منوعات

خصال الامام الحسين عليه السلام

الوراثة

يؤكد علماء علم الوراثة أن الأبناء والأحفاد يرثون كثيرا من صفات آبائهم وأجدادهم النفسية والجسمية.

و على ضوء هذه الظاهرة التي لا تشذُّ في عطائها يجزم بأنَّ سبط الرسول صلى الله عليه وآله ورث من جدِّه صفاته الخلقية والنفسية، ومكوناته الروحية التي امتاز بها على سائر النبيين، وقد حدّد كثير من الأخبار مدى ما ورثه هو وأخوه الامام الحسن (ع) من الصفات الجسمية من جدهما النبي (صلى الله عليه وآله) فقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ” من سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) ما بين عنقه وشعره فلينظر إلى الحسن، ومن سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) ما بين عنقه إلى كعبه خلقا ولونا فلينظر إلى الحسين ” (1) وقال آخر: ” كان له (اي للحسين عليه السلام) جمال عظيم، ونور يتلألأ في جبينه وخده، يضيء حواليه في الليلة الظلماء، وكان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) ” وكما ورث هذه الظاهرة من جده فقد ورث منه مثله وسائر نزعاته وصفاته.

الأسرة

على ضوء البحوث التربوية الحديثة عن الاسرة ومدى أهميتها في تكوين الطفل، وتقويم سلوكه يمكن الجزم بأن الامام الحسين (عليه السلام) كان وحيدا في خصائصه ومقوماته التي استمدها من اسرته فقد نشأ في أسرة تنتهي اليها كل مكرمة وفضيلة في الاسلام، فما أظلت قبة السماء أسرة أسمى ولا أزكى من أسرة آل الرسول (صلى الله عليهم أجمعين)..

نعم.. لقد نشأ الامام الحسين (عليه السلام) في ظل تلك الاسرة العظيمة التي ما عرف التاريخ الانساني لها نظيراً في إيمانها وهديها، فشاءت الإرادة الالهية أن تظهر فضائله و تكشف سجاياه و تبرز مكارمه ليكون حجة الله على عباده و أمين سره بين خلقه.

ونقتصر هنا على القليل من سجايا وخصال الامام أبي عبد الله الحسين عليه السلام:

التواضع

جُبل الإمام الحسين عليه السلام على التواضع ومجافاة الأنانية والكبرياء، حيث ورث هذه الظاهرة من جده الرسول صلّى الله عليه وآله الذي أقام أصول الفضائل ومعالي الأخلاق في الأرض.

وقد نقل الرواة بوادر كثيرة من سمو أخلاقه وتواضعه:

منها: إنه اجتاز على مساكين يأكلون في (الصُّفَّة) فدعوه إلى الغذاء فنزل عن راحلته، وتغذى معهم، ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، فلبوا كلامه وخفوا معه إلى منزله، فقال عليه السلام لزوجته الرباب: أخرجي ما كنت تدّخرين، فأخرجت ما عندها من نقود إياها فناولهم.

ومنها: إنه مرّ على فقراء يأكلون كسراً من أموال الصدقة، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم، وقال: لولا أنه صدقة لأكلت معكم ثم دعاهم إلى منزله، فأطعمهم، وكساهم، وأمر لهم بدراهم.

ولقد اقتدى عليه السلام في ذلك بجده الرسول صلّى الله عليه وآله وسار على هديه فقد كان ـ كما جاء في السيرة ـ يخالط الفقراء ويجالسهم، ويفيض عليهم ببره وإحسانه، حتى لا يتبيغ بالفقير فقره، ولا يبطر الغنيَّ ثراؤه.

ومنها: إنه جرت مشادة بينه وبين أخيه محمد بن الحنفية ذات يوم، فانصرف محمد إلى داره وكتب إليه رسالة جاء فيها: أما بعد: فإن لك شرفاً لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، أبونا علي لا أفضلك فيه ولا تفضلي، وأمي امرأة من بني حنيفة، وأمك فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله ولو كان ملء الأرض مثل أمي ما وفين بأمك، فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وسر إليّ، وترضيني، وإياك أن أكون سابقك إلى الفضل الذي أنت أولى به مني… ولما قرأ الحسين عليه السلام رسالة أخيه سارع إليه وأرضاه وكان ذلك من معالي أخلاقه وسمو ذاته.

الحلم

أما الحلم فهو من أسمى صفات أبي عبد الله الحسين عليه السلام ومن أبرز خصائصه، فقد كان ـ فيما أجمع عليه الرواة ـ لا يقابل مسيئاً بإساءته، ولا مذنباً بذنبه، وإنما كان يغدق عليهم ببره ومعروفه شأنه في ذلك شأن جده الرسول صلّى الله عليه وآله الذي وسع الناس جميعاً بأخلاقه وفضائله، وقد عرف بهذه الظاهرة وشاعت عنه، وقد استغلها بعض مواليه فكان يعمد إلى اقتراف الإساءة إليه لينعم بصلته وإحسانه.

يقول المؤرخون: إن بعض مواليه قد جنى عليه جناية توجب التأديب فأمر عليه السلام بتأديبه، فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي، إن الله تعالى يقول: (والكاظمين الغيظ)

فقابله الإمام ببسماته الفياضة وقال له:

خلوا عنه، فقد كظمت غيظي..

وسارع العبد قائلاً: (والعافين عن الناس).

قال: قد عفوت عنك..

وانبرى العبد يطلب المزيد من الإحسان قائلاً: (والله يحب المحسنين).

قال: أنت حرٌّ لوجه الله..

ثم أمر له بجائزة سنية تغنيه عن الحاجة ومسألة الناس.

لقد كان هذا الخلق العظيم من مقوماته التي لم تنفك عنه، وظلت ملازمة له طوال حياته.

الرأفة والعطف

ومن صفات أبي الأحرار (ع) أنه كان شديد الرأفة بالناس يمدُّ يده لكلِّ ذي حاجة، ويسعف كلَّ ذي لهفة، ويجير كلَّ من استجار به، وقد فزع مروان إليه والى أخيه وهو من ألدِّ أعدائهم، بعد فشل واقعة الجمل، وطلب منهما أن يشفعا له عند أبيهما، فخفا إليه وكلماه في شأنه وقالا له: (يبايعك يا أمير المؤمنين).

فقال عليه السلام: (أو لم يبايعني قبل قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته، إنها كفٌّ يهودية، لو بايعني بيده لغدر بسبابته، أما أن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة من ولده يوماً أحمر) ، وما زالا يلطفان به حتى عفا عنه، إلا أنَّ هذا الوغد قد تنكَّر لهذا المعروف وقابل السبطين بكل ما يملك من وسائل الشر والمكروه، فهو الذي منع جنازة الإمام الحسن عليه السلام أن تدفن بجوار جده، وهو الذي أشار على الوليد بقتل الإمام الحسين عليه السلام إن امتنع من البيعة ليزيد، كما أظهر السرور والفرح باستشهاد سيد الشهداء وحسب مروان أنه من تلك الشجرة التي لم تثمر إلا الخبيث الدنس وما يضر الناس.

ومن ألوان تلك الصور الخالدة لعطف الإمام عليه السلام ورأفته بالناس أنه لما استقبله الحر بجيشه البالغ ألف فارس، وكان قد أُرسِل لمناجزته وقتاله فرآه الإمام وقد أشرف على الهلاك من شدة العطش فلم تدعه أريحيته ولا سمو ذاته أن لا يقوم بإنقاذهم، فأمر عليه السلام غلمانه وأهل بيته أن يسقوا القوم عن آخرهم، ويسقوا خيولهم فسقوهم عن آخرهم، وكان فيهم علي بن الطعان المحاربي الذي اشتدَّ به العطش فلم يدرِ كيف يشرب فقام عليه السلام بنفسه

فسقاه، وكانت هذه البادرة من أروع ما سجل في قاموس الإنسانية من الشرف والنبل.

سخاؤه وكرمه

من مزايا الامام الحسين (عليه السلام) الكرم والسخاء، فقد كان ملاذا للفقراء والمحرومين، وملجأ لمن جارت عليه الايام، وكان يثلج قلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه كما يقول كمال الدين بن طلحة:

” قد اشتهر النقل عنه أنه كان يكرم الضيف، ويمنح الطالب، ويصل الرحم، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع، ويعطي الغارم ويشدُّ من الضعيف، ويشفق على اليتيم، ويغنى ذا الحاجة، وقلَّ أن وصله مال إلاّ فرّقه، وهذه سجية الجواد وشنشنة الكريم، وسمة ذي السماحة، وصفة من قد حوى مكارم الاخلاق، فأفعاله المتلوة شاهدة له بصنعه الكرم، ناطقة بأنه متصف بمحاسن الشيم… ” (2).

وعلى أي حال فقد نقل المؤرخون بوادر كثيرة من جود الامام (عليه السلام) وسخائه نلمع إلى بعضها:

منها: ما قاله المؤرخون من أنه عليه السلام كان يحمل في دجى الليل السهم الجراب، يملؤه طعاما ونقودا إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتى أثر ذلك في ظهره (3) ، وكان يحمل اليه المتاع الكثير فلا يقوم حتى يهب عامته، وقد عرف معاوية فيه هذه الظاهرة فأرسل اليه بهدايا والطاف كما أرسل إلى غيره من شخصيات يثرب وأخذ يحدث جلساءه بما يفعله كل واحد منهم بتلك الالطاف فقال في الحسين عليه السلام:

” أما الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفين فإنَّ بقي شئ نحر به الجزور وسقى به اللبن… “.

وبعث رقيبا يرى ما يفعله القوم فكان كما أخبر، فقال معاوية:

” أنا ابن هند، أنا أعلم بقريش من قريش ” (4).

ومنها: عيادته لاسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه، وانه عندما استقر به المجلس قال أسامة:

– واغماه.

فأجابه الامام عليه السلام:

– ما غمك؟.

– ديني وهو ستون الفا.

– هو علي.

– أخشى أن أموت قبل أن يقضى.

– لن تموت حتى أقضيها عنك.

وبادر الامام (عليه السلام) فقضاها عنه قبل موته (5)

ومنها: مارواه أنس قال: كنت عند الحسين (عليه السلام) فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيته بها، فقال لها: أنت حرة لوجه الله تعالى، فبهر أنس وانصرف يقول:

– جارية تجيئك بطاقة ريحان، فتعتقها؟!!

فقال عليه السلام:

– كذا أدبنا الله، قال تبارك وتعالى: ” واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها “، وكان أحسن منها عتقها (6) وبهذا السخاء والخلق الرفيع ملك قلوب المسلمين وهاموا بحبه وولائه.

ومنها: ما رواه المؤرخون من أن الامام الحسين (عليه السلام) كان جالسا في مسجد جده الرسول (صلى الله عليه وآله) وذلك بعد وفاة أخيه الحسن (عليه السلام) ، وكان عبد الله بن الزبير جالسا في ناحية منه كما كان عتبة بن أبي سفيان جالسا في ناحية أخرى منه، فجاء اعرابي على ناقة فعقلها ودخل المسجد فوقف على عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال له الاعرابي:

” اني قتلت ابن عم لي، وطولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئا؟ “.

فرفع عتبة اليه رأسه وقال لغلامه: ادفع اليه مائة درهم، فقال له الاعرابي:

” ما أريد إلا الدية تامة “.

فلم يُعنَ به عتبة، فانصرف الأعربي آيسا منه، فالتقى بابن الزبير فعرض عليه قصته، فأمر له بمائتي درهم فردها عليه، وأقبل نحو الامام الحسين (عليه السلام) فرفع إليه حاجته، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وقال له:

هذه لقضاء ديونك، وأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى وقال له: هذه تلم بها شعثك وتحسن بها حالك، وتنفق بها على عيالك، فاستولت على الاعرابي موجات من السرور واندفع يقول:

طربت وما هاج لي معبق***ولا لي مقام ولا معشق

ولكن طربت لآل الرسول***فلذَّ لي الشعر والمنطق

هم الاكرمون الانجبون***نجوم السماء بهم تشرق

سبقتَ الأنام إلى المكرمات***وأنت الجواد فلا تلحق

أبوكَ الذي ساد بالمكرمات***فقصر عن سبقه السُّبَّق

به فتح الله باب الرشاد*** وباب الفساد بكم مغلق (7)

ومنها: أن أعرابيا قصد الامام الحسين عليه السلام فسلم عليه وسأله حاجته، وقال: سمعت جدك يقول:

إذا سألتم حاجة فاسألوها من أربعة: أما عربي شريف، أو مولى كريم، أو حامل القرآن، أو صاحب وجه صبيح، فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إذا أردتم أن تنظروا إليَّ فانظروا إلى الحسن والحسين.

فقال له الحسين (عليه السلام) : ما حاجتك؟

فكتبها الاعرابي على الأرض.

فقال له الحسين (عليه السلام) : سمعت أبي عليا يقول: المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أجبت عن واحدة فلك ثلث ما عندي، وان أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندى وان أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي، وقد حملت الي صرة من العراق.

الأعرابي: سل ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فقال الامام الحسين عليه السلام: أي الاعمال أفضل؟

– الايمان بالله.

– ما نجاة العبد من الهلكة؟

– الثقة بالله.

– ما يزين المرء؟

علم معه حلم.

– فان أخطأه ذلك؟

– مال معه كرم.

– فان أخطأه ذلك؟

– فقر معه صبر.

– فان أخطأه ذلك؟

– صاعقة تنزل من السماء فتحرقه.

فضحك الامام ورمى إليه بالصرة (8).

ومنها: أن سائلا وفد على الحسين عليه السلام فقرع الباب وأنشأ يقول:

لم يخِبِ اليوم مَن رجاك ومَن*** حرَّكَ من خلف بابك الحَلَقَه

أنت ذو الجود أنت معدنه*** أبوك قد كان قاتل الفسقه

وكان الامام واقفا يصلي فخفف من صلاته، وخرج إلى الأعرابي فرأى عليه أثر الفاقة، فرجع ونادى بقنبر فلما مثل عنده قال له: ما تبقَّى من نفقتنا؟

قال: مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك.

فقال عليه السلام: هاتها فقد أتى من هو أحق بها منهم، فاخذها ودفعها إلى الأعرابي معتذرا منه وهو ينشد هذه الابيات:

خذها فاني اليك معتذر*** واعلم بأني عليك ذو شفقه

لو كان في سيرنا عصا تمد اذن***كانت سمانا عليك مندفقه

لكنَّ ريب المنون ذو نكد*** والكفُّ منا قليلة النفقه

فاخذها الأعرابي شاكرا وداعيا له بالخير، وانبرى مادحا له:

مطهرون نقيات جيوبهم***تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

وأنتم أنتم الأعلون عندكم***علم الكتاب وما جاءت به السور

من لم يكن علويا حين تنسبه***فما له في جميع الناس مفتخر

ومنها: ما ذكر في تحف العقول من أن رجلا من الأنصار جاء الامام الحسين عليه السلام يريد أن يسأله حاجة، فقال عليه السلام: يا أخا الأنصار صن وجهك عن بذلة المسألة و ارفع حاجتك في رقعة فإني آت فيها ما هو سارك إن شاء الله، فكتب: يا أبا عبد الله إنَّ لفلان علي خمسمائة دينار و قد ألح بي فكلمه أن ينظرني إلى ميسرة، فلما قرأ الحسين عليه السلام الرقعة دخل إلى منزله و أخرج صرة فيها ألف دينار و قال له: أما خمسمائة فاقض بها دينك و أما خمسمائة فاستعن بها على دهرك، و لا ترفع حاجتك إلا إلى ثلاثة إلى ذي دين أو مروءة أو حسب، فأما ذو الدين فيصون دينه، و أما ذو المروءة فإنه يستحيي لمروءته، و أما ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك فهو يصون وجهك أن يردك بغير قضاء حاجتك.

هذه بعض بوادر كرمه وسخائه وهي تكشف عن مدى تعاطفه وحنوه على الفقراء، وأنه لم يبغ أي مكسب سوى ابتغاء مرضاة الله والتماس الأجر في الدار الآخرة…

 فصاحته وبلاغته

تربّي الحسين عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو أفصح من نطق بالضاد، و أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان كلامه بعد كلام النبي صلى الله عليه وآله فهو فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق، و فاطمة الزهراء سلام الله عليها والتي تفرغ عن لسان أبيها صلى الله عليه وآله، فلا غرو إن كان أفصح الفصحاء و أبلغ البلغاء و هو الذي كان يخطب يوم عاشوراء و قد اشتد الخطب و عظم البلاء و ضاق الأمر و ترادفت الأهوال، فلم يزعزعه ذلك و لا اضطرب و لا تغير و خطب في جموع أهل الكوفة بجنان قوي و قلب ثابت و لسان طلق ينحدر منه الكلام كالسيل و هو الذي قال فيه عدوه و خصمه في ذلك اليوم: ويلكم كلموه فإنه ابن أبيه و الله لو وقف فيكم هكذا يوما جديدا لما انقطع و لما حصر.

مجلسه

كان مجلسه مجلس علم ووقار قد ازدان بأهل العلم من الصحابة، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة، ويسجلون ما يروون عنه من أحاديث جده (صلى الله عليه وآله) ويقول المؤرخون: إن الناس كانوا يجتمعون إليه ويحتفون به، وكأن على رؤوسهم الطير يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق (9).

وكان مجلسه في جامع جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) و كانت له حلقة خاصة به، و عندما سأل رجل من قريش معاوية أين يجد الحسين؟ قال له: ” اذا دخلت مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله ” (10).

ويقول العلائلي:

” كان مجلسه مهوى الافئدة، ومتراوح الاملاك يشعر الجالس بين يديه أنه ليس في حضرة انسان من عمل الدنيا، وصنيعة الدنيا، تمتد أسبابها برهبته وجلاله وروعته، بل في حضرة طفاح بالسكينة كأن الملائكة تروح فيها، وتغدو… ” (11).

لقد جذبت شخصية الامام عليه السلام، وسمو مكانته الروحية قلوب المسلمين ومشاعرهم فراحوا يتهافتون على مجلسه، ويستمعون لاحاديثه، وهم في منتهى الاجلال، والخضوع.

كثرة الصلاة والصيام والحج

كان عليه السلام أكثر أوقاته مشغولاً بالصلاة والصوم، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة كما حدَّث بذلك ولده زين العابدين عليه السلام، وكان يختم القرآن الكريم في شهر رمضان.

وتحدث ابن الزبير عن عبادة الإمام عليه السلام فقال: أما والله لقد قتلوه، طويلاً بالليل قيامه، كثيراً في النهار صومه.

كما إنه عليه السلام كان كثير الحج، وقد حج خمساً وعشرين حجة ماشياً على قدميه، وكانت نجائبه تقاد بين يديه وكان يمسك الركن الأسود ويناجي الله ويدعو قائلاً: (إلهي أنعمتني فلم تجدني شاكراً، وابتليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر، ولا أدمت الشدة بترك الصبر، إلهي ما يكون من الكريم إلا الكرم…).

وخرج عليه السلام معتمراً لبيت الله فمرض في الطريق فبلغ ذلك أباه أمير المؤمنين عليه السلام وكان في يثرب فخرج في طلبه فأدركه في (السقيا) وهو مريض فقال له: يا بني ما تشتكي؟ قال: أشتكي رأسي. فدعا أمير المؤمنين عليه السلام ببدنة فنحرها وحلق رأسه ورده إلى المدينة، فلما أبل من مرضه قفل راجعاً إلى مكة واعتمر، وهذا بعض ما أثر من طاعته وعبادته.

صراحته

من صفات أبي الأحرار عليه السلام الصراحة في القول، والصراحة في السلوك ففي جميع فترات حياته لم يوارب ولم يخادع، ولم يسلك طريقاً فيه أي التواء، وإنما سلك الطريق الواضح الذي يتجاوب مع ضميره الحي، وابتعد عن المنعطفات التي لا يقرها دينه وخلقه، وكان من ألوان ذلك السلوك النير أن الوليد حاكم يثرب دعاه في غلس الليل، وأحاطه علماً بهلاك معاوية، وطلب منه البيعة ليزيد مكتفياً بها في جنح الظلام، فامتنع عليه السلام وصارحه بالواقع قائلاً: (يا أمير إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله..). وكشفت هذه الكلمات عن مدى صراحته، وسمو ذاته، وقوة العارضة عنده في سبيل الحق.

ومن ألوان تلك الصراحة التي اعتادها وصارت من ذاتياته أنه لما خرج إلى العراق وافاه النبأ المؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل سفيره مسلم بن عقيل، وخذلان أهل الكوفة له، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق: (قد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه ذمام…) فتفرق عنه ذوو الأطماع، وبقي مع الصفوة من أهل بيته و أصحابه.

لقد تجنب عليه السلام في تلك الساعات الحرجة التي يتطلب فيها إلى الناصر الإغراء والخداع مؤمناً أن ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربها والمؤمنة بعدالة قضيتها.

ومن ألوان تلك الصراحة أنه عليه السلام جمع أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم، فأحاطهم علماً بأنه يقتل في غد، ويقتل جميع من كان معه صارحهم بذلك ليكونوا على بصيرة وبينة من أمرهم، وأمرهم بالتفرق في سواد ذلك الليل، فأبت تلك الأسرة العظيمة وذلك الرهط القليل مفارقته، وأصرت على الشهادة بين يديه.

تدول الدول، وتزول الممالك، وهذه الأخلاق الرفيعة أحق بالبقاء وأجدر بالخلود من كل كائن حي لأنها تمثل القيم العليا التي لا كرامة للإنسان بدونها.

قوة إرادته

من النزعات الذاتية لأبي الشهداء عليه السلام قوة الإرادة، وصلابة العزم والتصميم، وقد ورث هذه الظاهرة الكريمة من جده الرسول صلّى الله عليه وآله الذي غيّر مجرى التاريخ، وقلب مفاهيم الحياة، ووقف صامداً وحده أمام القوى الهائلة التي هبت لتمنعه من أن يقول كلمة الله، فلم يعن بها وراح يقول لعمه أبي طالب مؤمن قريش: (والله لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بيساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى أموت أو يظهره الله..).

بهذه الإرادة الجبارة قابل قوى الشرك، واستطاع أن يتغلب على مجريات الأحداث، وكذلك وقف سبطه العظيم في وجه الحكم الأموي فأعلن بلا تردد رفضه لبيعة يزيد، وانطلق مع قلة الناصر إلى ساحات الجهاد ليرفع كلمة الحق، ويدحض كلمة الباطل، وقد حشدت عليه الدولة الأموية جيوشها الهائلة، فلم يحفل بها، وأعلن عن عزمه وتصميمه بكلمته الخالدة قائلاً: (لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما..). وانطلق مع الأسرة الكريمة من أهل بيته وأصحابه إلى ميدان الشرف والمجد ليرفع راية الإسلام، ويحقق للامة الإسلامية أعظم الانتصارات والفتح حتى استشهد سلام الله عليه، وهو من أقوى الناس إرادة، وأمضاهم عزيمة وتصميماً، غير حافل بما عاناه من الكوارث التي تذهل العقول وتحير الألباب.

شجاعته

لم يشاهد الناس في جميع مراحل التاريخ أشجع، ولا أربط جأشا، ولا أقوى جنانا من الامام الحسين (عليه السلام) ، فقد انست شجاعته شجاعة الشجعان و بطولة الأبطال و فروسية الفرسان من مضى و من سيأتي إلى يوم القيامة.

وقف يوم الطف موقفا حير فيه الألباب، وأذهل فيه العقول، وأخذت الاجيال تتحدث باعجاب واكبار، عن بسالته، وصلابة عزمه.

فقد بهر أعداؤه بقوة بأسه، ولم ينهر أمام تلك النكبات المذهلة التي أخذت تتواكب عليه، وكان يزداد انطلاقا وبشرا كلما ازاداد الموقف بلاء ومحنة، فانه بعد ما فقد أصحابه وأهل بيته و زحف عليه الجيش بأسره وكان عدده – فيما يقول الرواة – ثلاثين الفا هزمهم وفرقهم، وقد قال بعض الرواة: و الله ما رأيت مكثورا قط، قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جاشا و لا أمضى جنانا و لا أجرأ مقدما منه، و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله، وإن كانت الرجّالة لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه و عن شماله انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذئب، و لقد كان يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر.

بقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات من كل جانب، ولم يوهن له ركن، وإنما مضى في أمره استبسالا واستخفافا بالمنية وكما يقول السيد حيدر:

ركين وللارض تحت الكماة*** رجيف يزلزل ثهلانها

أقر على الارض من ظهرها*** إذا ململ الرعب أقرانها

تزيد الطلاقة في وجهه***إذا غيّر الخوف ألوانها

ولما سقط أبيُّ الضيم على الأرض جريحا وقد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش بأسره من الاجهاز عليه رعبا وخوفا منه.

عفيرا متى عاينته الكماة*** يختطف الرعب الوانها

فما أجلت الحرب عن مثله***صريعا يجبن شجعانها

لقد تغذى أهل بيته وأصحابه بهذه الروح العظيمة فتسابقوا إلى الموت بشوق واخلاص و لم يختلج في قلوبهم رعب ولا خوف.

وقد وصف بعض الشعراء هذه البسالة النادرة بقوله:

فلو وقفت صم الجبال مكانهم***لمادت على سهل ودكت على وعر

فمن قائم يستعرض النبل وجه***ومن مقدم يرمي الاسنة بالصدر

وما أروع قول السيد حيدر:

دكوا رباها ثم قالوا: لها*** وقد جثوا نحن مكان الربا

لقد تحدى أبوالأحرار ببسالته النادرة الطبيعة البشرية فسخر بالموت وهزأ من الحياة، وقد قال لاصحابه حينما مطرت عليه سهام الاعداء:

” قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابدَّ منه، فإنَّ هذه السهام رسل القوم اليكم.

صلابته في الحق

أما الصلابة في الحق فهي من مقومات سيد الشهداء عليه السلام ومن أبرز ذاتياته فقد شق الطريق في صعوبة مذهلة لإقامة الحق، ودرك حصول الباطل، وتدمير خلايا الجور.

لقد تبنى الإمام عليه السلام الحق بجميع رِحابه ومفاهيمه، واندفع إلى ساحات النضال ليقيم الحق في ربوع الوطن الإسلامي، وينقذ الأمة من التيارات العنيفة التي خلقت في أجوائها قواعد للباطل، وخلايا للظلم، وأوكاراً للطغيان تركتها تتردى في مجاهل سحيقة من هذه الحياة.

رأى الإمام عليه السلام الأمة قد غمرتها الأباطيل والأضاليل، ولم يعد ماثلاً في حياتها أي مفهوم من مفاهيم الحق، فانبرى عليه السلام إلى ميادين التضحية والفداء ليرفع راية الحق.

وقد أعلن عليه السلام هذا الهدف المشرق في خطابه الذي ألقاه أمام أصحابه قائلاً: (ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله..).

لقد كان الحق من العناصر الوضائة في شخصية أبي الأحرار، وقد استشف النبي صلّى الله عليه وآله في هذه الظاهرة الكريمة فكان ـ فيما يقول المؤرخون ـ يرشف دوماً ثغره الكريم ذلك الثغر الذي قال كلمة الله وفجّر ينابيع العدل والحق في الأرض.

الوفاء بالعهد

لقد كان الامام الحسين (ع) مثالاً وقدوةً في الالتزام الاخلاقي والشرعي، وكان سلوكه السياسي ممارسة تطبيقية للفقه السياسي في الشريعة الاسلامية، لا يفصل بين السياسة والخلق الاسلامي النبيل، الذي كان يتجسّد في سلوكه وعبادته وكل حياته.

فالسلوك السياسي في نظر الشريعة المقدسة، يقوم على أسس عبادية وأخلاقية، لذا نرى أن الموالين لاهل البيت (ع) والذين عانوا من سلوك السلطة الاموية، وبطشها، وتعاملها الظالم، حينما تحركوا بعد استشهاد الامام الحسن (ع) عام (50 هـ) ، واتجهوا إلى الامام الحسين (ع) وبعثوا بالكتب والرسائل يطلبون منه (ع) خلع معاوية والبيعة له، رفض (ع) الاستجابة لهم، وردّ عليهم، أنه لا يوافقهم هذا الاتجاه والتحرك; لأن بينه وبين معاوية عهداً – العهد الذي وقّعه الامام الحسن (ع) مع معاوية – ولا يجوز نقضه. فقد روى الكلبي والمدائني، وغيرهما من أصحاب السير: لمّا مات الحسن (ع) تحركت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين (ع) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر، أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً، لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فاذا مات معاوية، نظر في ذلك.

إباء الضَّيم

هذه الصفة من الصفات البارزة لسيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) و من أعظم القابه ذيوعا وانتشارا بين الناس، فقد كان المثل الاعلى لهذه الظاهرة، فهو الذي رفع شعار الكرامة الانسانية ورسم طريق الشرف والعزة، فلم يخنع، ولم يخضع لبني أمية، وآثر الموت تحت ظلال الأسنّة، يقول عبد العزيز بن نباتة السعدي:

والحسين الذي رأى الموت في العـز حياة والعيش في الذل قتلا

ووصفه المؤرخ الشهير اليعقوبي بأنه كان شديد العزة (12) ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي:

” سيد أهل الاباء الذي علَّم الناس الحمية، والموت تحت ظلال السيوف اختيارا على الدنية أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، عرض عليه الأمان هو وأصحابه فأنف من الذل، وخاف ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله، فاختار الموت على ذلك. وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي يقول: كأن أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين:

وقد كان فوت الموت سهلا فرده * إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفس تعاف الضيم حتى كأنه * هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله * وقال لها: من دون أخصمك الحشر

تردى ثياب الموت حمرا فما بدا * لها الليل إلا وهي من سندس خضر (13)

لقد علم أبوالاحرار الناس نبل الاباء ونبل التضحية يقول فيه مصعب ابن الزبير: ” واختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة ” (14) ثم تمثل:

وإن الأُلى بالطف من آل هاشم * تآسوا فسنوا للكرام التأسيا

وقدكانت كلماته يوم الطف من أروع ما أثر من الكلام العربي في تصوير العزة والمنعة والاعتداد بالنفس يقول:

” ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلّة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام… “.

ووقف يوم الطف كالجبل الأشم غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة من جيوش الردة الأموية، وقد ألقى عليهم وعلى الاجيال أروع الدروس عن الكرامة وعزة النفس وشرف الاباء قائلا:

” والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد إني عذت بربي وربكم أن ترجمون… ” وألقت هذه الكلمات المشرقة الاضواء على مدى ما يحمله الامام العظيم من الكرامة التي التي لا حد لابعادها، والتي هي من أروع ما حفل به تاريخ الاسلام من صور البطولات الخالدة في جميع الآباد.

وتسابق شعراء أهل البيت (عليهم السلام) إلى تصوير هذ الظاهرة الكريمة، فكان ما نظموه في ذلك من أثمن ما دونته مصادر الادب العربي وقد عنى السيد حيدر الحلي إلى تصوير ذلك في كثير من روائعه الخالدة التي رثى بها جده الحسين (ع) يقول:

طمعت أن تسومه القوم ضيما *** وأبى الله والحسام الصنيع

كيف يلوي على الدنية جيدا *** لسوى الله ما لواه الخضوع

ولديه جأش أرد من الدرع *** لظمأى القنا وهن شروع

وبه يرجع الحفاظ لصدر *** ضاقت الأرض وهي فيه تضيع

فأبى أن يعيش إلاّ عزيزاً *** أو تجلى الكفاح وهو صريع (15)

ولم تصور منعة النفس وإباؤها بمثل هذا التصوير الرائع، فقد عرض السيد حيدر إلى ما صممت عليه الدولة الاموية من ارغام الامام الحسين (عليه السلام) على الذل والهوان، واخضاعه لجورهم واستبدادهم، ولكن يأبى له الله ذلك وتأبى له نفسه العظيمة التي ورثت عز النبوة أن يقر على الضيم، فانه سلام الله عليه لم يلو جيده خاضعا لاي أحد إلا لله، فكيف يخضع لمجرمي بني امية؟! وكيف يلويه سلطانهم عن عزمه الجبار الذي هو أرد من الدرع للقنا الضامئة، وما أروع قوله:

وبه يرجع الحفاظ لصدر *** ضاقت الارض وهي فيه تضيع

وهل هناك أبلغ أو أدق وصفا لإباء الامام الحسين (ع) وعزته من هذا الوصف، فقد أرجع جميع طاقات الحفاظ والذمام لصدر الامام (عليه السلام) التى ضاقت الارض من صلابة عزمه وتصميمه، بل إنها على سعتها تضيع فيه ومن الحق أنه قد حلّق في وصفه لإباء الامام، ويضاف لذلك جمال اللفظ فليس في هذا الشعر كلمة غريبة أو حرف ينبو على السمع.

وانظر إلى هذه الابيات من رائعته الأخرى التي يصف فيها إباء الحسين عليه السلام حيث يقول:

لقد مات لكن ميتة هاشمية *** لهم عرفت تحت القنا المتقصد

كريم أبى شم الدنية أنفه *** فأشممه شوك الوشيج المسدد

وقال: قفي يا نفس وقفه وارد *** حياض الردى لا وقفة المتردد

رأى أن ظهر الذل أخشن مركبا *** من الموت حيث الموت منه بمرصد

فآثر أن يسعى على جمرة الوغى *** برجل ولا يعطى المقادة عن يد (16)

لا يكاد يُعرف شعر أدق، ولا أعذب من هذا الشعر فهو يمثل أصدق تمثيل منعة الامام العظيم وعزة نفسه التي آثرت الموت تحت ظلال الأسنة على العيش الرغيد بذلٍّ وخنوع، ناهجا بذلك منهج الشهداء من أسرته الذين تسابقوا إلى ساحات النضال، واندفعوا بشوق إلى ميادين التضحية والفداء لينعموا بالكرامة والعزة.

ومضى السيد حيدر في تصويره لاباء الامام الشهيد فوصفه بأنه أبىٌّ شم الدنية والضيم، وعمد إلى شم الرماح والسيوف لأن بها طعم الإباء وطعم الشرف والمجد… وعلى هذا الغرار من الوصف الرائع يمضي السيد حيدر في تصويره لمنعة الامام عليه السلام، تلك المنعة التي ملكت مشاعره وعواطفه كما ملكت عواطف غيره، ومن المقطوع به أنه لم يكن متكلفا بذلك، ولا منتحلا وانما وصف الواقع وصفا صادقا لا تكلف فيه.

ويقول السيد حيدر الحلي: في رائعة أخرى يصف بها إباء الامام وسمو ذاته، ولعلها من أجمل ما رُثي به الامام (عليه السلام) يقول:

وسامته يركب احدى اثنتين *** وقد صرّت الحرب أسنانها

فإما يرى مذعنا أو تموت *** نفس أبى العز اذعانها

فقال لها: اعتصمي بالاباء *** فنفس الأبي وما زانها

إذا لم تجد غير لبس الهوان *** فبالموت تنزع جثمانها

رأى القتل صبرا شعار الكرام *** وفخرا يزين لها شأنها

فشمَّر للحرب في معرك *** به عرك الموت فرسانها

المصادر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المعجم الكبير للطبراني مخطوط بخط العلامة السيد عزيز الطباطبائي اليزدي.

(2) مطالب السؤول (ص 73).

(3) ريحانة الرسول (ص 71).

(4) عيون الاخبار 3 / 40.

(5) أعيان الشيعة 4 / 104.

(6) الفصول المهمة لابن الصباغ (ص 184).

(7) عقد الآل في مناقب الآل للبحراني. (*)

(8) فضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 268.

(9) الحقائق في الجوامع والفوارق (ص 105).

(10) تاريخ ابن عساكر 4 / 222.

(11) أشعة من حياة الحسين (93).

(12) تاريخ العقوبي 2 / 293. (*)

(13) شرح ابن أبي الحديد 1 / 302.

(14) تاريخ الطبري 6 / 273.

(15) ديوان السيد حيدر (ص 87).

(16) ديوان السيد حيدر (ص 71).

المصدر: http://www.wybqalhosin.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى