التعليمالقرآن الكريمالقرآن الكريممقالاتمنوعاتمنوعات

ذكرى القرآن…

نعم ، في ذكرى القرآن ، ولكن لا على الحد الذي ألِفه الناس من معنى الذكرى .

ليست حديثاً أو رمزاً يخلّد به تأريخ ، أو تمجّد به بطولة أو يشاد به ذكر ، فمقام القرآن فوق الأحاديث و الرموز ، وفوق التواريخ والبطولات ، والقرآن كتاب العظمة بذاته ، لا بإشادة ولا بإطراء ، وهو كتاب الحياة وكتاب الخلود بذاته ، لا بذكرى تقام ، ولا بحديث يكتب أو يتلى .

صلة المسلم بربه

. . . في ذكرى القرآن ، وهي تعهّد صلة لا تهن و لا تخلق ، ولا تضعف و لا تفتر ، و لا تزيد على كرّ الليالي إلا قوة وثباتاً ، وإلاّ نماءً او رواءً ! .
صلة المسلم بربه ، ثم صلته بدينه : بالسبيل القويم الذي يعرّفه بربه ويبلّغه رضاه و يسعده بتقواه .
و إذا تعهّد المسلم صلته بربّه على ضوء القرآن ، فقد تعهّد كل صلة له بالمجتمع المسلم ، وبالمجتمع البشري الكبير ، وبأفراد كلٍّ من هذين المجتمعين ، من قَرُب منهم في النسب ومن بَعُد فيه ، ومن اجتمع معه في حدود الزمان والمكان ومن افترق ، ومن شاركه في مصادر القوت وضرورات العيش ، ومن استغنى ، فكل هذه امتدادات لصلته الكبرى بربّه في رأي القرآن .
نعم ، هذا هو المبدأ الأول الذي ينبثق منه المذهب الاجتماعي في دين الإسلام ، وفي منهج القرآن ، وهذا هو الينبوع الطاهر الزكي الذي تستقي منه كل صلة للمسلم في هذه الحياة فتزكو وتسمو .
والقبلة الحارّة التي تضعها على فم ولدك أو على جبين أخيك إذا كانت للعاطفة المجرّدة لا تجد فيها من اللذاذة مثل ما تجده في هذه القبلة ـ ذاتها ـ و أنت موقنٌ بان صِلتك بالولد و بالأخ امتداد لصلتك بالله ، ولا يجد هو فيها من السعادة مثل ما يجده فيها وهو يشعر هذا الشعور .

تجديد لوثيقة العهد القديم

. . . في ذكرى القرآن ، وهي تجديد ميثاق قديم سبقت اليه الفطرة في بداءة تكوين الحياة ، بل وفي بداءة تكوين الكون ، ثم اعترف به الشعور ، وصدّق الحس ، وأقرّ العقل ، وآمن القلب ، واستجاب الضمير .
وسجّل القرآن وثيقة هذا العهد في آية من آياته ، لتتذكر الفطرة فلا تغفل ، ويتنبّه الشعور فلا يضلّ ، ويستيقن العقل فلا يرتاب ، ويزداد القلب ايماناً ، ويزداد الضمير اطمئناناً .
نعم . سجّل القرآن وثيقة هذا العهد في آية من آياته فقال :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ 1 .

الهداية للتي هي أقوم

. . . في ذكرى القرآن ، وهذه هي الهداية الحكيمة الرشيدة للّتي هي أقوم ، ثم الدعوة إليها بالتي هي أحسن .
الهداية للتي هي أقوم : للعدل الشامل الكامل في كل وجه دعا اليه هذا الكتاب العزيز ، وفي كل نهج قرّره وأمر الإنسانية أن تسير عليه .
للتي هي أكثر استقامة ، وأعظم اعتدالاً ، وأوفر حكمة ، وأوفى رشداً ، واكبر مطابقة لواقع الأشياء ولواقع الحياة ، ولواقع الإنسان ، وللموازنة الدقيقة بين طاقاته وضروراته ، وبين حقوق فرداً وحقوقه أمة ، وحقوقه مجتمعاً واحداً عاماً تفنى فيه الحدود ، وتتساوى الصلات .
للعقيدة التي هي أقوم ، وللملّة التي هي أقوم ، وللعبادة التي هي أقوم ، وللمناهج التي هي أقوم ، ثم للعلاقات التي هي أقوم ، وللحدود التي هي أقوم ، وللمفاهيم التي هي أقوم ، وللمعارف الكونية التي هي أقوم .
ثم الدعوة إلى هذا العدل المطلق الشامل بالتي هي أحسن .
بأساليب القرآن الفريدة المعجزة التي تتبسّط مع الفطرة ، وتتعمق مع العقل ، وتكون أكثر عمقاً وأبعد غوراً مع الفلسفة ، ثم لا يشغلها شأن من هذه عن شأن .
بأساليب القرآن التي أعجزت البلغاء عن تبيّن مدى الاعجاز فيها .

بيعة المسلم لله

. . . في ذكرى القرآن وهي بيعة المسلم لله و يمينه التي ادّاها لما اختار الإسلام دينا : أن يُحِق ما أحقّ كتاب الله من مناهج ويبطل ما أبطل ، وأن يقطع ما قطع من الصلات ويصل ما وصل ، وأن يجاهد دون هذه الحقائق بنفسه وماله ، وأن يصبر عليها ابتغاء وجه ربّه ، مهما حالت الأحوال ، وضاقت المضائق ، فلا تضطرب له قدم ، ولا تضعف له عزيمة ، ولا تختلف له علانية ولا سريرة .
﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ 2  .
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 3 .
. . . في ذكرى القرآن ، وهي هذه اليد الكريمة التي تمتد الى الفرد الضعيف الذي لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يهتدي الى رشده سبيلاً .
اليد الرحيمة التي تمتد إلى هذا العاني فتملأ آفاقه بطاقات الخير ، وتنفخ في ضميره وفي جميع مشاعره حبّ الخير ، وتنير لعينيه ولبصيرته سبل الهدى ، ثم تصل قوّته الضعيفة الواهنة المحدودة بقوة الله العظيمة التي لا تغالب ولا تتناهى ، وبعزة الله التي لا تضام ، وبقدرته التي لا يمتنع منها شيء . .
. . بمدد الله الدائم الذي لا ينفد ولا ينقطع في كل مجال من مجالات الخير ، وفي كل وجه من وجوه الهدى ، وفي كل مظهر من مظاهر القوة والعزة والكرامة والنصرة .
وبعد أن تنشئه هذه التنشئة العالية وترتفع به الى هذه الغاية ، وبعد ان تكمل له هذه العدّة تعرّفه قيمته في المجتمع ومنزلته منه ، ومهمّته التي يجب أن يقوم بها في توجيهه وإسعاده : أن يكون لساناً من ألسنة الحق في الناس ، وداعياً من دعاة القسط فيهم ، و شهيداً من شهداء الله ، و قيمّاً من قوّاميه على انفاذ أحكامه ، و بسط عدله :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ 4 .

غناء الإنسان في حاجته إلى نظام الحياة

. . . في ذكرى القرآن و هي هذه اليد المبرورة المشكورة التي اغنت الإنسان ان يفكر في تقرير قاعدة ثابتة لحياته ، وفي وضع مبدأ حكيم لاجتماعه ، وفي تشريع دستور لحكومته ، وفي سنّ أنظمة مفصّلة عادلة لاقتصاده وسياسته ومعاملاته وحدوده وحقوقه ، وفي انشاء مناهج لتربيته و أخلاقه و سلوكه : ان يلتجىء في قوانين حياته إلى عقول محدودة ، وأن يشتقّها من نظرات ضيّقة وملابسات مخصوصة .
هذه اليد المشكورة التي أغنته في كل حقل من حقول التشريع ، وفي كل وجه من وجوه التنظيم ، أن يمد يده فيستجدي ، أو يجرّب موهبته فيخترع ، أو ينظر في قوانين الدنيا يميناً ويساراً فيركّب و يستنبط .
أغنته لو أنه فكّر وأبصر ، وسيفكر لا محالة ويُبصر ، وسيعلم ـ حين ذاك ـ أنه الحق لا ريب فيه ، ولكن بعد ان يدفع ثمن غفلته مضاعفاً ، وبعد أن تمرّ به التجارب الطويلة ، فتثبت له قصور هذه المحاولات كلها ، وبعد أن ينتبّه المسلم لشأنه فيعلم أنه متناقض الرأي ، متناقض السلوك تجاه كتاب ربّه 5 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى