التاريخ الإسلاميالجهاد و الشهادةسادة القافلةسيرة أهل البيت (ع)مقالاتمنوعات

وكأن لسان حاله مخاطبا… تعجلتم بالنار وانا املك مفاتيح الجنة

خرج الإمام الحسين عليه السلام في جوف الليل وهو يتوسط الاعداء خارج الخيام ليتفقد التلاع والعقبات، ويبقي وحيدا ليلقي بانظاره تارة نحو خيام النساء الذين سيصرن سبايا وهن بنات رسول الله  ” صلى الله عليه وآله ”  وتارة يشيح بنظرة طويلة إلى القوم الذين احتشدوا استعدادا لقتله وهو يذرف الدمع باكيا  لهؤلاء القوم الذين سيدخلون النار بقتله وسبي عياله .

فما أن حل يوم تاسوعاء من شهر محرم الحرام ، حتى ضيق جيش يزيد الخناق على الحسين ” عليه السلام ” وحوصر وأصحابه بكربلاء لتجتمع عليه خيل أهل الشام وينوخوا عليه ، فرحين بتوافرخيلهم وكثرتها ، استضعافا لأبي عبد الله الحسين ومعيته متيقنين بأن لا يمده أهل العراق بعون او يأتوه بناصرمنهم .

ففي عصر هذا اليوم أحاط جيش الكوفة بالإمام الحسين وأنصاره ومنعو عنهم الماء ، وسيطروا علي جميع الطرق المؤدية الى معسكره ، حيث تلقى ابن سعد أمراً من طاغيته ابن زياد ( لعنهما الله ) بأن يتأهبوا لمقاتلة الحسين ويصبحوا أكثر استعداد للهجوم علي الخيام ، فهجم بعض نفر من الجيش على الخيام فأرسل الحسين أخاه ابي الفضل مع ثلة من الأنصار لاستطلاع هدف هؤلاء المهاجمين .. ولما علم أنهم قادمون لمحاربته أو لأخذ البيعة منه ، استمهلهم تلك الليلة للعبادة والصلاة  وأوكلوا أمر الحرب إلى اليوم التالي لتكون فيه أبرز وأظهر مأساة عرفها تاريخ الانسانية على الإطلاق في سفك دماء آل بيت النبوة الاطهاروسبي نسائهم … فلَعَنَ الله أُمَّةً قَتَلَتْكَ ، ولَعَنَ الله أُمَّةً ظَلَمَتْكَ ، ولَعَنَ الله أُمَّةً سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَرَضِيَتْ بِه .

من المؤكد أن خصوصية الأسلوب في الفنون الإسلامية قد جاءت نتيجة لرسوخ العقيدة الدينية والأيمان المطلق بها ، ولأن الفن التشكيلي هو احد الاوعية الذي تنصب فيها جميع الأفكار والتخيلات والمعطيات الإبداعية فقد تحول وسيلة يطرح من خلالها صوراً تعبيرية عن ماهية هذه الأفكار وسجلا يؤرخ للكثير من الأحداث والمواقف ، وهذا ما عمد الى استخدامه الكثير من الفنانين التشكيليين في معالجتهم لمواضيع لوحاتهم الفنية ومضامينها الروحية المستمدة من وقائع تأريخية اسلامية خالدة ، كما هو الحال في قضية الامام الحسين وتمثلاتها في الفن ، حيث وثقت بصور واشكال مختلفة ولكنها لم تختلف برسالتها الانسانية ونقلها عبر الاجيال المتعاقبة .

اللوحة اعلاه جاء بها التشكيلي ” عبد الحميد قديريان ” مكملة لأخريات من جنسها في احدى معارضه الشخصية المعنونة بأسم  ” سماء كربلاء ” والتي عرض فيها الفنان واقعة الطف وثورة الحسين بلوحات متعاقبة الاحداث وصولا الى استشهاد الحسين عليه السلام في العاشر من محرم الحرام .

تم تنفيذ هذا المنجز الابداعي بتنظيم إنشائي مفتوح قدم فيه الفنان نصا جماليا ذي بنية تكوينية مؤسسة على ربط العلاقة ما بين الجميل والقبيح ، فقد حاول من خلاله أن يمثل مكان وزمان الحدث مستحضرا البنية الواقعية لليلة عاشوراء ، مما أستدعى الرسام لاستحضار البنية اللونية التي تختص بزمانيتها وجغرافيتها المكانية وتمثلاتها البيئية  ، فأقام تدرجا لونيا مابين الغامق والفاتح في فضاء اللوحة حتى نقطة التلاشي في خط الأفق المميز بلونه القرمزي ليظهر عمق الصحراء وسعتها ، وأختار قديريان بعناية أن يضع نقطة الارتكاز الرئيسية في المقدمة اليسرى للعمل الفني ” اليمنى بالنسبة للمشاهد المقابل لها ” والمتمثلة بشخص ابي عبد الله الحسين ” عليه السلام ” بزيه العربي وجعل منه عنصر شد يربط ما بين العناصر البصرية الأخرى المتمثلة بجيش ابن سعد الممتدعلى افق اللوحة ليكون محور العمل وفكرته الرئيسية .

أن ترسيخ دعائم الرسالة الإسلامية التي نتجت عن ثورة الحسين عليه السلام وانتشارها الواسع ممتزجة مع حضارات البلدان وثقافاتها الفنية المختلفة ، أوجد أعمالاً فنية عقائدية مزجت ما بين الرمزية والتعبيرية واخرى تشخيصية ، عبر من خلالها الفنان عن المفاهيم والمعتقدات حول هذه الأحداث بمأساتها ودروسها ،  والتي كانت تخلو من أية أشارة لمبدعيها كونها اكدت على ذوبان ذات الفنان في رحم العقيدة الاسلامية وقضية الحسين سلام الله عليه ، انطلاقا من واقعة ألطف التي لم يعرف التاريخ الإسلامي مثيلاً لها ، تحت ظل حكم يزيد بن معاوية ( لعنة الله عليه ) ، وحاجة الرسالة الإسلامية إلى من يضحي بنفسه وعياله من أجلها ليعلو صوت الله في الأرض من جديد فكان الأمام الحسين عليه السلام قرباناً لها، لتتحرك تلك العقيدة الدينية فارزة الحق والباطل .. ظالماً ومظلوماً ، ليلعب الفن والفنانين دوراً بارزاً في التعبير عنها مؤرخين لها ومستلهمين من وقائع مروياتها التاريخية الروحية الخالدة مايشكل بنية جمالية خاصة خاضعة لمضمونها الروحي العقائدي  ، ليزداد بذلك تعلق الناس بها واستمرار تداو ليتها لتكون كتابا مفتوحا يفسرويرسخ العقيدة لأتباع أهل بيت النبوة باعتبارهم الأمل في الوصول الى مرضاة الله والفوز بالجنة والرضوان .

أن الصيغة الأنسانية البحتة التي تمثلت في واقعة الطف من حيث كونها قامت بمشيئة الهية، بكل أسبابها ومقدماتها ونتائجها، شكلت دافعأً ومنطلقاً أساسياً لتمثلاتها في مختلف النشاط الأنساني على أمتداد رقعته الأرضية بأختلاف أماكنها وأستمرارية زمانها، وأن أي نشاط يعتمدها في بنائه لابد وأن يؤدي الى جمال وبنية جمالية لاتحد من حيث التأويل ، ذلك لأن أي مبدع حين يلجأ أليها فهو يخاطب ويستنهض فطرته التي فطرعليها ، وبالتالي فهو يتقرب الى الله سبحانه مستمدا منه العون في التغلب على ما يقوض أنسانيته ، فيكون الحل الأمثل أن يحتذي بمجريات الطف ويغلف بها مقاصد ذاته ، ليتحول نتاجه الى وثيقة أخلاقية انسانية تعكس مبادئ وقيم عليا ساعدت بشكل وآخر على نشر ما نادت به الرسالة المحمدية الخالدة … جعلنا الله واياكم من الفائزين بحب الحسين والسائرين على خطاه بحق محمد وآله .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى