مقالات

السقيفة…

نص الشبهة: 

السؤال الأول: ينقل عنكم أنكم تقولون بأنه عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن أبو بكر في السنح كما يدَّعي بعض المؤرخين، وإنما كان يعمل على تحريض بني أسلم ودفعهم إلى المدينة، للوقوف بجانبه في سلب الخلافة من أمير المؤمنين (عليه السلام) فكيف توفقون بين كلامكم هذا، وبعض ما ورد في البحار، من أن أسلم أبت أن تبايع إلا بعد بيعة بريدة، وهو لم يبايع إلا بعد بيعة علي (عليه السلام)؟ (البحار ج28 ص197 و235 .).

السؤال الثاني : كيف عرف المهاجمون أن علياً موصى بعد القتال ؟ .

الجواب: 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
وبعد . .

فإننا نجيب على السؤال المذكور بما يلي :
أولاً : إن ما ذكرناه في كتابنا « أفلا تذكرون » 1 حول صحة ما يزعم من أن أبا بكر كان حين وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في السنح إنما استندنا فيه إلى نصوص رواها السنة ، وبعضها رواه الشيعة ذكرناها هناك . . تهدف إلى بيان حقيقة : أن بيعة أبي بكر قد تمت في ظل سيوف القهر وحراب التعدي على كرامات الناس ، وعلى حرياتهم ، مع سعينا في حوارنا مع ذلك الرجل للحفاظ على السياق العلمي ، وتحري الدقة في إصدار الأحكام . .
ثانياً : بالنسبة للرواية التي تحدثت عن أن بني أسلم قد أبوا البيعة لأبي بكر حتى يبايع بريدة بن الخصيب الأسلمي ، والمنقولة في البحار 2 وفي الشافي 3 وتنقيح المقال 4و بهجة الآمال 5 .
نقول :
إننا نعالج هذا الموضوع على النحو التالي :

1 ـ بريدة في بني أسلم

إنه لم يكن لبريدة ـ فيما يظهر ـ نفوذ على جميع بني أسلم ، ويشير إلى ذلك .
ألف : إنه في فتح مكة قد حمل أحد لوائي أسلم 6 .
ب : إنه خرج مع عمر إلى الشام ، لما رجع من سرغ « موضع بين المغيثة وتبوك » أميراً على ربع أسلم 6 .

2 ـ بريدة كان غائباً

ثم إنهم يذكرون : أن بريدة لم يكن في المدينة حينما توفي النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبويع أبو بكر . بل كان غائباً إما في الشام 7 أو في بعض طريق الشام 8 .
وقد صرح بغيبته هذه حديث احتجاج بريدة على أبي بكر مع الاثني عشر صحابياً الذين كانوا غائبين أيضاً عن المدينة حينما بويع أبو بكر 9 .

3 ـ بريدة في بني سهم

إن بريدة قد كان من بني سهم الأسلميين . . وكان يعيش معهم ، وحين هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، مر به فتلقاه بريدة في سبعين راكباً من أهل بيته من بني سهم ، فقال له : ممن أنت ؟! ، قال : من أسلم . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : سلمنا ، ثم قال له : من بني من ؟! قال : من بني سهم .
قال : خرج سهمك 10 .
ويذكر نص آخر : أنه قد أسلم هو ومن معه حينما مرَّ بهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) مهاجراً ، وكانوا ثمانين بيتاً . فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العشاء الآخرة ، فصلوا خلفه .
وبقي بريدة مع قومه ، ولم يهاجر إلى المدينة إلا بعد سنوات 11 . .
وبعدما تقدم نقول :
قد يمكن الجمع بين ما دل على أن قبيلة أسلم قد ساعدت أبا بكر ، وبين هذه الرواية التي تقول : إن أسلم قد أبت أن تبايع أبا بكر حتى يبايعه بريدة ، بأن يقال :
لو صحت هذه الرواية اليتيمة ، فيكون المقصود بالذين أبوا البيعة لأبي بكر حتى يبايع بريدة ، هم خصوص بني سهم الأسلميين ، ولعلهم هم أيضاً الذين يقال : إن بريدة قد ركز فيهم رايته ، وقال : لا أبايع حتى يبايع علي . .
وعلينا أن لا نلتفت هنا إلى احتمال أن يكون قوله : لا أبايع حتى يبايع علي ، قد جاء على سبيل التحريض لخصومه ، وفتح الباب أمامهم لإكراه علي ( عليه السلام ) على البيعة . لأن ظاهر الأمر أنه كان موالياً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
أما سائر بني أسلم ، وهم قبيلة كبيرة ، فإنهم قد أعانوا أبا بكر على خصومه ، وقوي بهم جانبه كما يظهر من النصوص . .

الإكراه على البيعة

وعلى كل حال : فإن النصوص الدالة على أن فريق أبي بكر قد استخدم أسلوب القهر والإكراه للناس ، لحملهم على البيعة لأبي بكر ، كثيرة ، ومتنوعة المصادر . . ونذكر نموذجاً من ذلك ، خصوصاً ما يرتبط بدور بني أسلم ، فنقول :
1 ـ قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثني أبو بكر بن محمد الخزاعي :أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايقت بهم السكك ، فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر يقول : « ما هو إلا أن رأيت أسلم ، فأيقنت بالنصر » 12 .
2 ـ قال ابن الأثير : « وجاءت أسلم فبايعت » 13 .
3 ـ وعند المعتزلي : « جاءت أسلم فبايعت ، فقوي بهم جانب أبي بكر » 14 .
4 ـ عن أبي مخنف ، عن محمد بن السائب الكلبي ، وأبي صالح ، عن زائدة بن قدامة : أن قوماً من الأعراب دخلوا المدينة ليمتاروا منها ، فأنفذ إليهم عمر ، فاستدعاهم وقال لهم :
« خذوا بالحظ والمعونة على بيعة خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فمن امتنع ، فاضربوا رأسه وجبينه .
قال : فوالله ، لقد رأيت الأعراب قد تحزموا ، واتشحوا بالأزر الصنعانية ، وأخذوا بأيديهم الخشب ، وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطاً ، وجاؤوا بهم مكرهين إلى البيعة » 15 .
وسيأتي : أن الأعراب الذين كانوا حول المدينة هم أسلم ، وجهينة ، وغفار ، وأشجع .
5 ـ قد روى المعتزلي وغيره ، عن البراء بن عازب : أنه فقد أبا بكر وعمر حين وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، « وإذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، وإذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر فلم ألبث ، وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ، ومعه عمر ، وأبو عبيدة ، وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية ، لا يمرون بأحد إلا خبطوه ، وقدموه ، ومدوا يده ، ومسحوها على يد أبي بكر ، شاء ذلك أو أبى » 16 .
فهذا النص يقترب جداً إلى سابقه ، إلى حد التطابق ، وهما معاً يقتربان ـ بنحو أو بآخر ـ من النصوص المتقدمة حول بني أسلم . .
وقبل أن نذكر سائر النصوص التي هي محط نظرنا ، نشير إلى إشكال أورده البعض حول بني أسلم ، وإلى جوابه ، فنقول :

التشكيك غير المقبول في رواية الخزاعي

قد حاول بعضهم التشكيك في صحة نقل الخزاعي فقال :
« إن أسلم بطن من خزاعة ، وليسوا بأكثر العرب فرساناً ، ولا بأشجعهم ، وأعزهم .
وكيف أيقن بالنصر عند بيعتهم ، ولم يتيقن حينما صفقت الأنصار بالبيعة لهم ؟
نعم قد يكون الراوي ، وهو أبو بكر بن محمد الخزاعي أراد أن يباهي بقومه ، ويكتسب لهم نوالاً بذلك » 17 .
ونقول :
إن ما ذكره هذا البعض لا يمكن قبوله ، وذلك لما يلي :
أولاً : إنه لم يدَّع أحد أن بني أسلم كانوا أكثر العرب فرساناً ، وأشجعهم ، وأعزهم ، بل قالت الرواية : إن حضورهم قد أعطى جانب أبي بكر قوة في الموقف ، حتى أيقن عمر بالنصر على أولئك الممتنعين عن البيعة لأبي بكر ، أو يتوقع امتناعهم عنها ، ممن يعيشون في المدينة من الأنصار ، أو من بني هاشم .
ولم يكن إخضاع المخالفين لأبي بكر في داخل المدينة يحتاج إلى أن تكون القبيلة اكثر العرب فرساناً ، أو أشجعهم ، وأعزهم . . لاسيما مع علم أبي بكر وعمر بوصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) ، بأن لا يقاتل المعتدي على حقه إلا إذا وجد أنصاراً يقدرون على تسجيل النصر . .
بل كان يكفي أبا بكر بضعة مئات من الرجال لفرض إرادته على المدينة بأسرها . . وهي البلد الصغير ، والمنقسم على نفسه .
علماً بأن الكثرة تغلب الشجاعة . . فكيف إذا كان مناصروه من الكثرة بحيث تضايقت بهم سكك المدينة .
بل هو قد استطاع أن يحشد بضعة ألوف من حملة السلاح كما سنرى .
بقي أن نشير إلى السؤال المطروح كيف عرفوا أن علياً ( عليه السلام ) موصى بعدم القتال في ظرف كهذا ؟!
ونقول في جوابه :
الظاهر هو أن ذلك قد تم عن طريق عائشة وحفصة اللتان نبأتا بالسر الذي أسره النبي لهما وقد تظاهرتا عليه . . وكان تظاهرهما خطيراً جداً إلى حد أنه ( صلى الله عليه وآله ) قد احتاج إلى أن يكون الله مولاه ، وجبريل ، وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير . .
ولولا الخطورة البالغة للسر الذي أفشتاه لما احتاج الرسول ( صلى الله عليه وآله ) للخلاص من الخطر المتوجه إليه منهما إلى هذه المعونة الكاملة ، والشاملة ، والعظيمة .
ولهذا البحث مجال آخر . .
ثانياً : إن إيقان عمر وأبي بكر بالنصر ، عندما جاءت قبيلة أسلم . . إنما هو لأنه قد أصبح لديه جيش قادر على مواجهة أصحاب سعد بن عبادة ، والهاشميين ، وغيرهم من أصحاب علي ( عليه السلام ) . وبهذا يتم حسم الأمر لصالحه .
أما بيعة الأنصار لأبي بكر في السقيفة ، فإنها لم تكن قادرة على حسم الأمور لصالحه . . لأن علياً ( عليه السلام ) ومن معه ، قد يكون لهم تأثير سلبي على الذين بايعوا أبا بكر في السقيفة ، فإن الأنصار ، الذين تخلوا عن سعد ، هم أنفسهم قد هتفوا في السقيفة بالذات باسم علي ( عليه السلام ) ، وقالوا : لا نبايع إلا علياً . . أو قالوا : إن فيكم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد . .
كما أن من الممكن أن يعرف الناس بأن ما أشاعوه عن علي ( عليه السلام ) من أنه قد انصرف عن هذا الأمر ، ـ قد يعرف الناس ـ أنه مكذوب عليه ، فيكون ذلك سبباً في تراجع الكثيرين عن قرارهم بالبيعة لأبي بكر ، وذلك يحمل في طياته أخطاراً جساماً بالنسبة لحسم الأمور لصالح أبي بكر . .
فكان مجيء قبيلة أسلم بمثابة ضمانة قوية لنجاح مشروع أبي بكر ، ولذلك قال عمر : لما أن رأيت أسلم أيقنت بالنصر .
ثالثاً : إن عامة الأنصار لم يبايعوا أبا بكر في السقيفة . . وإنما بايعه عمر وأبو عبيدة من المهاجرين ، وبعض الأنصار ، مثل ، أسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، وهو لا يزال بحاجة إلى حشد التأييد للتقوي على الآخرين . . وليأمن غائلة أي أمر قد يحدث .
رابعاً : أما قوله : إن قبيلة أسلم بطن من خزاعة ، وأن الخزاعي قد أراد أن يباهي بقومه .
فهو غير ظاهر الوجه . . فإن أسلم ليست بطناً من خزاعة ، وإن كانا يجتمعان في الأزد ، إذ إن اجتماعهما في الأزد غير مفيد؛ فإن خزاعة من ربيعة بن حارثة ، وأسلم من أفصى بن حارثة 18 .

كبس الناس في بيوتهم

ونعود إلى ذكر بعض النصوص التي لا تبتعد عن تلك النصوص التي ذكرناها آنفاً . بل تأتي مؤكدة لمضمونها الصريح بإجبار الناس على البيعة ، فنقول :
6ـ روي عن عبدالله بن عبد الرحمن قال :
« إن عمر احتزم بإزاره ، وجعل يطوف بالمدينة ، وينادي : ألا إن أبا بكر قد بويع له ، فهلموا إلى البيعة ، فينثال الناس عليه فيبايعون . فعرف أن جماعة في بيوت مستترون ، فكان يقصدهم في جمع كثير ويكبسهم ، ويحضرهم المسجد ، فيبايعون ، حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) . . الخ . . » .
ثم تذكر الرواية إحضارهم الحطب لإحراق باب علي والزهراء ( عليهما السلام ) على من فيه . . 19 .
7 ـ ذكر الطبرسي أنه قد جيء بعلي ( عليه السلام ) ملبباً يُعْتَلُ ـ أي يجر بعنف ـ إلى أبي بكر « وعمر قائم بالسيف على رأسه ، ومعه خالد وأبو عبيدة ، وسالم ، والمغيرة ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعد . وسائر الناس قعود ، ومعهم السلاح » . ثم تذكر الرواية أنهم مدُّوا يد علي ( عليه السلام ) وهو يقبضها ، حتى وضعوها فوق يد أبي بكر 20 .
8 ـ هناك حديث الاثني عشر ، الذين احتجوا على أبي بكر ، ونصحوه بالتراجع عما أقدم عليه ، فقد جاء في آخره :
« فنزل أبو بكر من المنبر ، فلما كان يوم الجمعة المقبلة ، سل عمر سيفه ، ثم قال : لا أسمع رجلاً يقول مثل مقالته تلك إلا ضربت عنقه ، ثم مضى هو وسالم ، ومعاذ بن جبل ، وأبو عبيدة ، شاهرون سيوفهم حتى أخرجوا أبا بكر وأصعدوه المنبر » 21 .
وقال الصدوق بعد ذكره للاحتجاجات المشار إليها :
« فأخبر الثقة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أن أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الثالث أتاه عمر بن الخطاب ، وطلحة ، والزبير ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة بن الجراح ، مع كل واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم ، شاهرين السيوف ، فأخرجوه من منزله ، وعلا المنبر ، وقال قائل منهم :
« والله ، لإن عاد منكم أحد فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه . فجلسوا في منازلهم ، ولم يتكلم أحد بذلك » 22 .
وذِكْرُ الزبير في هذه الرواية : إما أن يكون سهواً من الرواة ، بسبب الارتكاز والربط الذهني بينه وبين طلحة ، بحيث إذا ذكر أحدهما سبق الذهن إلى الآخر أيضاً . .
وإما أنه قد ذكر عمداً ، ويكون قد عاد إلى موالاة القوم بعد أن فرغت يده من علي ( عليه السلام ) ، ونحن نرجح الاحتمال الأول ، لأن الزبير كان في بداية أمره موالياً لعلي ( عليه السلام ) . . ومن البعيد أن ينقلب عليه بهذه السرعة .
ومهما يكن من أمر : فإن هذا الحديث مروي بعدة طرق . . وقد رواه ابن طاووس عن أحمد بن محمد الطبري ، المعروف بالخليلي ، وعن محمد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ ، في كتاب مناقب أهل البيت ( عليهم السلام ) 23 ، وقال : « إعلم أن هذا الحديث روته الشيعة متواترين . . الخ . . » 24 .
وقد ذكر السيد هذه الرواية لكنه قال : « فجلس أبو بكر في بيته ثلاثة أيام ، فأتاه عمر وعثمان ، و . . و . . إلى أن قال : فأتاه كل منهم متسلحاً في قومه حتى أخرجوه من بيته ، ثم أصعدوه المنبر ، وقد سلوا سيوفهم فقال قائل منهم : والله ، لئن عاد أحد منكم بمثل ما تكلم به رعاع منكم بالأمس لنملأن سيوفنا منه ، فأحجم ـ والله ـ القوم ، وكرهوا الموت » 25 .
أربعة آلاف مقاتل :
9 ـ إن نصاً آخر للحديث الآنف الذكر نفسه يذكر رقماً محدداً للمقاتلين الذين استفادوا منهم في إرعاب الناس من الأنصار وغيرهم ، وخصوصاً في مواجهة علي ( عليه السلام ) ومن معه . .
فقد روى الطبرسي ( رحمه الله ) وغيره ، حديث احتجاج الاثني عشر صحابياً على أبي بكر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : أنهم بعد ان تكلموا بما أفحم أبا بكر ، أخذ عمر بيده « وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل ، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب ، حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال عمر : والله يا أصحاب علي ، لئن ذهب منكم رجل يتكلم ، بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه » 26 .

المدينة . . وسكانها

وواضح : أن المدينة على ساكنها وآله [أفضل الصلاة والسلام] ، كانت بلداً صغيراً جداً ، كما أوضحناه ، أكثر من مرة ، فقد كان عدد سكانها ممن يقدر على حمل السلاح لا يتجاوز بضعة مئات . . أما عدد مجموع سكانها فقد لا يصل إلى ألفي نسمة بمن فيهم النساء والرجال ، والكبار ، والصغار ، ومن السكان الأصليين ، أو من غيرهم . .
ولعل مما يدل على ذلك : ما ذكروه من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد طلب منهم أن يكتبوا له كل من تلفظ بالإسلام . . فكتب له حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل .
وفي رواية أخرى : ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مئة 27 .
مع أن الذين تلفظوا بالإسلام لا ينحصرون بمن هم في المدينة ، بل يشمل ذلك القبائل التي حول المدينة من الأعراب ، وكذلك غيرهم .
ويشير إلى ذلك أيضاً : أن الذين بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) تحت الشجرة كانوا ـ كما قيل ـ ألفاً وأربع مئة ، أو ألفاً وخمس مئة ، وقيل : كانوا ألفاً وثمان مئة .
وكان من بين هؤلاء أيضاً جماعات من غير أهل المدينة ممن أسلم من القبائل القريبة منها . . وكان من بينهم المهاجرون ، وهم يعدون بالمئات أيضاً . .
وذلك كله يشير إلى أن تجنيد أبي بكر المئات والألوف إلى حد أربعة آلاف مقاتل ، لا يمكن أن يكون من سكان المدينة وحسب . . إذ إن المدينة لا يمكن أن تجند ، ولو ربع هذا العدد ، كما أن أكثر الأنصار ، وبني هاشم ، وكثيرين غيرهم ، ما كانوا على رأي أبي بكر ، ولا هم من حزبه . . ولا يستطيع أبو بكر أن يجندهم ضد علي ومن معه ، وضد سعد بن عبادة ومن معه ، وضد جماعات من المهاجرين والأنصار الآخرين .
وذلك كله يحتم عليه أن يستعين بالأعراب من خارج المدينة وهكذا كان . .
فإنهم هم الذين يمكن جمع المئات والألوف منهم ، وهم الذين يمكن أن يبادروا لهتك حرمة أشراف الناس ، طمعاً بالمال والنوال . فإن جهلهم وجفاءهم وأعرابيتهم ، تجعلهم يتجاوزون كل الحدود . . وهم الذين قال الله تعالى عنهم : ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ 28.
ولعل هذا الذي كان من هؤلاء الأعراب حين وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي أرادت الآية القرآنية أن تلمح إليه ، حيث صرحت بالحديث عن نفاق الأعراب الذين حول المدينة ، وذلك لتعرِّف الناس بالدور الذي سيضطلعون به في ضرب أساس هذا الإسلام العزيز بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله ) .
كما أنه سيكون هناك دور لمنافقي أهل المدينة أنفسهم في هذا السبيل ، فقد قال تعالى : ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ 29.
فإن عذابهم مرتين ربما يكون مشيراً إلى خيانتهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرة ، وخيانتهم لوصيه أخرى ، فاستحقوا العذاب مرتين بذلك في الدنيا ، ثم يردون إلى عذاب عظيم في الآخرة .

بنو أسلم في هذه الآية

وبذلك يعلم : أن علينا أن لا نتجاهل هنا ، ما قيل في تفسير الآية المباركة المذكورة آنفاً : ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ … ﴾ 29. قال عكرمة : جهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار 30 31 .

  • 1. أفلا تذكرون ص 164 ـ 166 .
  • 2. هامش ص 197 ج 28 .
  • 3. الشافي ج 3 ص 243 .
  • 4. تنقيح المقال ج 1 ص 166 .
  • 5. بهجة الآمال ج 2 ص 294 .
  • 6. a. b. تاريخ دمشق ج 10 ص 123 .
  • 7. راجع : بهجة الآمال للعليَّاري ج 2 ص394 وتنقيح المقال ج 1 ص 166 .
  • 8. راجع : تنقيح المقال ج 1 ص 166 عن حذيفة .
  • 9. راجع : الإحتجاج ج 1 ص 190 .
  • 10. أسد الغابة ج 1 ص 176 وتاريخ دمشق ج 10 ص 123 وبهجة الآمال ج 2 ص 392 .
  • 11. راجع : أسد الغابة ج1 ص 175 ، والبحار ج 28 هامش ص 197 ، وبهجة الآمال ج 2 ص 392 ، وقاموس الرجال ج 2 ص 174 ، وتاريخ دمشق ج 10 ص 123 ، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 13 ص 272 .
  • 12. تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 222 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وتلخيص الشافي ج 3 ص 66 والبحار ج 28 ص 335 .
  • 13. الكامل في التاريخ ج 3 ص331 .
  • 14. شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 2 ص 40 وعنه في البحار ج 28 ص 326 .
  • 15. الجمل للشيخ المفيد ص119 .
  • 16. شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص219 والبحار ج28 ص286 وكتاب سليم بن قيس ج2 ص572 نشر الهادي .
  • 17. البحار ج 28 هامش ص 335 و336 .
  • 18. راجع : قاموس الرجال ج2 ص289 طبع جماعة المدرسين سنة 1410 هـ .
  • 19. راجع : الإحتجاج ج 1 ص 201 ـ 202 والبحار ج 28 ص 204 .
  • 20. الإحتجاج ج 1 ص 212 ـ 213 فما بعدها والبحار ج 28 ص 270 ـ 276 وكتاب سليم بن قيس ج 2 ص 587 وراجع : تخريج الحديث ج 3 ص 965 ـ 966 فإنه أشار إلى العديد من المصادر .
  • 21. كتاب الرجال للبرقي ص 66 .
  • 22. الخصال ج 2 ص 465 وراجع البحار ج 28 ص 213 ـ 219 .
  • 23. راجع : اليقين ص 108 .
  • 24. اليقين في إمرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ص 108 / 113 وراجع البحار ج 28 ص 214 / 215 .
  • 25. اليقين ص 113 والبحار ج 28 ص 219 .
  • 26. الإحتجاج ج1 ص200 والبحار ج28 ص202 عنه والصراط المستقيم ج2 ص82 عن كتاب إبطال الاختيار ، بسنده عن أبان بن عثمان ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) .
  • 27. راجع مصادر ذلك في كتابنا : السوق في ظل الدولة الإسلامية ص 68 .
  • 28. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 97، الصفحة: 202.
  • 29. a. b. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 101، الصفحة: 203.
  • 30. الدر المنثور ج 3 ص 271 عن ابن المنذر .
  • 31. مختصر مفيد . . ( أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، « المجموعة الخامسة » ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، 1424 ـ 2003 ، السؤال (256) .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى