منوعات

شهر رمضان وعادات الانسان

فالعقل دائماً هو قوة خير، أما الشهوة والغضب والوهم فهي في أصل وجودها كانت لخير الإنسان، فبالشهوة تستمر المسيرة الإنسانية بالتناسل، وبالغضب يدافع الإنسان عن نفسه وعرضه ووطنه، وبالوهم يخطّط للنجاح في حياته، إلا أن الإنسان قد يُحرِف فاعلية هذه القوى الثلاث، لتسير في مسارات باطلة.

وأراد الله تعالى أن ينظِّم هذه القوى الثلاث، وذلك بأن يكون العقل هو الناظر في أمورها، والحاكم والسلطان عليها.

وشهر رمضان هو مدرسة تدريبية لتقوية حكومة العقل على سائر القوى.

ومن مظاهر هذا التدريب ما يرتبط بتنظيم ما اعتاد عليه الإنسان من خلال سيطرة العقل على اندفاع بقية القوى الباطنية، وذلك من خلال لاءات أطلقها، وأمور أكّدها؛ ليؤدّي ذلك إلى تنظيمٍ لحركة الإنسان مع الله تعالى أوّلاً، ومع الناس ثانياً، لا سيّما فيما يتعلّق بعادات الإنسان التي قاربها شهر رمضان بالدعوة إلى إيقاف مؤقّت لبعضها، وإلى إيجادٍ وتثبيتٍ لبعضها الآخر.

أ-الإيقاف المؤقت لعادات شهويّة

اعتاد الإنسان أن يأكل في أوقات النهار حينما يجوع، وأن يشرب فيها حينما يعطش، واعتاد المدخِّنون أن يتناولوا السجائر حينما يريدون، ولم يكن النهار حاجزاً في عادة كثير من الناس أمام تلبية رغباتهم الجنسية.

أمام هذه الحرّية المتاحة جاءت مدرسة شهر رمضان لتمنع الصائم عن الأكل والشرب والتدخين والعلاقة الخاصة في أيام شهر رمضان من فجرها إلى غروبها، لا ليجعل الإنسان راهباً في صومعة الوحدة، بل ليعلّمه كيف تقف إرادته قويَّة أمام شهواته، لتقول لها: لا، حينما يمنعه الله تعالى، ولتسمح لها بذلك في الوقت الذي تحدّده هذه الإرادة الموافقة لإرادة الله تعالى.

ب- التأكيد على عادات عبادية

وضع الإسلام برامج عبادية أحبّها الله تعالى للإنسان في جميع أيامه، إلا أنّ خصوصيّةً فيها برزت في شهر رمضان المبارك، ولعلّ ذلك ليكون – إضافة إلى أهميتها الخاصة في شهر الله- مدخلاً لتثبيتها في غيره من الشهور ومن بنود هذا البرنامج:

1- قراءة القرآن الكريم

أكّد الرسول الأكرم (ص) على قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان ببيان استثنائي قال فيه: “من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور”[1].

إنّ هذا التأكيد يجعل المؤمن يعتاد يومياً في شهر رمضان المبارك أن يقرأ كتاب الله، ساعياً على الأقل أن ينجز تلاوة جزءٍ كاملٍ كلّ يوم.

وهذا الأمر دافع ليعتاد على قراءة القرآن يومياً في بقية الشهور، ولو بأن يقرأ بالحدّ الأدنى الذي رسمه رسول الله (ص) للمؤمن في برنامجه اليومي وهو خمسون آية، فعن النبي (ص): “من قرأ خمسين آية في يومه أو ليلته لم يكتب من الغافلين”[2].

2- الاستيقاظ وقت السحر

ورد تشجيع نبويّ أن يتناول المؤمن في شهر رمضان الطعام والشرب في الثلث الأخير من الليل، فعنه صلى الله عليه وآله: ” تسحَّروا ولو بجرع الماء، ألا صلوات الله على المتسحّرين”[3]. إلاّ أنّ ما يريده الله تعالى في وقت السحر مقدَّماً على الطعام والشراب هو الغذاء الروحي وتذوّق لذة العبادة من مناجاة وصلاة وقراءة لكلام الله تعالى.

3- الصلاة في أول الوقت

أكّد النبي (ص) على الدعاء في شهر رمضان في أوقات الصلوات بقوله (ص): “وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات”[4]وفي هذا دعوة واضحة إلى الاهتمام بالصلاة في أوّل وقتها، وهذا ما ورد في أحاديث عديدة، فعنه (ص): ” ما من عبدٍ اهتمّ بمواقيت الصلاة، ومواضع الشمس إلا ضمنت له الرّوح عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار”[5].

إنّ مراقبة الفجر لانتهاء الإمساك وصلاة الصبح، ومراقبة غروب الشمس لانتهاء الصيام وصلاة المغرب مدعاة لمراقبة أوقات الصلوات في جميع أيام السنة لأدائها في أوائل أوقاتها.

4- صلوات النوافل

شجّع النبي (ص) على أداء الصلوات المستحبة في شهر رمضان بقوله (ص): “من تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فرضاً في غيره من الشهور”[6].

وإذا لاحظنا الاستيقاظ أوقات السحر في شهر رمضان فإنّ ذلك يكون مناسبة لأداء صلاة الليل التي ورد فيها عن الإمام الصادق (ع): “صلاة الليل تحسّن الوجه، وتحسّن الخلق، وتطيّب الريح، وتدرّ الرزق، وتقضي الدين، وتذهب بالهم، وتجلو البصر، عليكم بصلاة الليل؛ فإنّها سُنّة نبيّكم، ومطردة الداء عن أجسادكم”[7].

وكذا ورد عنه (ع): ” إنّ البيوت التي يصلّى فيها صلاة الليل تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض”[8].

إنّ حديث النبي (ص) المتقدم حول الصلوات المستحبة يدفع الإنسان إلى الاهتمام بنافلة الفجر ونافلتي الظهرين ونافلة المغرب وصلاة الغفيلة وصلاة الوتيرة، ليستمر بها أو ببعضها بعد الشهر الفضيل؛ لينال ما ورد في حديث الرسول الأكرم (ص) لما أسري به: “يا ربّ، ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد، ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته”[9].

5- ارتياد المساجد

إنّ وعي أهمية نسبة الرسول الأكرم (ص) شهر رمضان إلى الله تعالى فسماّه شهر الله، مع أنّ كلّ الأزمنة هي لله سبحانه تدفعه للاهتمام بالمساجد التي نسبها الله تعالى إليه من بين الأمكنة التي هي كلّها لله عز وجل، ففي الحديث عن النبي (ص): “إنَّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطَّهر في بيته، ثم زارني في بيتي”[10]، وإن استماع حادثة شهادة أمير المؤمنين (ع) الذي أصرّ في شهر الله تعالى على الذهاب إلى المسجد لصلاة الفجر جماعة عالماً بضربة السيف فيه تدفع المؤمنين للسير على خطى الإمام (ع) في المسير إلى مساجد الله تعالى لنيل المقامات الرفيعة فيها.

وفي المسجد يذوق الإنسان لذّة الحضور الإلهي الخاص التي تخوّله ليكون من الخواص الذي ورد فيهم: “سبعة يظلّهم الله عز وجل في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد…”[11].

ج- التأكيد على عادات اجتماعية

في شهر رمضان يعتاد الناس على عادات من الجميل والمحبّب أن تستمر بعده، وهي:

1- الجلوس مع العيال

إنّ جلوس العائلة على مائدة الإفطار من المشاهد الجميلة البهيّة التي يحبها الله تعالى ورسوله (ص) الذي ورد أنه قال “جلوس المرء عند عياله أحبّ إلى الله تعالى من اعتكاف في مسجدي هذا”[12].

والمؤمن الواعي هو الذي يستثمر هذه الجلسات ليحقق أموراً عديدة منها:

· التغذية العاطفية الهامة للأسرة والتي تتحقق بحضور الأب والأم مع الأولاد.

· الاهتمام بأمور العائلة وحاجاتها وتطلعاتها المستقبلية وتوجيهها نحو الأفضل، لا سيّما فيما يتعلّق بإصلاح النفس وتزكيتها.

1-التواصل مع الأرحام

إنَّ تأكيد النبي (ص) على صلة الرحم في شهر رمضان بقوله “من وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه”[13]، يدفع الإنسان إلى إيجاد آليات لهذا التواصل من قبيل:

· دعوة أرحامه وأقربائه إلى مائدة الإفطار.

· زيارتهم.

· التواصل معهم على الهاتف أو عبر البريد الالكتروني ونحو ذلك.

· إرسال مساعدات للفقراء منهم.

· بعث الهدايا لهم.

ومن الجميل أن يستثمر كلّ ذلك بما يساهم في هدايتهم إلى الله تعالى.

3- إطعام الطعام

من المستحبات في الإسلام إطعام الطعام الذي له خصوصية في شهر رمضان عبَّر عنها النبي الأعظم (ص) بقوله- الوارد عنه-: “من فطّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً”[14]، وكذا قوله (ص):”فطرُك لأخيك المسلم وإدخالُك السرور عليه أعظم أجراً من صيامك”[15].

وقد ورد أنّ رسول الله (ص) كان يلبِّي دعوة الإفطار، ويدعو لمن يدعوه لذلك، فعن أمير المؤمنين (ع): “كان رسول الله (ص) إذا أكل عند القوم قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الأخيار”[16].

وفي إطعام الطعام ينبغي الالتفات إلى الأمور الآتية:

· استحباب الإطعام بشكل عام

إن إطعام الطعام مستحب للمؤمنين – بشكل عام- فليس استحبابه منحصراً بإطعام الفقراء والمساكين، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): “إنّ الله عز وجل يحبّ الإطعام في الله، ويحبّ الذي يُطعم الطعام في الله، والبركةُ في بيته أسرع من الشفرة في سنام البعير”[17]. وهذه الدعوة تقع من ضمن سياق التنوّع التشريعي الذي بيّن استحباب صدقة السر وصدقة العلن، وصلاة الجماعة في المسجد، وصلاة النافلة في البيت، وهكذا في إطعام الفقراء والوليمة للمؤمنين بشكل عام عند الرزق بالولد، والعودة من الحج، والانتقال إلى المنزل، الخ.

· لا بأس بالطعام الطيّب

ورد أنّ سديراً تناول الطعام مع الإمام جعفر الصادق (ع) فقال:”ما أكلت مثله قط، ولا أظنّ أنّي آكل مثله أبداً، ثم إنّ عيني تغرغرت فبكيت، فقال (ع): “يا سدير ما يبكيك؟”، قلت: يا ابن رسول الله، ذكرت آية في كتاب الله، قال: وما هي؟ قلت: قول الله في كتابه “لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ”[18]، فخفت أن يكون هذا الطعام الذي يسألنا الله عنه، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: يا سدير، لا تُسال عن طعام طيّب، ولا ثوب ليّن، ولا رائحة طيبة، بل لنا خلق، وله خلقنا، ولنعمل فيه بالطاعة، قلت له: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله، فما النعيم؟ قال (ع): حبُّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعترته (عليهم السلام)، يسألهم الله تعالى يوم القيامة كيف كان شكركم لي حين أنعمتُ عليكم بحبِّ علي وعترته”[19].

· الالتفات إلى إطعام الفقراء

ورد أنَّ كليم الله موسى (ع) قال: “إلهي فما جزاء من أطعم مسكيناً ابتغاء وجهك؟ قال: يا موسى، آمر منادياً ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: فلان بن فلان من عتقاء الله من النار”[20].

· عدم الاقتصار على ولائم الأغنياء

ورد عن النبي (ص) أنه كان يكره إجابة من يشهد وليمة الأغنياء دون الفقراء.

وهذا يتماشى على ما أراد الإسلام أن يسير به الناس في المجتمع من إزالة الفوارق الطبقية، لأنَّ الطبقية التي قد تؤدي إلى أمورٍ منها:

1- شعور الفقراء والمستضعفين بالضغينة على أصحاب النعم أو على الأقل الشعور بضعف الذات الذي قد يؤدي إلى الكآبة أو الإحباط.

2- محاولة بعض الفقراء أن يقاربوا في نمط حياتهم من يعرفون من الأغنياء، وهذا يؤدي إلى الإرهاق، وبدوره قد يؤدّي إلى خروج الإنسان عن مسيرته في الاستقامة.

· المحافظة على النعمة وعدم رميها دون استفادة

ففي الحديث عن النبي (ص): ” ضغطة القبر للمؤمن كفارة لما كان منه من تضييع النعم”[21].

[1]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج93، ص357.

[2]البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، (لا،ط)، قم، (لا،ن)، 1409هـ، ج15، ص20.

[3]المصدر نفسه، ج94، ص344.

[4]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج93، ص357.

[5]المصدر نفسه، ج80، ص9.

[6]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج93، ص357.

[7]المصدر نفسه، ج59، ص268.

[8]الحلي، المعتبر، تحقيق عدة من الأفاضل وإشراف الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، (لا،ط)، قم، مؤسسة سيد الشهداء، ج2، ص17.

[9]الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج3، ص2540.

[10]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج80، ص373.

[11]المصدر نفسه، ج26، ص261.

[12]الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص1186.

[13]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج93، ص357.

[14]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار ، ج94، ص78.

[15]المصدر نفسه، ص126.

[16]المصدر نفسه، ج16، ص293.

[17]المصدر نفسه، ج71، ص368.

[18]سورة التكاثر، الآية 8.

[19]الميرزا النوري، حسين، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، بيروت، 1988م، ج7، ص248-249.

[20]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج13، ص327.

[21]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج6، ص221.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى