منوعات

السير نحو كربلاء

وداع الحسين مدينة جده (ص)

لم يغادر الحسين (عليه السلام) المدينة المنورة حتى زار قبر جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زيارة المودع الذي لا يعود، فقد كان يعلم أن لا لقاء له مع مدينة جدّه ولن يزور قبره بعد اليوم، وان اللقاء سيكون في مستقر رحمة الله، وأنّه لن يلقى جدّه إلا وهو يحمل وسام الشهادة، وشكوى الفاجعة، وقف (عليه السلام) إلى جوار القبر الشريف فصلّى ركعتين ثم وقف بين يدي جدّه العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يناجي ربّه:

“اللهم هذا قبر نبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إنّي أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك ياذا الجلال والاكرام بحقِّ القبر ومَن فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى”.

لماذا اتجه الامام الحسين (ع) إلى مكة:

حلّ الإمام الحسين (ع) في مهبط الوحي، ومدينة السلام مكة المكرمة، فنزل في دار عمّه العباس بن عبد المطلب، واستقر فيها ليمارس مهامّه السياسية من خلال الحصانة الشرعية لبيت الله الحرام.

وكان دخوله (ع) مكة مثيراً للدهشة، فقد استقبله المكيّون والمعتمرون من الوافدين على بيت الله الحرام، وتوافدوا عليه فرحين مرحّبين، وقد سرى نبأ قدومه إلى مكة، وانتشر خبر خروجه من المدينة ورفضه لبيعة يزيد، وبدأت الوفود والرسائل تقدم عليه من أرجاء شتى، وراحت تعقد الندوات السياسية، وتشرح فيها الأوضاع، وتلقي الخطب، فقد كان اختيار الإمام الحسين (ع) لمكة المكرمة، وانتقاله من المدينة يستهدف:

1- إلفات نظر الرأي العام وايقاظه وتحريكه ومراقبته واختياره ورصده عن كثب.

2- البدء في التعبئة والإعداد وشرح أبعاد القضية السياسية على ضوء مبادىء الحكم والسياسة والإدارة في الاسلام.

3- التخطيط لقيادة الجماهير، وتحديد منطلق المواجهة من حيث المكان والزمان والحدث.

4- البدء بالمواجهة، واعلان اسقاط حكومة يزيد، واقامة الدولة الراشدة تحت قيادته (ع).

ثم طاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ من شعره، وأحلّ احرامه وجعلها عمرة. (5)

وفي تاريخ الطبري أيضاً، خرج الامام الحسين من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة، فاعترضه رسل الوالي من قبل يزيد، عمرو بن سعيد، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً… (6)

سار الحسين (ع) حتى انتهى الى الصفاح (7) ولمّا بلغ الحاجر أرسل الى أهل الكوفة بكتاب يخبرهم أنه خرج من مكّة يوم التروية متّجهاً اليهم. (8)

ــــــــــــــــ

1- المصدرالسابق، ص 206.

2- راجع الارشاد للمفيد ص 213،

3- الطبري في تاريخ الامم والملوك ج 4 ص 278.

4- المصدر السابق،

5- ابن الاثير، ج 4، ص 16،

6- طبقات ابن سعد، ج 278،

7- تاريخ ابن عساكر، ج 664،

8- ابن كثير 8 / 166.

الانعطاف الخطير في الكوفة:

استمرّ تيار الانفعال الجماهيري يتدفق نحو مسلم حتى تحول إلى تيار شعبي مرعب ينذر السلطة المركزية بالخطر، ولم تكن مثل هذه الأنباء خافية على يزيد وعلى واليه آنذاك النعمان بن بشير قبل قدوم ابن زياد وامرته على الكوفة بأمر من يزيد. وقد حاول النعمان معالجة الموقف بالوسائل السلمية والحدّ من تدفق التيّار، إلا أنه عجز عن ذلك، ولم ترق سياسته السلمية لعملاء السلطة وعيونها، فكتب أحد خلفاء بني أمية (عبدالله بن مسلم) إلى يزيد تقريراً صوّر له الاحداث وخطورة الموقف، وأشار عليه بخلع النعمان بن بشير، بعد أن وصفه بالضعف والتهاون، وطالبه بارسال عنصر أرهابي، يمكنه أن يخضع الناس بالقوة ويسحق ارادتها. ثم كتب عملاء آخرون بمثل هذا التقرير الى يزيد، كعمارة بن عقبة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص (1). وقد انطلقت الرسل من الكوفة الى كل من الحسين (ع) ويزيد، وكلّ يستحّث قيادته وصاحبه ويسأله المبادرة، ويناشده احتواء الموقف.

وبعد أن تسلّم يزيد الرسالة وراح يناقش الأمر ويبحث عن أكثر الناس قسوة، وقدرة على التوغل في الارهاب والجريمة وأشدّهم حباً للسلطة والحصول عليها بأيِّ ثمن، لم يجد بعد المشاورة وتفحّص قدرات جلاوزته أفضل من عبيد الله بن زياد الذي كان وقتها والياً على البصرة، بعد الاعتماد على تشخيص مولى معاوية سرجون النصراني، الذي قال له: إنَّ معاوية قد كتب عهداً في حياته، يعيّن فيه عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة، وإنه يحتفظ بهذا الكتاب الذي لمّا يُنَفَّذ بعد. واستجاب يزيد على الفور لاقتراح مستشاره سرجون، فعيّن عبيد الله بن زياد وأصدر أوامره له باستعمال العنف والارهاب وعدم التواني في سفك الدماء. (2)

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فبادر في اليوم الثاني وتحرك نحو الكوفة… وراح يخترق الكوفة – بعد أن أخفى معالم شخصيته وتلثّم ولبس عمامة سوداء – والناس ترحب به وتسلّم عليه وتردد! عليك السلام ياابن بنت رسول الله، وهم يظنون أنَّه الحسين (ع).

وهكذا سار باتجاه القصر والناس ملتفّة حوله، ظنّاً منها أنه الحسين (ع)… ثم دخل القصر وأغلق بابه وبات ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب رهيب، واذا به يفاجيء الجميع ويدعو إلى الصلاة جامعة فقام خطيباً في الجموع المحتشدة، وراح يمنّي المطيع والضالع في ركب السياسة القائمة بالأماني العراض ويهدد ويتوعد المعارضة والرافضين لحكومة يزيد، حتى قال: سوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي. (3)

ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسس ورفع المعلومات والتعريف بالمعارضين، وهدد من لم يساهم في هذه العملية وينفذ هذا القرار، بالعقوبة وقطع العطاء. وبدأت الأحداث تتخذ مجرىً آخر، ولاحت بوادر النكوص والانعطاف، والاحباط تظهر على جماهير الكوفة وبعض قياداتها. وراحت السلطة تقوّي مركزها وتمسك بالعصا الغليظة وبوسائل القوة وغيرها. وبدأ موقع مسلم بن عقيل مندوب الحسين (ع) وممثله يضعف ويهتزّ فاضطرّته الأوضاع الجديدة إلى أن يغيّر أسلوب عمله وموقعه، فانتقل من دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي، إلى دارالزعيم الكوفي الموالي لأهل البيت هانى بن عروة، واستقر فيها متخفياً بعيداً عن أعين السلطات والملاحقة، حتى استطاعت عناصر الاستخبارات أن تكشف المكان الذي يختبىء فيه مسلم بن عقيل، فاستدعى هانى بن عروة باسلوب مبطّن وغير مثير، فقد بعث إليه ابن زياد يدعوه لزيارته وازالة الجفوة بينهما، وما إن دخل هانى قصر الامارة حتى وجد نفسه أمام محكمة وتهم توجه إليه، وجواسيس يشهدون عليه، أنه يوالي الامام الحسين (ع) ويعبّىء المقاومة ويشترك في تنظيم صفوفها المسلّحة ويجمع المال والسلاح والأنصار. ويتستر على مسلم بن عقيل ويخبّئه في داره… وأخيراً أصددر أمراً بسجنه وحبسه في إحدى غرف القصر، ووضعه تحت حراسة مشددّة، ولما تسرّب الخبر إلى القصر، تحركت مذحج (عشيرة هانى) وأخذت تطوّق القصر، فاستعمل ابن زياد أسلوب المخادعة والمراوغة معهم، فطلب من شريح القاضي أن يخرج إليهم ويهّون عليهم الموقف ويخبرهم بسلامة هانى وحسن معاملته، فتفرق الجمع، وانفضّت المقاومة.

وقد أصبحت الكوفة حينها في مرحلة صراع دموي رهيب، بعد أن راحت الأراجيف تنشر في كل مكان: أن جيشاً كثيفاً على وشك القدوم من الشام لاسناد موقع السلطة، واستئصال المعارضة، ومطاردة مسلم وأتباعه، فدبّ الخور والضعف في صفوف الثوار واستولى على الرأي العام. وكان مسلم يتابع الأحداث ويراقبها، وقد اتخذ قراراً بالزحف على قصر الامارة والاستيلاء عليه، والقضاء على حكومة عبيدالله ابن زياد، فجمع رجاله وأنصاره الذين كانوا قد بايعوه وانضمّوا إلى حركته، وأطلق شعاره: يا منصور أمت، وهاجم قصر الامارة، وكانت قواته في بداية الأمر تفوق قوات ابن زياد كثيراً وراح ابن زياد يسّرب الاشخاص، ويدسّهم في أوساط الناس يخذّلونهم.

وما أن نشر الظلام أجنحته، وغشي الكوفة ليل واجم مترقّب، حتى لم يبق مع مسلم ابن عقيل إلا عشرة رجال دخلوا معه المسجد، بعد أن كانوا في بداية الانطلاق يقدرون بأربعة الآف مقاتل. أتم مسلم صلاة المغرب، فالتفت إلى ما حوله، فلم يجد أحداً يدلّه على الطريق، أو يؤويه في ذلك البلد الغريب، وهكذا بقي وحيداً في مسجد الكوفة لا يعرف طريقه. فقد كان انكساراً مروّعاً وموقفاً حرجاً واجهه مسلم ابن عقبل، واجهه بعزيمة لا تلين وارادة لا تقهر، فراح يسير في شوارع الكوفة، علّه يهتدي إلى حلٍّ أويعرف الطريق للخروج من الكوفة، قبل أن يُلقى عليه القبض. وليبلغ الحسين (ع) الذي مازال يغذّ السير، ويحثّ المسير متوجهاً نحو الكوفة ليتدارك الموقف، ويحول دون وقوع إمامه في حبائل الغدر. أما ابن زياد فقد بدأ في هذه الساعات الرهيبة التحرك المضادّ، وعرف بمصير المقاومة الذي آل أمرها إلى الفشل، فنادى مؤذّنه: أن برئت الذمّة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلّى العتمة الا في المسجد.

ثم راح يوجه خطابه إلى أهل الكوفة، يهدد ويتوعد، وينذر، وقد تعرّض لمسلم بن عقيل أشدّ تعرّض. وأمر باغلاق جميع سكك الكوفة وتفتيش بيوتها بيتاً بيتاً بحثاً عن مسلم بن عقيل وشاءت الاقدار أن يطّلع ابن لامرأة كوفية من محبي آل البيت – اسمها طوعة – يطّلع على مخبأ مسلم، ويكتشف أمره ثم سارع إلى ابن زياد تحت وطأة الخوف والطمع في الجائزة المرصودة لهذا الأمر، فأبلغ الخبر صباحاً،…وجاءت قوات قوامها سبعون رجلاً تطوّق الدار، وتبحث عن مسلم. استعملوا طرق عدّة لاخراج مسلم فلم يفلحوا، فراحوا يلقون عليه من السطوح النيران والحجارة، فاضطرّوه إلى ترك الدار والخروج إلى الطريق العام دون أن يلقي سلاحه، حتى أثخنته الجراح وكثر النزف فيه، فنادوا: لك الامان لا تقتل نفسك، فقبل مسلم نداءهم وسار معهم، وقد حمل على بغلة إلى دار الامارة، ثم بدت بوادر الخيانة ونقض العهد في الطريق، فقد جرّدوه من سيفه، وأتي به إلى القصر فدخل على ابن زياد، ولم يُحَيِّه بتحية الامارة، ثم وقف أمام ابن زياد كالطود الشامخ لا يهزّه هول المحنة.

ـــــــــــــــــــــــ

1- المصدر السابق.

2- كما في مروج الذهب للمسعودي ج 3، ص 54.

3- الارشاد للمفيد ص 205.

وصول خبر قتل مسلم وهاني بن عروة

لمّا وصل ركب الامام الحسين (ع) الى الثعلبيّة (1)، أخبره أسديّان عن صاحبهما أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم بن عقيل وهانى بن عروة، ورآهما يُجرّان في الاسواق بأرجلهما، فقال الامام (ع): إنا لله وانا إليه راجعون رحمة الله عليهما.

وفي تاريخ الاسلام للذهبي: أرسل ابن سعد رجلاً على ناقة إلى الحسين يخبره بقتل مسلم بن عقيل.

وفي الاخبار الطوال: لمّا وافى (زبالة) وافاه بها رسول محمد بن الاشعث وعمر بن سعد بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره وخذلان أهل الكوفة ايّاه بعد أن بايعوه… الخ. (2)

وقال الطبري وغيره: كان الحسين لا يمرّ بأهل ماء إلاّ اتّبعوه حتى انتهى إلى زبالة وفيها جاءه خبر قتل ابن زياد لعبدالله بن يقطر. وكان قد سرّحه إلى أهل الكوفة. فأخرج الحسين (ع)، كتاباً فقرأه عليهم:

(بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فانه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانى ابن عروة وعبدالله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام، فتفرّق الناس عنه يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة… قال الراوي: فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثم سار حتى نزل ببطن العقبة.

ـــــــــــــــــــ

1- الثعلبية: من منازل طريق الحاج من العراق، مثير الاحزان، ص 33، واللهوف، ص 27، وتاريخ الطبري، ج 2، ص 225، وابن الاثير، ج 4، ص 17، والدينوري، ص 247، وابن كثير، ج 8، ص 168.

2- الدينوري في الاخبار الطوال، ص 248، وتاريخ الاسلام للذهبي، ج 2، ص 270 و 344، وزبالة منزل مشهور كان به حصن وجامع لبني أسد.

الامام الحسين (ع) يدعو أشراف البصرة لنصرته

كتب الامام الحسين عليه السلام إلى جماعة من أشراف البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنى أبا رزين (1) يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشلي.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلما حضروا قال: يا بني تميم كيف ترون موضعي منكم وحسبي فيكم؟

فقالوا: بخٍّ بخٍّ، أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر، حللت في الشرف وسطاً، وتقدمت فيه فرطاً.

قال: فإني قد جمعتكم لأمرٍ أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.

فقالوا: والله إنما نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي، فقل نسمع.

فقال: إن معاوية قد مات، فأهون به والله هالكاً ومفقوداً، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً وظن أنه قد أحكمه، وهيهات والذي أراد، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنه يزيد ـ شارب الخمور ورأس الفجور ـ يدعي الخلافة على المسلمين ويتأمر عليهم بغير رضىً منهم، مع قصر حلمٍ وقلة علمٍ، لا يعرف من الحق موطئ قدمه، فأقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين.

وهذا الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يوصف وعلمٌ لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر، لسابقته وسنه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعية وإمام قوم، وجبت لله به الحجة وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحق ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر ابن قيس (2) قد انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ونصرته، والله لا يقصر أحدٌ عن نصرته إلا أورثه الله الذل في ولده والقلة في عشيرته. وها أنا قد لبست للحرب لامتها وأدرعت لها بدرعها، من لم يقتل يمت ومن يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم الله رد الجواب. فتكلمت بنو حنظلة، فقالوا: يا أبا خالد نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إن رميت بنا أصبت، وإن غزوت بنا فتحت، لا تخوض والله غمرةً إلا خضناها، ولا تلقى والله شدة إلا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا، فانهض لما شئت. وتكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إن غضبت ولانقطن إن ضعنت، والأمر إليك، فادعنا نجبك ومرنا نطعك، والأمر إليك إذا شئت. وتكلمت بنو سعد بن زيد، فقالوا: يا أبا خالد إن أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزنا فينا، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتك برأينا. فقال: والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا يرفع الله عنكم السيف أبداً، ولا يزال سيفكم فيكم. ثم كتب إلى الإمام الحسين عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد، فقد وصل إلي كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وأن الله لم يخل الأرض من عاملٍ عليها بخير ودليل على سبيل النجاة، وأنتم حجة الله على خلقه ووديعته في أرضه، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشد تتابعأً لك من الإبل الظماء يوم خمسها لورود الماء، وقد ذللت لك رقاب بني سعد وغسلت لك درن صدورها بماء سحابة مزن حتى استهل برقها فلمع.

فلما قرأ الإمام الحسين عليه السلام الكتاب قال: “آمنك الله يوم الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر”.

فلما تجهز يزيد بن مسعود للخروج إلى الإمام الحسين عليه السلام بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

____________

(1) كان مولى للامام الحسين (ع)، أرسله إلى أهل البصرة، وسلمه أحد مَنْ أُرسِل إليهم من زعماء البصرة إلى عبيدالله فقتله، وذكر بعض المؤرخين أنه استشهد مع الحسين عليه السلام، والظاهر أنه وقع خلط بين هذا وبين سليمان آخر استشهد مع الحسين عليه السلام.

تاريخ الطبري 5|357 ـ 358، مقتل الخوارزمي 1|199، بحار الأنوار 44|337 ـ 340، أنصار الحسين: 74، ضياء العينين: 39 ـ 40.

(2) يعرف بالأحنف لقب له لحنف كان في رجله، واختلفوا في اسمه، فقيل: صخر، وقيل: الضحاك، ولد في البصرة، وأدرك النبي ولم يره، اعتزل يوم الجمل، توفي في الكوفة.

الطبقات 7|66، جمهرة الأنساب: 206، تاريخ الاسلام 3|129، الأعلام 1|276 ـ 277.

الحسين (ع) في طريقه إلى العراق:

على اثر الرسائل الكثيرة التي أرسلها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) عندما كان في مكة المكرمة، إرتأى (عليه السلام) أن يرسل مندوباً عنه إلى الكوفة فوقع الاختيار على ابن عمه مسلم بن عقيل (عليه السلام)، لتوفر مستلزمات التمثيل والقيادة به، ومنذ وصوله إلى الكوفة، راح يجمع الأنصار، ويأخذ البيعة للإمام الحسين (عليه السلام) ويوضح أهداف الحركة الحسينية، ويشرح أهداف الثورة لزعماء الكوفة، ورجالاتها، فأعلنت ولاءَها للإمام الحسين (عليه السلام)، وعلى اثر تلك الأجواء المشحونة، كتب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليهما السلام) يحثه بالمسير والقدوم إلى الكوفة.

تسلّم الإمام الحسين رسالة مسلم بن عقيل (عليهما السلام)، وتقريره عن الأوضاع والظروف السياسية، واتجاه الرأي العام، فقرّر التوجه إلى العراق وذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) سنة (60 هـ).

وقد جاء في تاريخ الطبري:… أما الحسين فقد استعد بعد تسلّمه كتاب سفيره مسلم للتوجه الى العراق، ولمّا علم ابن الزبير بقصده قال له: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها… (1)

وفي نفس ذلك اليوم التقيا بين الحجر والباب، فقال له ابن الزبير: إن شئت أقمت فولّيت هذا الامر آزرناك وساعدناك، ونصحناك وبايعناك. فقال له الإمام الحسين (ع): (إن أبي حدثني أن بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحب أن أكون ذلك الكبش)، فقال له ابن الزبير، فاقم ان شئت وتولّيني أنا الامر فتطاع ولا تعصى، فقال: وما أريد هذا، ثم إنهما أخفيا كلامهما. (2) ثم قال الحسين (ع): (والله لإن أُقتل خارجاً منها – مكة – أحبّ إليّ من أن أقتل داخلاً منها بشبر، وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم، ووالله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت. (3)

ولما سرى نبأ جمع الإمام الحسين (عليه السلام) نسائه وأطفله وأبنائه واخوته وأبناء أخيه وأبناء عمومته، لشدّ الرحال والخروج من مكة المكرمة، تملك الخوف قلوب العديد من مخلصيه، والمشفقين عليه، فأخذوا يتشبثون به، ويستشفعون إليه، لعلَّه يعدل عن رأيه ويتراجع عن قراره؛ إلا أنَّ الإمام (عليه السلام) اعتذر عن مطالبته بالهدنة، ورفض كل مساعي القعود والاستسلام.

لقاء الامام الحسين (ع) الحرّ بن يزيد الرياحي:

سار الامام الحسين حتى نزل (شراف)، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا. وسار الحسين (ع) من شراف، فلما انتصف النهار – كبّر رجل من أصحابه، فقال له: ممّ كبّرت [؟ قال: رأيت النخل، فقال رجلان من بني أسد: ما بهذه الارض نخلة قطّ. فقال الإمام الحسين (ع):] فما هو [؟ فقالا: لا نراه الاّ هوادي الخيل، فقال:] وأنا أيضاً أراه ذلك [، وقال لهما:] أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد [؟ فقالا: بلى، هنا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فان سبقت إليه فهو كما تريد. فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وعدلوا اليهم فسبقهم الحسين (ع) إلى الجبل فنزل، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد الرياحي فوقفوا مقابل الحسين (ع) وأصحابه في حرّ الظهيرة، فقال الحسين (ع) لاصحابه وفتيانه: [اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفّوا الخيل ترشيفاً فسقوا القوم من الماء حتى أرووهم]!

قال الطبري: وكان مجيء الحرّ من القادسية، أرسله الحصّين بن نمير في هذه الالف… ولمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إني لم أؤمر بقتالك وانّي أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فاذا أبيت، فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى ابن زياد… فتياسر عن طريق العذيب والقادسية وبينه

وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً، ثم إن الإمام الحسين (ع) سار في أصحابه والحرّ يسايره. وخطب الإمام الحسين (ع) أصحابه وأصحاب الحرّ بالبيضة، وخطب بذي حسم: حتى انتهوا الى عذيب الهجانات، وكان بها هجائن النعمان تدعى هنالك، فاذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم… فلمّا انتهوا إلى الحسين (ع) أنشدوه هذه الابيات وكان دليلهم الطرمّاح بن عديّ على فرسه وهو يقول:

يا ناقتي لا تذعري من زجري – – – – – وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبان وخير سفر – – – – – حتى تحلي بكريم النجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر – – – – – أتى به الله لخير أمر

فقال الحسين (ع): أما والله اني لارجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا. والقول للطبري: عن عقبة بن سمعان قال: لمّا كان في آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء ثم أمرنا بالرحيل ففعلنا. قال: فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة ثم انتبه، وهو يقول: [انا الله وانا اليه راجعون، والحمدلله ربّ العالمين]. قال: ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً، قال: فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين على فرس له، فقال: [يا أبت جُعلت فداك ممّ حمدت الله واسترجعت]؟ قال: [يا بُنيّ انّي خفقت برأسي خفقة، فعنّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت الينا، قال له:] يا أبت، لا أراك الله سوءاً ألسنا على الحق [؟! قال:] بلى والذي إليه مرجع العباد [. قال:] اذن لانبالي، نموت محقّين [، فقال له:] جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده [. (1)

ــــــــــــــــــــــ

1- تاريخ الطبري، ج 6، ص 227، وابن الاثير، ج 4، ص 9-21، والاخبار الطوال، ص 248 253، وانساب الاشراف 169-176، والارشاد وللمفيد، ص 205-210، واعلام الورى، ص 229-231.

محاولات صرف الإمام الحسين (ع) عن السفر

حاول جمع من أهل بيت الامام الحسين (ع) وغيرهم صرفه عن السفر ودعوته للتريّث، حتى يستبين له حال الناس خوفاً من غدر الكوفيين وانقلاب الأمر عليه، ولكنَّ أبا الأحرار لم تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره لكل من قابله، لأنَّ الحقائق كما هي لا تفاض لأيِّ متطلّب بعد تفاوت المراتب واختلاف الأوعية، سعة وضيقاً، فكان (ع) يجيب كل واحد بما يسعه ظرفه ومعرفته، فمثلاً:

أتاه محمد بن الحنفية في الليلة التي سار الإمام الحسين (ع) في صبيحتها إلى العراق، وقال: عرفت غدر أهل الكوفة بأبيك وأخيك، وإنّي أخاف أن يكون حالك حال من مضى، فأقم هنا فإنّك أعزّ من في الحرم، وأمنعه، فقال الإمام الحسين (ع)، لأخاف أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي تُستباح به حرمة هذا البيت. فأشار عليه ابن الحنفية بالذهاب إلى اليمن أو بعض نواحي البر، فوعده أبو عبدالله في النظر في هذا الرأي. وفي سحر تلك الليلة ارتحل الإمام الحسين (ع) فأتاه ابن الحنفية، وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها، وقال: ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى، ولكن بعدما فارقتك أتاني رسول الله (ص) وقال: يا حسين أخرج فإنَّ الله تعالى شاء أن يراك قتيلاً، فاسترجع (محمد بن الحنفية) وحين لم يعرف الوجه في حمل العيال معه وهو على مثل هذا الحال، قال له الإمام الحسين (ع): قد شاء الله تعالى أن يراهنّ سبايا. (1) وكتب إليه عبدالله بن جعفر الطيّار مع ابنيه عون و محمد: أما بعد، فانّي أسألك الله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فانّي مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم أطفئ نور الأرض، فإنك علم المهتدين، وجار المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فانّي في أثر كتابي. والسلام. ثم أخذ عبدالله كتاباً من عامل يزيد على مكة عمرو بن سعيد بن العاص فيه أمان للحسين (ع) وجاء به إلى الإمام الحسين (ع)، ومعه يحيى بن سعيد ابن العاص، وجهد أن يصرف الإمام الحسين (ع) عن الوجه الذي أراده فلم يقبل أبو عبدالله (ع) وعرّفه أنه رأى رسول الله (ص) في المنام، وأمره بأمر لابدّ من انفاذه، فسأله عن الرؤيا، فقال: ما حدّثت بها أحداً وما أنا محدث بها حتى ألقى ربّي عزّ وجلّ. (2)

وقال له ابن عباس: يا ابن العم إني اتصبّر وما أصبر، وأتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم! أقم في هذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز وأهل العراق إن كانوا يريدونك كما زعموا، فلينفوا عاملهم وعدوّهم، ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن فإنَّ بها صوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك فيها شيعة وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل، وتبثّ دعاتك، فاني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.

فقال الإمام الحسين (ع) يا ابن العم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت على المسير. فقال ابن عباس: إن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك، فاني لخائف أن تقتل، وهم ينظرون إليك، فقال الإمام الحسين (ع): والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي،

فاذا فلعوا ذلك، سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من (فَرم)

1- البحار، ج 1، ص 184.

2- تاريخ الطبري، ج 6، ص 219، والكامل، ج 4، ص 17، والبداية والنهاية لابن كثير، ج 6، ص 163.

سفير الحسين (ع) مسلم بن عقيل إلى الكوفة:

إن الامام الحسين (ع) أرسل سفيره مسلم بن عقيل ليوطىء له الأكناف، ويهيىء، له الأجواء ويعدّ له مستلزمات القيادة الميدانية في الكوفة، ويصوّر له واقع الأحداث، ويعكسهاعليه بدقة وأمانة ليقرّر الموقف المناسب، ولم يكن اختيار مسلم بن عقيل لهذه المهمة الشاقّة اعتباطياً ومن دون حساب، بل كان لابد للامام الحسين (ع) أن يختار رجلاً قادراً على تمثيله، يتّسم بالحكمة والشجاعة والنصيحة لرسوله (ص) وللامام (ع)، والأمّة، والاخلاص للقضية والايمان بها، فوقع اختياره على ابن عمه مسلم بن عقيل، وراح (ع) يشرح الموقف لمسلم بن عقيل، ويوضح له ماورد في الرسائل التي وردته من أهل العراق، ويطّلعه على خفايا الأمور، ليكون قادراً على القيام بمهمة السفارة والتمثيل. ويتسلّح بالمعلومات والتوجيهات ما يمكّنه من تحمّل المسؤولية ومعالجة المواقف الطارئة.

وقد استجاب مسلم للمهمة الصعبة، واستمع الى نصائح الإمام الحسين (ع)، وكتب معه رسالة وجهها إلى أهل الكوفة، وقال: (سرّ إلى أهل الكوفة، فان كان حقاً ما كتبوا به عرّفني حتى ألحق بك).

انطلق مسلم بن عقيل متوجهاً من مكة إلى العراق في النصف من شهر رمضان المبارك سنة (60 هـ،) يصحبه دليلان يدلانه على الطريق، كان الوقت صيفاً، والمسار قائظاً، والشمس محرقة، ورمال الصحراء ترسي بشررها وظمئها الركب المتكتم الزاحف نحو الكوفة، فقد استغرقت الرحلة عشرين يوماً من مكة إلى الكوفة، وقد وصل الكوفة بعد مضيّ خمسة أيام من شهر شوال، بعد أن خرج في النصف من شهر رمضان، وقد مات الدليلان عطشاً من أهوال الطريق ومخاطره، بعد أن ضلَّ الركب الطريق. (1)… وسار مرغماً هو ومن معه من رجال. واستقر مسلم قرب الماء بمنطقة تدعى المضيق من بطن الخُبَيت (2). وفي الكوفة بدأ مسلم يجري اتصالاته: ويزاول نشاطه السياسي بهمة واخلاص، وراح يجمع القواعد الشعبية ويعبىء الناس، ويأخذ البيعة للحسين (ع) حتى تكامل لديه عدد ضخم من الجند والأعوان، وبلغ عدد من بايعه واستعد لنصرته ثمانية عشر الفاً. (3)

وقد أحسّ مسلم بصدق الدعوة وكثرة الأنصار، واطمئنأن إلى مستقبل التحرك وقدرة هذه القوة على مواجهة الأحداث، فبادر بالكتابة إلى الحسين (ع)، ونقل إليه صورة حيّة للأحداث، وقوّم له الموقف وسأله القدوم.

وفي هذه السنة عزل يزيد الوليد وولّى على الحرمين عمرو بن سعيد، وبلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الإمام الحسين (ع) وابن الزبير وابن عمر عن البيعة، فاجتمعوا وكتبوا إليه كتاباً واحداً: أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الامةفابتزّها أمرها وتآمر عليها بغير رضى منها… الخ وبعثوا بالكتاب مع رجلين فأغذّا السير حتى قدما على الامام الحسين (ع) لعشر مضين من شهر رمضان. ثم مكثوا يومين وسرّحوا إليه ثلاثة رجال معهم نحو من ثلاث وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة، ثم لبثوا يومين آخرين، وأرسلوا رسولين وكتبوا معهما… الى الحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أما بعد: فَحَيَّ هَلا فإن الناس ينتظرونك ولا رأي في غيرك، فالعجل العجل والسلام عليك. وكتب اليه رؤوس من رؤساء الكوفة كتاباً ورد فيه: فأقدم على جند لك مجنّدة والسلام عليك (4)، وفي رواية الطبري: كتب إليه أهل الكوفة: أنه معك مائة ألف. (5)

وهكذا تلاقت الرسل وتكدست الكتب عنده (ع) فأجابهم الامام: (إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين.أما بعد… قد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، وقاله جلّكم أنه ليس علينا امام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الامام إلا العالم بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقِّ، والحابس نفسه على ذات الله والسلام). وأرسل إليهم مسلم بن عقيل، فأقبل حتى دخل الكوفة، فاجتمع إليه الشيعة واستمعوا إلى كتاب الحسين (ع) وهم يبكون، وبايعه ثمانية عشر ألفاً. (6)

فكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين (ع): أما بعد فإنَّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الاقبال حين يأتيك كتابي، فإنَّ الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام. (7)

ـــــــــــــــــــــــــــ

1- المصدرالسابق

2- المصدر السابق وأنساب الاشراف للبلاذري ص 157-158.

3- الطبري ج 6، ص 221 ومثير الاحزان ص 16.

4- راجع الكامل لابن الاثير ج 4 ص 21، ومقتل الحسين للمقرّم ص 141 و 142.

5- مثير الاحزان لابن نما ص 36-37، واللهو ص 33.

6- نفس المصدر رقم (4).

7- راجع الارشاد ص 204، والكامل في التاريخ لابن الاثير ج 4، ص 21.

المقتل الرهيب لمسلم بن عقيل

ودار بينهما كلام غليظ، ومشادّة عنيفة، انتهت بقول ابن زياد: إنك مقتول، فأجاب مسلم: إذاً هبوني فرصة أوصي فيها وصيتي. رضخ ابن زياد لطلب مسلم، فوقع اختياره على عمر بن سعد لحفظ الوصية، وادائها لوجود قرابة وصلة رحم بينهما، فأوصاه بثلاث وصايا، فعاد عمر بن سعد إلى مجلسه وراح يفشي نصوص الوصية ويسخر بالوصايا.

ثم أمر ابن زياد شرطته أن يصعدوا بمسلم إلى أعلى القصر، وقال لبكر بن حمران الذي كان مسلم قد جرحه جروحاً بليغة: خذ السيف واضرب عنقه، ثم الق بجسده ورأسه من أعلى القصر فانهال سيف الغدر على عنقه، واحتز حقد هذا الطاغية أوداج رقبته، وحال حد السيف بين رأسه وجسده ورمى جسده من أعلى القصر. وكان استشهاد مسلم بن عقيل وهانى بن عروة في الكوفة يوم الاربعاء التاسع من ذي الحجة سنة 60 هـ، ولكل منهما الآن ضريح ومقام خالد يقصده الزائرون من كل حدب وصوب وتهفو إليه نفوس الأحرار.

وفي قتل مسلم وهاني يقول عبدالله بن الزبير الأسدي (150)، ويقال: إنه للفرزدق (1):

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هاني في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه * وآخر يهوى من جدار قتيل

أصابهما جور البغى فـــأصبحا * أحاديث من يسعى (2) بكل سبيل

ترى جسداً قد غير الموت لونه * ونضح دم قد سال كل مسيل

فتىً كان أحيى من فتاة حييةً * واقطع من ذي شفرتين صقيل

أيركب أسما الهماليج آمناً * وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف حواليه مراد وكلهم * على أهبة من سائل ومسول

فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم * فكونوا بغيا أرضيت بقليل

____________

(1) عبدالله بن الزبير بن الأعشى واسمه قيس بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين الأسدي.

أدب الطف 1|146.

(2) ع: ويقال إنها للفرزدق وقال بعضهم إنها لسليمان الحنفي.

والفرزدق هو: همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، أبو فراس، شاعر من النبلاء من أهل البصرة، عظيم الأثر في اللغة، كان شريفاً في قومه، وكان أبوه من الأجواد الأشراف، وكذلك جده، توفي في بادية البصرة سنة 110 هـ وقد قارب المائة من عمره.

خزانة الأدب 1|105 ـ 108، جمهرة أشعار العرب: 163، الأعلام 8|93. (152) ع: يسري.

المصدر: http://www.wybqalhosin.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى