان، أراد أن يثبت لهم أنّ الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع، فقرر أن يحطّم تلك الأصنام ويكسرها، وهكذا فعل فعندما خرج القوم خارج بلدتهم – حيث كان لهم يوم في السنة يصنعون فيه الطعام ويضعونه عند الأصنام، ويخرجون خارج البلدة ثم يعودون إليها في آخر النّهار ويأكلون منه لاعتقادهم بأنّ الطعام قد لحقته بركة الأصنام – قام إبراهيم «عليه السلام» بتكسير الأصنام وتحطيمها إلاّ الصنم الكبير، وعندما رجعوا وجدوا الأصنام مكسّرة ما عدا كبيرهم، فعرفوا أن من فعل هذا بآلهتهم هو إبراهيم «عليه السلام» لأنّه الوحيد الذي كان يدعوهم إلى ترك عبادتها، وينتقد عبادتهم لها، وهو من هددهم بأن يكيد أصنامهم.

ولما أن سألوه من فعل هذا بالأصنام، أجابهم بأنّ الذي فعله هو كبيرهم فسألوهم إن كانوا ينطقون، فأثبت بذلك لهم أنّ هذه الأصنام غير قادرة على دفع الضرر عن نفسها، فكيف تستطيع دفعه عن الغير، أو جلب الخير له، بل إنّها لا تستطيع أن تخبر عمن قام بتكسيرها وتحطيمها، فما هي إلاّ مجرّد أحجار أو أخشاب لا تضر ولا تنفع ولا تعي شيئاً، وليس لها أدنى إحساس أو إدراك.
وهكذا قرر القوم إحراق إبراهيم «عليه السلام» مجازاة له على ما فعله بأصنامهم، فأوقدوا ناراً عظيمة ورموه فيها بواسطة المنجنيق، وتنقل الرّوايات أنّ إبراهيم «عليه السلام» وهو في هذا الوضع تعرّض لاختبار إلهي، فينقل أنّ جبرئيل تلقاه في الهواء بعد رميه وقبل وصوله إلى النّار، «فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار، فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد، وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيّرت النار، قال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل الله! فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي» 6.
فكان أن جعل الله تبارك وتعالى تلك النّار برداً وسلاماً على إبراهيم «عليه السلام»، قال تعالى: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾ 7، فنجح إبراهيم «عليه السلام» في جميع الموارد التي امتحن فيها، واجتاز جميع الابتلاءات بنجاح عندها استحق منصب الإمامة.

المبحث الثاني

هل أنّ منصب الإمامة المشار إليه في الآية الكريمة هو نفسه منصب النبوّة أم هو منصب آخر غير منصب النبوّة؟
ذهب إلى الرأي الأول جماعة من مفسّري أهل السّنة، وأمّا علماؤنا فيذهبون إلى الرأي الثاني ويقولون بأن منصب الإمامة في الآية غير منصب النبوّة، وأنّ إبراهيم «عليه السلام» كان نبيّاً ورسولاً قبل أن يعطيه الله هذا المنصب، فلقد أعطي منصب الإمامة في الكبر، بدليل أنّه طلب هذا المنصب «منصب الإمامة» لبعض ذرّيته، ومعلوم أنّه رزق الذّريّة في الكبر، قال تعالى عن لسانه: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ 8، وكان نبيّاً رسولاً قبل أن يرزق بالولد، فطلبه هذا المنصب لبعض ذرّيته يدل على وجود خلف وذريّة له، فمن غير المناسب أن يطلبه لمن لا يعلم بوجوده، ويؤيده ما روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا … ﴾ 1، قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ﴿ … قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 1، قال: لا يكون السفيه إمام التقي» 9.
وعن الإمام الرضا «عليه السلام» قال: «إنّ الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل «عليه السلام» بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره، فقال عزّ وجل: ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا … ﴾ 1، فقال الخليل «عليه السلام» سروراً بها: ﴿ … وَمِنْ ذُرِّيَّتِي … ﴾ 1، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ … لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 1 فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، فصارت في الصفوة» 10.

المبحث الثالث

مما يستفاد من الآية الكريمة:
1-أنّ منصب الإمامة منصب إلهي، بمعنى أنّه لا يكون لأحد إلاّ بجعل من الله سبحانه وتعالى، فهو من يعلم بالمؤهل واللائق لهذا المنصب، وهو من يختاره ويعيّنه إماماً للناس، فليس للنّاس دخلٌ في اختياره لعدم علمهم بالمغيّبات والمخفيّات، فلا يعلمون الصالح له من غيره، فمثلاً من جملة السمات التي تشترط في الإمام هي أن يكون معصوماً، والعصمة ليست من السمات البارزة الظاهرة حتّى يشخصها النّاس، بل هي من الأمور الباطنة التي لا يعلم بها إلاّ العالم بالمغيّبات، وهو الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى هو من يشخّص الإمام ويدل النّاس عليه، فالإمامة كالنبوّة، فكما أنّ النبي مختار من الله ومعيّن من قبله فكذلك الإمام، وهذا عين ما تدّعيه الشيعة الإمامية، فإنّ الإمام عندهم يجب أن يكون منصوصاً عليه، سواء كان النّص عليه من الله سبحانه وتعالى عن طريق القرآن الكريم، أو عن طريق النبي «صلى الله عليه وآله»، فهذه الآية الكريمة تبطل نظريّة الشورى التي يذهب البعض إلى القول بها واعتمادها كمبدأ وأساس في اختيار الخليفة القائم مقام النبي «صلى الله عليه وآله»، على أنّنا لم نجد فيما بين أيدينا من نصوص مأثورة عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه تحدّث عن الشورى كمبدأ وأساس في تعيين الخليفة والحاكم بعده، فلو أنّها كانت كذلك لكان من المنطقي أن يبيّن «صلى الله عليه وآله» مقوّماتها وأركانها وشرائطها، والكيفيّة التي تتم بها، ولكننا لم نجد شيئاً من ذلك، مع أنّه «صلى الله عليه وآله» قد بيّن أبسط أحكام الدّين، فلماذا لم يوجه الأمّة إلى الأخذ بالشورى في اختيار الإمام؟ ولماذا لم يبيّن مقوّماتها وأركانها وشرائطها وكيفيّتها مع كون هذا الأمر من الخطورة بمكان؟!
كما أننا وجدنا أنّ القرآن الكريم قد أوضح – كما في هذه الآية المباركة – أنّ جعل الإمام يكون من الله سبحانه وتعالى، ولم نجد آية واحدة في القرآن الكريم أشارت إلى أنّ اختياره وجعله موكول للناس من خلال شورى تتم بينهم.
وكذلك فإنّ مبدأ الشورى غير قادر دائماً على اختيار الأفضل والمناسب لشغل منصب الإمامة والخلافة؛ لأنّ الاختيار قد يكون بدافع المصالح الشخصيّة، أو بداعي العصبيّة والأهواء النفسيّة، لا سيما وأنّ بعض المسلمين لما يخلع عنه بعض رواسب الجاهلية وأعرافها.. وقد يُترك الأفضل ولا يتم اختياره من قبل أكثر النّاس لأسباب عديدة، ومنها إذا كان صارماً وحازماً في تطبيق العدالة والحق.
2- ومما يستفاد من الآية الكريمة أيضاً دلالتها على عصمة الإمام، ولبيان كيفيّة الاستدلال بها على ذلك أقول: إنّ نبي الله إبراهيم «عليه السلام» لما أن قال له الله سبحانه وتعالى: ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا … ﴾ 1 طلب منصب الإمامة لبعض ذرّيته ولم يطلبه لكل ذريّته، فقال: ﴿ … وَمِنْ ذُرِّيَّتِي … ﴾ 1 أي بعض ذرّيتي، فأجابه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ … لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 1، ومما لا شك فيه أنّ نبي الله إبراهيم «عليه السلام» لم يطلب ذلك لمن يعلم بأنّه ظالم حال توليه لمنصب الإمامة، لعلمه بعدم تحقق الغرض الذي من أجله جعل الله هذا المنصب، وعليه فالمتصوّر أن إبراهيم طلبه لمن لا يكون من ذرّيته ظالماً حال توليه له، وهما صنفان: من اتصف بالظلم في بداية حياته وأقلع عنه، ومن لم يتصف به أبداً وبتاتاً، فنفى الله تعالى في قوله: ﴿ … لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 1 أن ينال منصب الإمامة من اتصف بالظلم مطلقاً، فتعيّن أن المستحق له هو من لم يتّصف بظلم أبداً، فمن كان ظالماً ولو للحظة سواء أكان الظلم كفراً أو شركاً أو خروجاً عن حدود الله سبحانه وتعالى بعدم طاعته في أمره أو نهيه بفعل كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر تسقط أهليته لاستحقاق تولي هذا المنصب لصدق اطلاق الظالم عليه لما تدل عليه هذه الآية من شرط أن يكون المستحق له من كان مبرءاً من كل ظلم، فيما مضى من عمره وحاضره ومستقبله، ومن لم يتصف بظلم في حياته فهو معصوم11.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى