مقالات

العودة من الحج…

ليس الحج بتلك الهدية البسيطة التي يمكن للإنسان الحصول عليها ، فقد ترى من يحج مرة واحدة ، ولكنه يعرف وإلى آخر عمره بالحاج فلان ، باعتبار أن الحج من صفاته التأثير في كل جزءٍ من أجراء ابن آدم ، وهذا التأثير لا ينقضي أو يتلاشى بسهولة ، قياساً بفريضة الصوم التي يحل وجوبها كل عام مرة ، أو بفريضة الصلاة التي تفرض نفسها على الإنسان المسلم خمس مرات يومياً ، فينقضي الصوم وتأثيره بانقضاء العام ، كما تحتاج الصلاة إلى المداومة عليها كل يوم ولعدة مرات ، تبعاً لمحدودية تأثيرها ، بينما الحج له التأثير البالغ كما له القابلية على الاستمرار طيلة العمر .

إن الحج بمثابة تطعيم الشخص بالمضاد ذي الأثر الدائم ، خلافاً للمضادات الأخرى التي قد يطعم بها ضد الفيروس مرتين أو ثلاث أو أكثر خلال عمره لمقاومة تعرضه للأمراض .
وكما كان على الإنسان أن يشكر الله تبارك وتعالى على ما وفقه لنعمة أداء فريضة الحج ، كذلك عليه أن يبحث عن السبل الكفيلة للاستفادة الدائمة من هذا الوسام الإلهي المقدس .
إن من عجائب أسرار فريضة الحج هي أن الإنسان كما يحس في داخله جذباً شديداً إلى أدائها ، كذلك تجد يتملكه الإحساس بضرورة الإسراع في العودة ولقاء الأهل بمجرد انتهائه منها ، فتراه يستبق الآخرين بهذا الشأن ، رغم أنه عانى ما عانى من أجل الوصول إلى بيت الله الحرام وأداء سائر المناسك . . وهذه هي طبيعة الحج ، إذ أنه دعوة موجهة من الله سبحانه وتعالى إلى أشخاص معينين ، الغرض منها التفضل عليهم بولادة جديدة ، وفور ولادتهم عليهم بالعودة إلى أوطانهم ليطبقوا ما استفادوه على أنفسهم وليفيدوا الآخرين .
وهنا ثم سؤال يقفز إلى الأذهان بخصوص كيفية التمكن من الاستفادة من هذه الحصيلة والنعمة الإلهية التي أعطانا الله إيّاها ؟
والجواب يكمن في تطبيق خمس وصايا حينما نرجع إلى أوطاننا :

الوصية الاولى

أن نضع الحج نصب أعيننا كلما تعرضنا لفتنة وامتحان ، كأن يعرض علينا المال الحرام أو تسنح أمامنا الفرصة الحرام ، أو تواجهنا مشكلة فيزين لنا الشيطان أو الضغوط الاجتماعية بحلها عن طريق تضييع حقوق الآخرين . . فإذا وضعنا الحج نصب أعيننا على الدوام ، ولا سيما إذا استذكرنا لحظاته الروحانية والملكوتية ، كان ذلك حاجزاً أمام تجاوزنا لحدود الله وتشريعاته ، حيث نضطر إذ ذاك إلى إجراء مقايسه بين فضيلة الحج وما أولانا الرب عز وجل من مغفرة كاملة لذنوبنا ، وبين ما يمكن أن تستحقه المعصية التي يوسوس لنا الشيطان والنفس الأمارة والضغوط الاجتماعية والحاجة الاقتصادية ـ مثلاً ـ بارتكابها وتضييع قيمة الحج وفضيلته في نهاية المطاف .
إذن ؛ فالقرار النهائي في الإبقاء على نقاء صفحات أعمالنا لفترة ما بعد الحج هو في الحقيقة رهن إشارتنا نحن لا غير ، وعليه فإنه لا يجوز لنا أن نتنازل عن حجنا ونستخف بهدية الله التي وهبنا إيّاها ، وهي المغفرة والولادة الجديدة ، نظراً إلى أنه لا شيء في هذه الدنيا يستحق التفريط بهذه الهدية الربانية من أجله . . فنحن قد عاهدنا الله في مختلف بقاع الأرض المقدسة على التوبة ، فلا يجوز أن ننقض هذا العهد المبارك .

التوصية الثانية

ضرورة أن نقيم ـ كحجاج عائدين إلى أوطاننا ـ التجمعات الإيمانية ، وأن نحرص على عدم انهيارها . فالحاج الذي لا يتحفز إلى حضور المساجد والمراكز الإسلامية بين إخوانه الحجاج الذين تذكره طلعتهم بتلك الخواطر الإيمانية التي مرت عليه أثناء الحج ، مثل هذا يخاف عليه من الانطواء أولاً ، ومن أن يكون حاله حال الشاردة التي مصيرها في مخالب الذئب . . فالذي يحفظ المؤمن والحاج العائد وما يحمل من صفاء ذاتي من الضياع والتلاشي هو التجمع الإيماني ، وعلى الأخص في المجتمعات الغربية ، حيث يعيش المؤمنون كأقلية من حيث العدد ومن حيث الفكر والعقيدة .
ولتعلم أيها الحاج العائد إلى غربتك في البلاد غير الإسلامية أنه قد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” إذا رأيتم روضة من رياض الجنة ، فارتعوا فيها ” .
قيل : يا رسول الله ؛ وما روضة الجنة ؟!
قال : ” مجالس المؤمنين ” 1 .
وأنا أقترح في هذا المقام على الإخوة القاطنين في الدول الغربية أن يعملوا بوصية الله تبارك اسمه لنبيه موسى بن عمران عليه السلام وقومه ، حيث قال لهم : ﴿ … وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً … ﴾ 2؛ أي التركيز على إقامة التجمع الإيماني في مكان واحد ، فهذا أحصن لوجودها وأهيب لكيانها المستهدف من قبل كثير من الدوائر الاستكبارية عموماً .

الوصية الثالثة

إننا إذا رجعنا فلنحاول المحافظة على علاقاتنا مع بعضنا ، فلا شك أن المجموعة التي حجت معاً توثقت العلاقات الطيبة فيما بين أفرادها ، إذ الحج ليس سفرة كسائر السفرات ، وعليه فلابد من تعميق الاتصال أياً كان نوعه بينهم ، للإبقاء على ذكريات الحج ماثلة في أذهانهم ، مما يساعد على طراوتها وحلاوتها أبداً .

الوصية الرابعة

يجب أن يكون الحاج على اطلاع تام بأن آباءنا وأجدادنا الذين حافظوا على الإسلام وغرسوه في قلوبنا ، قد دفعوا في سبيل ذلك الغالي والنفيس وضحوا بدمائهم وعانوا الأمرين وكانوا عرضة للمجازر الدموية وحملات الإرهاب والتعذيب والتهجير ومصادرة الحقوق بأبشع الأنواع .
إن الاطلاع على كل ذلك يدفع المؤمنين والحجاج العائدين إلى البلاد الغربية بالذات ، ولا سيما النساء منهم إلى التعامل مع فريضة المحافظة على الدين تعاملاً واعياً ومقدساً . . هذا من جانب .
ثم من جانب آخر أنكم حينما قدمتم إلى الحج قد أُعطيتم تعليمات صحية عديدة ، لأنكم قد قدمتم في سفرة فيها الصعوبات والاختلاط والازدحام ، باعتبار أن هناك ظروفاً خاصة تستوجب كل الحذر والإجراءات الجدية لمواجهة الأمراض .
والأمر كذلك حينما هاجرتم بأولادكم إلى المجتمعات الغربية ، أصبحتم مسؤولين أكثر من أي وقت مضى تجاههم ، ولابد لكم من وضع إجراءات بالغة الجدية والوعي لمقاومة ما قد يتعرضون له من فساد وإفساد . والمرأة هنا هي المسؤولة الأولى قبل الرجل ، تبعاً لنوع علاقتها بالطفل . . هذه العلاقة التي لا شك أنها تبدأ منذ فترة الحمل والولادة ، حتى يشب الطفل ويترعرع ويقوى ويصير رجلاً بالغاً مسؤولاً عن نفسه .
وهذه المسؤولية تعني بالدرجة الأولى أهمية إيجاد جو إيماني مشبع بالثقافة الإسلامية في أجواء البيت ، والسعي نحو صياغة شخصية الطفل شخصية تؤهله لأن يكون لساناً صادق التعبير عن ثقافته ومعتقده الديني الأصيل .
أما الأم التي يمتلئ بيتها بالغناء والرقص والغيبة والكلام الفارغ ، أو التي لا تولي أهمية لتربية الأولاد بوعي بقدر اهتمامها بالطبخ والغسيل ، فتلك أمٌ لا يحق لها توقع تخرج جيل ذي دين وأصالة وشخصية ، بل هي ستحاسب حساباً عسيراً تجاه ما فرطته في أمر أولادها .
إن الوالدين مطالبان بتربية أولاد قادرين على تحمل رسالة الإسلام ، وأن يجعلوا تطلعهم إلى إيجاد مجتمع إسلامي ، وهذا التطلع ليس بمعجزٍ الله عز وجل ، لا سيما إذا أدركنا أن الغرب يفتقر بشكل يكاد يكون مطلقاً إلى القيم والمعتقدات التي تملأ عليه فراغه الروحي الكبير ، رغم امتلاكه وإبداعه لوسائل الحياة عبر التكنولوجيا والتقنية العلمية .
المسلمون مدعون إلى تحقيق أهداف دينهم ، وليس الانغماس في مستنقع الجاهلية ، وأمامهم الفرصة الكبرى في إجراء مقايضة رابحة للغاية عبر الاستفادة من وسائل التكنولوجيا الغربية من جهة ، ونشر القيم والمبادئ الإسلامية من جهة ثانية .

الوصية الخامسة

أن الحاج إذا رجع إلى أهله لابد وأن تكون آثار الحج عليه وعلى تصرفاته وعلى طبيعة تفكيره وكيفية التزامه ، وهذا يعني لزوم أن تصاحبه روح الحج بين عائلته وأصدقائه وزملائه ، وألاّ يقطع الصلة مع الحج بمجرد مغادرته الأرض المقدسة 3 .

  • 1. بحار الأنوار : 71 / 188 .
  • 2. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 87، الصفحة: 218.
  • 3. في رحاب بيت الله : الفصل الثالث ، للسيد محمد تقي المدرسي .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى