التاريخ الإسلاميالتعليمالفكر و التاريخمقالات

فقه المظاهرات …

قد لا نجد في التاريخ الإسلامي نظير ما نجده اليوم من صيغ التظاهر السلمي، لا على مستوى الشكل، ولا لجهة المطالب والحقوق التي ينادي بها المتظاهرون في مختلف بقاع العالم، فهذه الصيغ هي تعبيرات حديثة جاءت نتيجة حركة الأفكار ونمو الضمير النوعي لدى الإنسان الذي تمكّن عبر مخاضات وتحديات وتجارب طويلة الأمد من التدّخل لمقاومة الانحرافات وصنوف الاستغلال والتخلص من حياة الرق والعبودية التي تتعارض مع سلامة العلاقات الإنسانية ومستلزمات العيش الكريم. لا شك أنّ الذي حصل منذ ثلاثة عقود في إيران وما جرى في الأشهر الماضية في تونس ومصر والآن في ليبيا واليمن والبحرين يُسلّط الضوء أكثر على حراك الجماهير المسلمة في هذه المنطقة كقوّة رافضة لكل أنواع الفساد والانحراف والاستغلال. الباحثة عن الحرية المسؤولة التي تعمل على تعزيز موقعها ووجودها وحضورها الإنساني، والباحثة أيضاً عن القانون الذي يحميها من البربرية والرجعية ويضعها في مصاف الجماهير التي تعيش في أجواء المدنية الحديثة. والإسلام في هذا الجانب يعطي الجماعة البشرية ما تستحق من الوصف والاعتبار والدور على أساس تصور يقوم على تحرير الإنسان من القيود المفروضة عليه في طريق تحقيق تكامله الإنساني. صحيح أنّ الإسلام لم يبيّن كل الجزئيات ولم يُشخص كل المصاديق التي تولد وتُستحدث وتنمو بدورها بناء على سيرورة الزمان ومقتضاياته وتقدم الحياة بمختلف مجالاتها، ولكنّه بيّن الخطوط العامة والعريضة التي تكون فيها القيم محفوظةلصالح الفرد ومصالح البشرية، وتكفّل بتوفير كل القواعد والنظم والتشريعات الأساسية التي تصل بالإنسان إلى أهدافه المشروعة. وموضوعة (المظاهرات) هي من هذا النوع من المصاديق والجزئيات التي لم يلحظها الإسلام في إطار كلياته ولم يشملها بالتوضيح والشرح لأنها وليدة الزمن الحديث، وإنما لحظها في إطار الوسائل التي يكتشفها الإنسان لبلوغ الأهداف والغايات القيمية الكلية. إنّ الإسلام في الواقع، يتخذ إلى جانب المبادىء الثابتة التي تتحرك وتتجلى في كل زمان، وسائل متغيرة تستمد مشروعيتها من روح الإسلام وتوصل إلى نتيجة مفادها متمحضة في الأهداف التي توخى الشارع المقدس تحقيقها لدى الإنسان وفي البشرية على حد سواء.
وإنّ أول ما يمكن ملاحظته بعد هذه التحولات الكبيرة التي حصلت هذه الأيام سقوط نظرية عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم ولو كان فاسقاً فاجراً مستحلاً للدماء ولحرمات الله، والتي كان لها صداها في التاريخ وتم استجرارها بشكل تلفيقي ومتعسف في هذا العصر لشرعنة الظلم والاستبداد. والذي أثبته الشعب الإيراني المسلم والتونسي المسلم والمصري المسلم والليبي المسلم أنّ الإسلام لا يقرُّ بشرعية الظلم تحت ستار وجوب إطاعة أولي الأمر كما يبدو ظاهراً من تفسير البعض لنص الآية القرآنية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ … ﴾ 1، ولا يقبل بأي حال من الأحوال تسويغ حكم الحاكم وتبريره إذا كان ذلك ملازماً للظلم والإفساد. لا ريب أنّ من يوجب إطاعة أولي الأمر ويحرم الخروج عليهم وهم على ما هم عليه من السفور والفجور والتهتك والوحشية، إنما يخالف بذلك بديهيات الدين ومسلماته وواضحاته فيما يتعلق بوجوب محاربة أعداء الدين والإنسان. إنّه من غير المعقول على هؤلاء أن يبحثوا على مستوى القواعد الشرعية في أبواب الحدود والتعزيرات وما يرتبط بمجموعة القوانين الجزائية والعقوبات التي فرضها الله بحق الزناة والسراق والمجرمين والمعتدين الصغار على حقوق وأعراض الناس لإثبات شمولية الدين وسعته، فيما ينأون بأبحاثهم ومناقشاتهم وتفسيراتهم عن فراعنة الإجرام والسرقة والنهب، ويضييق عليهم أن ينبسوا ببنت شفة بكل ما يقترفه الحاكم بحق شعبه تحت ضغط الإكراه والعنف.أليس في ذلك مفارقة عجيبة تُظهر وكأنّ الله قد شرّع العقوبات على فئة دون فئة، وحمى الظالم الكبير وحصّنه بالقوانين التي تبيح له فعل كل شيء من دون مساءلة ومحاسبة فيما ترك من هم دونه عرضة للتوبيخ والعقاب والعذاب، وعليه فإنّ الحاكم الظالم وفق هذه النظريّة البائسة والباطلة يحظى بدعم الله ومشروعيّة حاكميّته المستندة إلى الظلم والتجبّر. فأي ظلم بحق الله يقع عندما ننسب ما يفعله هذا الحاكم من قذارات وبشاعات وانتهاكات وجور إليه تبارك وتعالى وهو الذي يصف نفسه بالعدل والخير والرحمة والهداية. إنّ هذه النظرية تتنافى مع الإسلام جملة وتفصيلاً ومع الحق والأصول العقلانية ومع الفطرة السليمة التي تأبى الظلم وتستقبح القتل والإضرار وامتهان كرامة الإنسان. وعلى هذا الأساس نرى أنّ الإسلام يوجه سلوك المسلم، بما أوجده الله فيه من قوة داخلية واستنارة وجدانية، إلى ابتكار الأساليب التي تقيه شر الظلم وترفع عنه القيود المصطنعة وتعيد له حريته وإنسانيته، وذلك بما يتناسب مع شروط ومجالات وأوضاع كل مرحلة من المراحل الزمنية وبما لا يتعارض مع نظام القيم في الإسلام. وفي هذا الزمان شكّلت الاحتجاجات الشعبيّة على التمييز الاجتماعي والحيف الاقتصادي والطغيان السياسي وسيلة من الوسائل المهمة والمؤثرة والناجعة في سياق التصدي للمنكر والفساد وقطع دابر الظالمين. وكما ورد في الأثر عن الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنّ “الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”. فإذا كان التظاهر من الأنشطة التي يتمخض عنها ضمان القيم الإلهية والإنسانية وصيانتها من مخاطر ما اصطلح القرآن على تسميتهم بأئمة الكفر فيجب ويلزم حينئذٍ استخدام هذه الوسيلة وإلا فإنّ مشروعيّة أي وسيلة يجب ملاحظتها من جهة ما تحققه من مصالح للإنسان وما تمنعه من مفاسد في هذا المجال. في الحقيقة إنّ الإسلام قد أولى موضوع إنكار الظلم ومدافعته ومجاهدة الظالمين والمنافقين اهتماما كبيراً سواء من خلال النصوص القرآنيّة أو ما تواتر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا أكتفي بنقل بعض النصوص القرآنيّة والحديثيّة لانسجامها مع مفهوم التظاهر. يقول تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ 2. ويقول في آية أخرى: ﴿ … فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 3. ويقول في نصٍ ثالث: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ 4. وفي الحديث.”أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” و “الساكت عن الحق شيطان أخرس”. و”إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه”. وورد أيضاً أنّه “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعزّ وأكثر ممن يعمله لم يغيروه إلا عمهم الله منه بعقاب”.

كل ذلك يؤكد على مسؤولية المسلم ودوره في حمل أمانة الله الذي أراد استخلافه وجعله إماماً بالحق والعدل، وواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصداع بما أمره الله من أوامر لتطهير المجتمع من براثن الفساد والجاهلية والتخلّف. ولا شك أنّ المستضعفين هم الأكثر إحساساً بالمظلومية والأكثر تعرضاً للاستغلال والتهميش والتصنيف والتمييز والأكثر توقدّاً من حيث المشاعر الثورية واستعداداً للتضحية والخروج إلى الشوارع لاستئصال كل ألوان الاستغلال والعبودية بحق الإنسان ولتجسيد الحق والعدل والكرامة الإنسانية بأجلى صورها. وعليه فإذا كان الحديث يشمل هذا الجانب الذي يشير إلى مشروعية التظاهر واقتناعنا لصلاحيته في التغيير السلمي الهادىء في بعض الروف والأوضاع ضد الطغاة والظالمين, فإننا أيضاً نحتاج إلى تأصيل هذه المشروعية فقهياً في مجالٍ تتحدد المعالم الأساسية لأي تحركٍ شعبي وجماهيري في ظل دولةٍ إسلامية مدنية يطالب الشعب فيها بحقوق اجتماعية أو سياسية محقّة ومشروعة5.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى