مقالات

الإلحاد وتوحيد الله…

في أعمق الأعماق من نفس الإنسان يوجد الدليل الأول على الله ، بل والدليل الأول على توحيده وتنزيهه والحافز الذاتي للإنسان على التوجه إليه .
في أعمق الأعماق من نفس هذا المخلوق المفكر ، حتى لو أطبق عينيه عن عجائب الكون ، وصرف فكره عن التأمل فيها والتدبر في قوانينها .

في فطرته حين يدع لها الحكم ويسند إليها الرأي .
في فقره الذاتي وهو يشير إلى غني مطلق يأمل منه الغنى ، و في نقصه الطبيعي وهو يتوجه إلى كامل أعلى يرجو منه الكمال ، وفي ضعفه الشديد وهو يتعلق بقوي غالب يستمد منه القوة ، وفي عجزه المتناهي وهو يلجأ إلى قادر قاهر يبتغي منه القدرة والنصرة . وبكلمة جامعة في قصوره الذاتي من كل ناحية وهو يتوجه إلى قوة عليا كاملة من كل ناحية ، متعالية عن الحدود ، مرتفعة عن الحاجة تفض الخير وتكفي السوء .
بلى وكل إنسان له ساعات لا يخادع فيها نفسه أو هو لا يستطيع أن يخادعها ، ساعات تتعرى له فيها الحقائق فيؤمن انه لا يملك شيئاً مما في يديه ، وان يك أغنى الأغنياء أو أقوى الأقوياء في مقاييس الناس .
وتستلفته نِعمٌ عظيمة تحوطه من شتى نواحيه ، ظاهرة وباطنة ، نِعمُ لا يحصيها عدداً ، ولا يملك لها وصفاً ، ولا يفي بها شكراً ، فيوقن بفطرته كذلك ان هذه الأيادي جمعاء صنيع تلك القوة العظمى التي لجأ إليها عند ضعفه وتعلق بها عند خوفه .
ويمتد بصره إلى ما يكتنفه من أحياء و أشياء فتقول له بداهته : هذه آثار لها مؤثر . وتقول له فطرته : موجد هذه المكونات هو تلك القدرة الغالبة التي لا ينتهي بها حد ، ولا يعجزها شيء . وهكذا يجد الإنسان دليل الربوبية ودليل التوحيد مطبوعين في ركائز شعوره ، فإذا ركن إلى العقل الواعي ليفصل له ما أجملته الفطرة وجده يقول : خالق الكون يجب أن يكون كاملاً ، لأنه يهب الكمال لخلقه ، وواهب الكمال لا يكون ناقصاً . وخالق الكون يجب أن يكون غير متناهي الحدود في كماله ، لأنه لو تناهى كماله لا فتقر إلى المزيد ، وهذا يعني انه مفتقر إلى العلة فلا يكون إلهاً .
والنتيجة اللازمة المحتومة لذلك أن إله الكون لن يكون الا واحداً ، لان الإلهين والإلهة الكثر لا محيد من أن يختص كل واحد منهم بحصة من الكمال لا تكون لشركائه ، فان هذا هو المعنى المفهوم للتعدد . وهذا يعني أن كل واحد منهم متناهي الحدود في كماله . فلا يكون إلهاً ولا خالقاً .
فإذا رجع إلى المنطق يتعرف حكمه في ذلك وجد البراهين النيرة متوفرة متضافرة عليه .
والعلم ؟ ماذا يؤمل منه أن يقول بعد أن لمس الوحدة الكونية في كل خطوة خطاها ، وفي كل ظاهرة أو خفية كشفها ؟ .
ماذا يؤمل من العلم أن يقول ؟ . لقد اعترف بوحدة الكون ، أفلا تكون هذه دليلاً على وحدة المكون؟ .
وهكذا تتأزر فطرة الإنسان الخاصة ، وفطرة الكون العامة ، وفطرة كل شيء من أشيائه وكل جزء من أجزائه على إثبات هذه الحقيقة وتجليتها للفكر الواعي ، حتى إذا جاء دور الدين ، دور وحي الله إلى أنبيائه المطهرين لم يبق له في مجال هذه العقيدة غير تبيين حدودها ورسم أبعادها ، وتوضيح لوازمها وآثارها . وغير هذا حفز الفطرة لتنتبه من سنة ، وتوجيه العقل ليعرف طرق البرهان .
ولا ادعي عصمة الإنسان في هذا المجال ، وان التوفيق حلفه فيه أنى سار وأنى توجه ، فكيف إذن ألحد من ألحد؟ وعلى م أشرك من أشرك؟ . ولكنني أقول : هذا هو الطريق الأحب الذي أعده التكوين لتجلية هذه العقيدة ، وهذا هو سبيلها المستقيم الذي اهتدى بإتباعه من اهتدى وضل عنه من ضل . وقد تحدثنا في أول الكتاب عن المؤثرات التي تنحرف بالفطرة ، والمعوقات التي تعترض الفكر .
وفي أعمق الأعماق من تاريخ الإنسان توجد آثار هذه الفطرة ، وتلمح ظلال هذه الفكرة ، آثار الفطرة السليمة التي أرشدت الإنسان إلى التوحيد ، والعقل المؤمن الذي أوضح له فكرة الإلوهية وان وجدت معها كذلك آثار الفطرة الملتوية . أو بالأحرى اثار الإنسان الذي التوى عن الفطرة ، وصدق عن هداها .
وهذه حقيقة لا يمتري فيها علماء التاريخ ولا علماء الآثار . فالتوحيد الخالص والشرك الصريح والإلحاد المرتاب وجدت جنبا إلى جنب في جميع عصور التاريخ ، وحالها في الأزمان الغابرة كما هي في الأزمان الحاضرة سواء بسواء . ومواقف دعاة التوحيد من المشركين والملحدين معروفة مشهورة في جميع الأدوار ، بل والحقيقة التي تثبتها الحجج القاطعة أن التوحيد سابق على الوثنية في النشأة .
وتتشهى فئة من الناس أن تحكم أهواءها في التاريخ لتحكم أهواءها في هذه العقيدة ، ثم في فكرة الدين !! .
لنقول : إن الله وهم أنتجه الخيال الأسطوري للإنسان ، وان الدين والنظم الأخلاقية وتعابير الشرف والاستقامة قيود صاغها السادة للعبيد!! .
تتشهى هذه الفئة أن تبتدع لعقيدة الإلوهية تأريخاً لا يعرفه التأريخ .
تقول : أن هذه العقيدة نشأت عند الإنسان القديم من فكرة بسيطة ، من طريق تشخيص القوى الطبيعية . ثم مرت مع الأزمان تنمو وتربو وتتحور وتتطور ، حتى بلغت الذروة في عقيدة التوحيد . ونشأت معها كذلك فكرة الدين ، وتطورت بتطورها ونضجت بنضوجها في الأديان التوحيدية . وإذن فالإله وهم اخترعه الخيال وعمل فيه التطور . والدين خرافة وضعها السادة ليقيدوا بها العبيد . وأقرأ إن شئت قول (فردريك انجلز) في كتابه لودفيج فيوربارخ :
[ ولم تكن الحاجة إلى العزاء الديني هي التي أدت إلى نشوء الوهم الممل عن الخلود الشخصي ، بل هي الحيرة القاسية التي نجمت عن الجهل العمومي المشترك بما ينبغي فعله مع هذه النفس ـ إذا ما قبلت فكرة بقائها حية ـ بعد موت الجسم وفنائه . وهكذا نشأت الآلهة الأولى ايضاً بطريق تشخيص القوى الطبيعية ، ثم اتخذت ـ خلال تطور الدين اللاحق ـ صورة تخرج أكثر فأكثر عن نطاق العالم الأرضي إلى أن ولدت هذه الالهة العديدة ، وهي ذات سلطة ضيقة على درجات متفاوتة ، وسلطة كل منها تحد من سلطة الآلهة الأخرى ـ خلال عملية طبيعة من التجريد ـ كدت أقول من التقطير ـ أقول ولدت في عقول الناس مفهوم الإله الواحد المتفرد الذي بشرت به الأديان التوحيدية ] 1 .
واقرأ أيضاً قول فؤاد أيوب في مقدمة هذا الكتاب : [ إن الله نتاج وجدان الإنسان الديني وخيالها الأسطوري ، أما العكس أي أن الوجدان الديني والأسطورة نتاج الوحي الإلهي فغير صحيح البتة . وان التاريخ ليثبت ذلك ، فالفكرة او الصورة اللتان صنعهما المؤمن عن الله قد تبدلتا خلال مراحل المدنية الانسانية ومع تبدل مستوى تطورها الأخلاقي ، هذا التطور الذي لا يزيد تانك الصورة او الفكرة عن أن يكون انعكاسا له أو إسقاطا . ذلك أن الإنسان يسمو بالصفات والقيم التي تدله المدنية على انها فضائل مرغوبة يستفيد النوع منها والتي لا ينجح هو الفرد الفاني الضيق الأفق في الحصول عليها أو تحقيقها بصورة كاملة ، يسمو إذن بتلك الصفات والقيم فيضيفها على فرد إلهي متسام . وهذا يعني أن الصفات الالهية نعوت إنسانية لا تخص الفرد بل تخص الجنس في المجموعه] 2 .
أقرأت؟
هذه هي دعواهم . . . . وهذه هي حجتهم . . .! ودليل الهراء لا يكون غير افتراء .
ويبدو أن نظرية التطور هي التي ساقتهم إلى هذا الغرض ثم إلى هذا الاستنتاج .
التطور قانون تخضع له كل الأشياء فلا بد أن تكون عقيدة الالوهية خاضعة له أيضاً .
وإذن ففكرة الإله قد خضعت للتطور . وإذن فقد نشأت في ذهن الإنسان القديم نشأة بسيطة وإذن فهي من مخترعات الإنسان ومبتدعاته ، وقد أنشاها وطورها وفقا لدوافعه . . . . والماركسيون يقولون بتطور الأشياء وتطور الآراء تطبيقا لمبدأ النقيض وللحركة الديالكتيكية . وقد تعرضنا من قبل لهذه الأوهام .
ويلاحظ أن انجلز في قوله المتقدم قد عجز أن ينشّىء الفكرة الإلهية نشأة اقتصادية وان يجعلها انعكاس للواقع الاقتصادي على ما يراه في كل فكرة ، وان يصورها فكرة بورجوازية كما يقول في غير هذا الوضع .

ثم ماذا؟

ثم لنفرض أن فكرة الإنسان عن الإلوهية بدأت كذلك بسيطة ثم تطورت ، فهل يدل هذا على أن الإله وهم ولا حقيقة له؟! وقد كانت للإنسان في القرون الأولى فكرة ما عن الشمس والقمر والنجوم وظواهر الكون ، ثم تبدلت الفكرة وتطورت حتى أخذت صورتها التجريبية في القرن العشرين ، فهل يدل هذا على أن الشمس والقمر والنجوم أوهام ليست لها حقائق؟!
ولماذا نذكر الشمس والنجوم وظواهر الكون فأكثر المفاهيم التي يتصورها الإنسان للأشياء تبدأ هكذا بسيطة ومخطئة ، ثم يمضي الإنسان مع الزمان يحك ويجرب وينقد ويمتحن حتى ينتهي المفهوم إلى صورته الأخيرة . وجميع المفاهيم والأفكار عند هؤلاء الماركسيين خاضعة للتطور . للحركة الديالكتيكية . فهل يدل ذلك على أن الأشياء كلها أوهام وأباطيل؟ .
أي منطق هذا المنطق ، وأي أسلوب من الاحتجاج هذا الأسلوب؟؟! .
فلنقل ـ ولا ضير ـ أن الفطرة دفعت بالإنسان إلى معرفة ربه ، فاندفع إلى ذلك منذ قرونه الأولى ، ولكنه اخطأ السبيل وقصر دون الغاية ، ووضع للإلوهية فكرة غامضة ، قبس بعض حدودها من محيطه المحدود ، وأكمل سائرها من فكره البسيط . ثم مضى مع الأزمان يصحح أخطاءه ويبتعد في حدوده . ويعمق في تفكيره ، ويرجع إلى ركائز المعرفة من نفسه والى دلائل التوحيد من سواه ، حتى بلغ الغاية التي يستطيعها الإنسان في هذا الميدان . وجاءت الأديان التوحيدية السماوية تبارك له جهوده وتسدد له خطواته . لنقل بهذا إذا لم يكن محيد عن تطور الفكرة ، ولم يكن محيد عن تأخر التوحيد عن الشرك في النشأة .
أما الأديان . أما المناهج العملية التي تقدمها الأديان للأخلاق والتربية والسلوك والاجتماع والمعاملات فلا محيد من أن تهبط من السماء موافقة لمنزلة المجتمع من التطور ، ولا محيد من أن تترتب شرائعها بحسب تلك الأدوار وقد تحدثنا عن هذا في بحوثنا عن الدين في ينابيعه الأولى .

فكرة عامة و عقيدة خاصة

والتوحيد في الإسلام فكرة عامة تتمثل في عقيدة خاصة .
فكرة عامة تقوم على طي الكون كله في وحدة ، وربطه كله في نسق ، وتأليفه كله على غاية .
الوجود المنبسط على هذا الملكوت ، المحيط بكل باد منه ومستور ، الشامل لكل صغير فيه وكبير ، هذا الوجود من أدناه إلى أعلاه ، ومن اقرب مظاهره إلى ابعد تخومه كله ظل واحد لموجد واحد ، والقانون العام الذي يسير عليه هذا الوجود المحيط توجيه واحد من مدبر واحد . والوجهة التي يتولى شطرها غاية واحدة لصانع مختار واحد . أما المادة فهي مظهر من مظاهر هذا الوجود ، وأما الطبيعة فهي الطريقة المعينة لسير الوجود في المادة . وأما الحياة فهي مرقاة من مراقيه ، وأما الإنسانية فهي النموذج الأعلى من نماذجه وأما كمال الإنسانية فهو القمة من التطور فيه .
فالكون والطبيعة والحياة الإنسانية مجموعة واحدة نشأت من معدن واحد عن علة واحدة وعلى طريقة واحدة . ونظم الكون والطبيعة والحياة والإنسانية متشابكة لا تنفصل ، وغاياتها متداخلة لا تفترق .
وهذه فكرة الإسلام العامة عن التوحيد العام ، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمة : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ *يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ 3.
لا أطوف بعيدا فاذكر أسرار أومأت إليها الآيات ثم كشفها العلم بعد نزولها بقرون . ولكن مع الآيات في دلالتها الواضحة وفي مدلولاتها القريبة .
للإنسان ولمنافعه ولحاجاته هيأ الله الكون الأعلى وما يظل واعد الكون الأدنى وما يحمل . هذا ما تقوله الآيات الكريمة . للإنسان ولمنافعه ولحاجاته التي تتطلبها حياته ويتطلبها بقاؤه . وتتطلبها سعادته وهناؤه ، بل وكرامته في الدنيا وسيادته في الأرض . للترفيه على الإنسان في شتى نواحيه كل هذا الأعداد وكل هذا الارصاد . للإنسان لينتفع به في حياته الأولى ، وله لينتفع به في حياته الأخرى . ليستدل بها على صانعها وعلى وحدت وحكمته ووجوب طاعته .

من آيات الكون

وسواءاً أكان نفع البشرية غاية مقصودة من خلق الكون والطبيعة والحياة أم كان فائدة مترتبة على وجودها فان في ذلك دلالة عميقة على التعاون البالغ بين مظاهر الكون وأجزائه وعلى الاشتباك القوي بين قوانينه وغايته .
وشد العلم إزر هذه الفكرة فأبرز وجوهاً من وحدة الكون ، وابدى ضروباً من أسانيد هذه الوحدة ومعززاتها ، وهو لا يفتأ يكتشف ويستدل ولا يخطؤه الاكتشاف ولا التدليل .
فهذه الأرض الكدرة هذه الشمس المنيرة وهذه الكواكب السيارة وما يتبعها من أقمار وما تحتوي عليه من أجرام وأجسام كلها من اصل واحد . ولقد كانت في بدء أمرها شيئاً واحداً . هكذا يقرر العلم التجريبي الحديث . وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا … ﴾ 4.
وشمسنا هذه التي نعيش على ظهر كوكب صغير من كواكبها مع ما في المجرة من ألوف ملايين الشموس أمثالها ، ومجرتنا هذه التي تحتل الشمس والكواكب ناحية صغيرة منها مع ما في الفضاء من ملايين المجرات أشكالها ، كل هذه العوالم الكثيرة المتباعدة في الأمكنة متحدة في المادة متسقة في النظم متفقة في الحركة 5 .
والحياة الموجودة على هذا الكوكب جزء من نظام الشمس ، لأنها تأنف من عناصرها وتغتذي من ثمراتها ، وتتقوم بحرارتها وإشعاعاتها .
والحيوان والنبات صنوان قريبان يمد احدهما الاخر بما يعوزه من العناصر ويرفده بما يفتقر إليه من الحاجات ، والطبيعة امهما الرؤوم والأرض مهدهما الوثير ومعهدهما المربي وحصنهما المنيع .
ونظام البصر في عين الإنسان واعداد طبقاتها وعدساتها وتحديد مجاري الضوء منها وتقدير منافذ الصورة ، كل هذا امتداد لقانون الأشعة التي توجهها الشمس ويمتلئ بها الأفق وتنتشر على كل مرئي وتنفذ إلى كل منظور .
وذرة الرمل الصغيرة مع المنظومة الشمسية الكبيرة شيء واحد فالمعدن فيها هو المعدن والطاقة هي الطاقة والنظام هو النظام .
وهذا الملكوت الواسع بمجراته الهائلة وعوالمه الكبيرة الكثيرة وأجرامه الفخمة الضخمة وما لها من توابع وظلال ومن أنظمة وحركات كلها يذعن لقانون عام واحد يقيه التصادم ويمنعه عن التخلف والاضطراب ويدفع به إلى التناسق والانسجام .
من صمم هذا القانون العام الواحد ينشعب قانون كل موجود ، وكل جزء من كل كائن ، وكل خلية من كل جزء وكل ذرة من كل خلية وكل نوية وجسيم من كل ذرة ، والى الغاية الكبرى المحيطة ترد كل غاية جزئية لأي كائن جزئي .
وعلى هذه الفكرة الجامعة يجب أن تقوم فكرة الدين ونظرة الاجتماع وفلسفة الخلق ومنهج التربية ونظام الاقتصاد وقانون السياسة والحكم ، وعلى هذا الأساس يجب أن ترتكز كل نظرة تبحث عن الإنسان الفرد أو الإنسان الأمة ، وكل تشريع يعد للإنسان الفرد أو للإنسان الأمة .
هذه الفكرة الإسلامية الجامعة عن التوحيد وهي التي اثبت العلم كل مقطع من مقاطعها ، وأكد العقل كل منحى من مناحيها .
وفي ضوء هذه الفكرة فالبشرية جماعة واحدة ذات اتجاه واحد ويتحتم أن يظللها دين واحد ، وان تذعن كذلك لحكومة واحدة يرأسها إمام واحد .
والمسلمون إخوة اشقاء يصل بينهم نسب البشرية ولحمة العقيدة ورحم الدين ، والمسلمون أولياء على تنفيذ هذه الخطة وتحقيق هذه الفكرة ، يرشدون من يجهلها بالحسنى ويقوّمون من يزيغ عنها بالحجة ويخضعون من يكيد لها بالقوة .
أما من لا يشاء أن يقتنع ولا يحاول أن يكيد فهو وان نشز عن الوحدة التي يفرضها الإسلام ، وعن الفكرة الجامعة التي يحتمها قانون التكوين ، الا أن دين الإسلام يقرر له حرية المعتقد ، وحرية العبادة ، وحرية العمل ، وحرية المعاملة ، والمساوات الكاملة أمام العدل والكرامة الموفورة في الحياة وله على حكومة الإسلامية أن تصون له هذه الحقوق ، وان تفي له بهذه الضمانات .
يقرر الإسلام له هذه الحقوق ويضمن له هذه الحريات وينجز له هذه الضمانات ما دام لا يريد به كيداً ولا يقف له في وجه .
وما دام لا يريد كيداً بالإسلام بما هو دين ، ولا يبدي له خلافاً بما هو دولة ولا يتربص به الدوائر بما هو وحدة ، ولا يبتغي الفتنة بأهله ولا الصد عن سبيله . فهذه جهات لا يتسامح فيها الإسلام ، ويتناقض مع نفسه لو تسامح فيها .

أشعة التوحيد

وعقيدة التوحيد عميقة الأثر ضاربة الجذور في خلق المسلم وفي بناء شخصيته وتقويم طباعة وتزكية أعماله .
فهي تطوي جميع آماله في أمل ، وتوحد كل صلاته في صلة ، وتؤلف عامة أهدافه في هدف ، فآمال المسلم الحق وروابطه وغاياته كلها محصورة في الله ربه الذي يخلص له في السر ويعبده في العلانية ويدعوه لكل نازلة ويلجأ إليه عند كل مهمة ، في الله الذي بيده مساك الموت والحياة ، وبتدبيره ملاك القبض والبسط ، وبأمره تقدير النفع والضر . في الله الذي يأمله الأمل فلا يخيب ويلجأ إليه اللاجئ فلا يذل ، ويتوجه أليه القاصد فلا يشقى .
تتوحد آمال المسلم كلها في أمل ، وتنطوي صلاته بأجمعها في صلة ، وتندمج غاياته بأسرها في غاية ، ثم يشع أمله ذلك الواحد على كل أمل له في الحياة فيزدهر ، وتمتد تلك كل صلة له في الدنيا فتزكو . وتتصل غايته بكل غاية له في الكون فتعظم .
يوقن المسلم بان الله وحده المعبود الحق ، وان بيده وحده مقاليد الأمور ، واليه وحده مصائر الأشياء فهو الإله الذي لا يُعبد غيره والرب الذي لا يملك التدبير سواه وهو الملك الفرد فلا ترجى إلا رحمته ، ولا تخشى إلا نقمته . ولذلك فالمسلم لا يضرع ولا يتصنع لكائن سوى الله ولا يستعين ولا يرجو موجودا غيره ، ولا يحابي ولا يتملق ولا ينافق ولا يرائي .
ولم يفعل ذلك وهو يعلم أن من سوى الله عبد خاضع لن يملك لنفسه نفعا ، ولن يدفع عنها ضراً ، عبد خاضع خاشع رضي العبودية أم أباها؟ فالمسلم رفيع النفس, عزيز الجانب ، خفيف المؤنة ، صريح الكلمة .
ويوقن المسلم بان لك ما في الكون من القوى وكل ما يبد المخلوقين كافة من الحلول فهو في قبضة الله وتحت سلطانه ، ينفذ فيه حكمة وتتصرف فيه إرادته . والله مقدر الآجال ومسبب الأسباب ، ثم لن تستطيع اية قوة في العالم نقض ما أبرم أو تأخير ما قدم . ولذلك فالمسلم لا يرهب إلا الله . ولا يحذر إلا بطشه ولا يخشى إلا غضبه .
وكيف يخاف احد غير الله وهو يعلم انه ضعيف الحلول إلا حين ينتصر بالله ، واهن الكيد إلا حين يستعين به ، معدوم القوة الا حين يلتجئ إليه؟ فالمسلم ثابت العزيمة قوي النفس بعيد الهمة .
ويوقن المسلم بان كل ما في السماوات وما في الأرض من متحرك وساكن ، ومن صغير وكبير ، ومن حي وجامد وكل ما بيد الإنسان من مال وثروة وما يعتز به من مجد وسطوة فهو ملك خالص لله الغني الذي لا منتهى لغناه ، الوهاب الذي لا حصر لجوده ، القادر الذي لا حد لسلطانه ولا أمد لقدرته ، ولذلك فالمسلم لا يزدهي بثروة ولا يستطيع بقوة ولا يحسد على نعمة ، ولا ييأس من رحمة ، ثم هو لا يظلم ولا يحيف ولا يتكبر .
ولم يصنع ذلك وهو يعلم أن كل ما في يده او في يد غيره فهو لله الجواد الذي لا يبخل ، العدل الذي لا يظلم ، العزيز الذي يهب النعمة انى شاء بقدرته ، ويسلبها انى شاء بحكمته؟ فالمسلم عف الضمير ، نقي السر طاهر العلانية ، موصل الامل بالله شديد الثقة بتدبيره .
وهذه الدرجة من التوكل لن تقعد بالمسلم عن خوض غمار الحياة ، ولن تقصر به في شيء من مجالاتها . فقد ألهمته الفطرة السليمة إن لكل امر مدخلاً ، وقد لقنه الإسلام لكل شيء سبباً ، ولا عذر له من أن يلتمس رزق الله من سبله التي يسرها ومن موارده التي قدرها ، ولكن المسلم من اجل هذا اليقين الذي يفعم قلبه ويملأ جوانحه ـ هادئ النفس حين يعمل ، قوي الطمأنينة حين يكسب ، ثابت الجنان حين يخفق ، متزن المشاعر والاعمال حين يستغني وحين يفتقر وهو من اجل هذا اليقين الذي يفعم قلبه ويملأ جوانحه معافى من العقد التي تخشو نفوس الآخرين والاضطرابات التي تظلم آفاقهم وتسعر حياتهم .
والمسلم يرجو من كسبه سد العوز في دنياه ونيل المثوبة في آخرته فقد علم من بدائة دينه ان الكسب الحلال الطيب قربة كبيرة يتعبد بفعلها الى ربه ، ويتطلب بها رضا ويبتغي بها الزلفة لديه . فهو يسعى في الحياة بأملين ويكدح بحافزين ، ولذلك فهو أقوى جلدا وأرهف عزيمة وأدنى إلى الفلاح وأرجى للغاية من الكادحين الآخرين .
والمسلم يعلم أن في الفقر مهانة لا تتفق وعز الإسلام ، وضعة لا تنسجم والكرامة التي يبتغيها للمسلم ، وضعفاً لا يقوم للوظائف التي ينبطها به ، فهو يكافح هذا الخصم ما وجد الى كفاحه سبيلاً . وهو كذلك يتقرب إلى الله بمناجزته ويستمد منه العون عليه ويتبع هداه في خوض غمارها .
ويوقن المسلم بأن الله مطلع فلا تخفى عليه خاطرة نفس ، عليم فلا تغيب عنه خالجة قلب ، محيط فلا يضل عنه مثقال حبة ولا مقدار ذرة ، ثم هو حاكم لا يجوز عدله ظلم ، جبار لا يقوم لغضبه شيء ، قاهر لا يفوت قدرته حي ، ولذلك فالمسلم لا يعصي الله في سر ولا يتعرض لمقته في علانية ، ولا يتباطأ عن حق ولا يتسامح في حد .
وأنى يجرؤوا على شيء من ذلك وهو يعلم أن الله شديد الأخذ على الجريمة ، أليم البطش على انتهاك الحدود ، فالمسلم مأمون العثار صادق اللهجة زكي الروح ، محمود السلوك .
ويوقن المسلم بأن الله الذي فرض عليه الإيمان وحببه إليه وزينه في قلبه قد ربط بينه وبين سائر المؤمنين بالأخوة ، وسوّى بينه وبين عامة البشر في الحقوق وأوجب عليه النصرة لكل مسلم إذا ظلم ، وفرض عليه النصيحة لكل بشر إذا جهل و الهداية لكل جاهل إذا ضل . ولذلك فالمسلم نزيه الطوية عن الحقد رفيع الهمة عن الخداع مجبول الطبيعة على الإحسان . والمسلم عون الله للضعيف ، ودعوة الله إلى الخير ، وقّيم الله على إقامة الحق وإفشاء العدل وإنارة السبيل وإيضاح الدليل .
ويوقن المسلم بأنه حين يؤمن بالله ويحكم صلته به وحين يمتلئ بهذا الإيمان عقله ونفسه وقلبه وجوارحه فإنما يصل عقله ونفسه وقلبه وجوارحه بالقوة التي لن تضعف , وبالعظمة التي لن ترام والعزة التي لن تظام , والقدرة التي لن يمتنع منها شيء وبالنور الذي لن يطفأ , والعلم الذي لن يجهل . ولذلك فالمسلم لا يعرف الجبن في موقف ولا يناله الخوف من حادث ولا يدركه الصغار في مقام , ولا يقيم على ضيم ولا يخلد إلى مهانة , والمسلم مشرق الروح نير العقل والقلب , يستمد صنوف كماله من أعماق نفسه . من صلته الوثقى التي ملأت آفاقه وملأت حياته . من هذا السلك الذي يشده بمصدر كل كمال وينبوع كل خير وجمال . من صلته العظمى بربه .
كذا تنفذ أشعة التوحيد في أعماق الفرد المسلم وتضيء آفاقه وتوقظ ضميره وتبني شخصيته , وتوجه إرادته ومشاعره وتحكم أشواقه ورغباته . فلا يعثر ولا يتردد, ولا ينكب عن سبيل الهدى ولا ينكفىء دون الغاية , ولا يتهرب من واقع , ولا يلتوي في قصد .
ثم تنفذ في أعماق المجتمع المسلم وتطهر صلاته وتضبط حدوده , فلا بخس لحق ولا خسر لميزان ولا أثرة ولا تحاسد ولا تباغي ولا نفاق ولا مداهنة , ولا إغضاء على ظلم , ولا حيف في حكم ولا استبداد من راع ولا التواء من رعية .
إن الإسلام بشرائعه ومعارفه و هداياته وآدابه ومفصلات نظمه ومبسطات مناهجه يتجمع وينطوي وتتداخل حدوده , وتندمج تعاليمه ,حتى يكون وحدة لا تعدد فيها من وجه , هي عقيدة التوحيد التي يدين بها المسلم لبارئه , ويخضع من أجلها لقوله .
فالإسلام هو التوحيد مجلو القسمات مبين الظِلال والسمات .
والتوحيد هو الإسلام مجمل التفاصيل مطوي الحدود , متجمع الطاقة .
وهذه هي الحقيقة الرائعة التي قررها داعية الإسلام الأول لما قال كلمته الأولى : ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) , لما ضمن للناس الفلاح أن يقولوا هذه الكلمة ويؤمنوا بهذه العقيدة .
* * *
أما تنزيه الله عما لا يليق بجلاله من الصفات ، وتقديسه عما ينافي حكمته من الأفعال .
اما هذه العقيدة فهي من شعب التوحيد الخالص والغني الذاتي المطلق .
فما كان للعقل المستنير أن يؤمن بان الله وحده واهب كل كمال في هذا الوجود ومصدر كل غنى ومؤتي كل رحمة ، ثم يرتاب بعد ذلك أو يزعم أن هذا الوهاب ليس جامعا لصنوف الكمال ، او ليس متفرداً بضروب الغنى . وما كان للعقل أن يقول بهذا بعد أن آمن بذلك فان من بدائة الأشياء إن من لا يملك شيئاً لا يعطيه .
وما كان للعقل المستنير أن يعترف بأن الله وحده واهب الكمال لكل كامل ومانع الرفعة لكل رفيع ومؤتي العظمة لكل عظيم ، ثم يبتغي بعد ذلك أن يجد لله شبيهاً من خلقه ومضارعاً له في نعوته . ما كان للعقل أن يبتغي هذا بعد أن اعترف بذلك فما شباهة مفتقر في وجوده محدود في كماله بغنى غير متناه ولا محدود؟
وما كان للعقل المستنير أن يقول : بارئ الكون مستغن بذاته عن كل شيء ، ثم يقول بعد ذلك وله صفات هي غير ذاته يستجمع بها ضروب الكمال . وما كان للعقل أن يقول بهذا متى أيقن بذلك لأنه تناقض صريح سواء أكانت الصفات التي يعنيها قديمة ام حادثة ، وسواء أكانت واجبة أم ممكنة ، مادامت زائدة على ذاته .(على حد تعبير علماء الكلام ) وما دامت تعني أن الذات استكملت بها من نقص وأفادت بها من عُدم .
وما كان للعقل المستنير أن يقول : واجب الوجود واحد يستحيل عليه أن يتعدد ، احد يمتنع عليه أن يتركب . ثم يقول : ولبارئ الكون صفات غير ذاته هي كذلك واجبة الوجود . وما كان للعقل أن يقول بهذا متى اعترف بذلك . فان وحدة واجب الوجود تمنع أن يكون متعددا ، وبساطته تحيل أن يكون مركباً . أما إذا ادعى أن الصفات ممكنة فانه يكون اشد إحالة و أوضح منعا .
وما كان للعقل المستنير أن يقول : مبدع العالم حكيم لا منتهى لحكمته وغني لا حد لغناه ، ثم يقول : وهو الذي يقتاد العباد إلى عمل الطاعة إذ يطيعون ، و يقتسرهم على ارتكاب المعصية إذ يعصون . يفعل ذلك بهم ثم يأخذهم بتبعات أعمالهم وينزل بهم العقوبات على مخالفاتهم . ما كان للعقل أن يقول بهذا متى اقر بذلك لانه تناقض بينّ .
والبحث عن حقائق صفات الله سبحانه كالبحث عن كنه ذاته كلاهما مما يستعصي على العقل أن يخوض فيه ، فان للعقل آفاقاً محدودة من المعرفة ليس في طرقه أن يجوزها ، ولمعرفته وسائل معينة ليس في مكنته أن يتعداها .
ولن تزال أمام الإنسان أعداد هائلة من المحسوسات لم يستكنه حقائقها بعد ولعله لن يستطيع ذلك أبدا .
ما حقيقة هذه الحياة التي ينعم بها الأحياء؟ .
وما كنه هذا الوجود الذي تستبين به الأشياء؟ .
بل وما جوهر هذا العقل الذي يطمع أن يكتشف؟ .
وما هذه النفس التي ترغب أن تكتمل؟ .
هذه أمور قريبة قريبة جداً من الإنسان . إلا أنها بعيدة بعيدة جداً عن إدراكه فكلها ألغاز لم يكتشفها العقل بعد ولعله لن يستطيع كشفها ابداً .
وإذا أعيى على العقل أن يستجلي هذه الحقائق ـ على أنها قريبة منه بل ومندمجة في حدوده فكيف يطمع أن يدرك حقيقة واجب الوجود أو أن يحيط بكنه صفاته؟ .
إنها محاولة مستحيلة ما في ذلك شك .
ولكننا إذا أحلنا هذا على العقل الإنساني لأنه لا يملك الوسائل التي تبلغه إليه ، أفنحيل عليه كذلك أن يدرك أن الواحد لا يمكن أن يكون متعدداً ، وأن البسيط لا يسوغ أن يكون مركباً ، وأن الكامل لا يجوز أن يكون ناقصاً ، وأن الإله الحكيم العادل لا يعقل أن يكون ظالماً ؟ . أنحيل عليه أن يدرك أن الموجود إذا وجبت له صفة معينة امتنع عليه أن يتصف بضدها ؟ .
إن هذه إمور تدخل في حدود البداهة فليست تخفى على عقل ولا يسعه أن يرتاب في واحد منها ، وهي بذاتها عين النتائج التي تحدثنا عنها .

الغنى الذاتي

بارئ الكون غني بذاته عن كل شيء ، ولا حد ولا أمد لغناه ، فكل ما يغمر جهات العوالم من خير وبركة ، وما يملأ رحال الأفق من عناصر وقوى ، وما يزخر به واسع الفضاء من أفلاك وأجرام ، وما يزحم مناكب الأرض من حي وجامد ، وما يسد فروجها من معادن وخزائن فهو فيض من غناه وبسط من جوده ، ثم لو قدرنا الفناء على جميع هذه المكونات لم ينقص من غنائه مثقال ذرة ، ولو أضيفت إليها أضعافها وأضعافِ أضعافها لم يزد ذلك في ملكوته قيد شعرة : ﴿ قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَٰؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴾ 6أجل . كل ما يزخر به هذا الملكوت العظيم فهو في قبضته ، وفناؤه وبقاؤه بمشيئته ، فهل هذا هو معنى غناه الذاتي ؟
قد يكون هذا مظهراً من مظاهر الغنى الإلهي ، ولكنه لا يصلح أن يكون تفسيراً له .
وبارئ الكون يمنح الوجود والحياة ، والقوة والسعة ، والكمال والدعة ، والرفعة والسيادة ، والهناء والغبطة ، وما يصبو إليه الإنسان في وجوده وما يتطلبه لبقائه وما يكدح للسيطرة عليه لسعادته ، وما يفتقر إليه غير الإنسان من الأحياء والأشياء ، لا لنفع يرتجعه من هذه المنح ، ولا لجزاء يأمله كفاء هذه الهبات ، وإنما هو محض الإحسان وسجية التفضل ، وهو يفرض على الخلق أن يؤمنوا به ويكلفهم بأن يطيعوه ويلزمهم بأن يتبعوا دينه ويستمسكوا بشريعته لا لمنزلة يرجوها من إيمانهم ، ولا لرغبة يبلغها في عبادتهم ، وإنما هي دلالة لهم على وظيفة العبودية وأخذ بأيديهم الى منهج السعادة ، ثم لو كفر هؤلاء العبيد كلهم بنعمته وجحدوا بربوبيته لم تتضع بذلك له منزلة ولم يتخلخل له سلطان ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ … ﴾ 7. فهل هذا هو معنى غناه الذاتي ؟
بارئ الكون غني في وجوده وفي كل نعت من نعوت كماله عن العلة ، وغني في صنعه وفي كل مجلى من مجالي قدرته عن الظهير ، وغني في تدبيره وفي كل ظاهرة من ظواهر حكمته عن المشير ، ثم هو متنزه في ذاته وفي كل شأن من شؤون عظمته عن الحاجة ، ومترفع في غناه وفي كل معنى من معاني جلالته عن التحديد .
وإذا تنزه عن الافتقار والحد والتعليل في كل معنى من معاني الكمال فهو عن العبث والظلم أشد تنزهاً وأعظم تعالياً .
هذا هو المعنى الظاهر للغنى الإلهي أو هو اللازم القريب من لوازمه .
فإذا أيقن المسلم لربه بهذا الغنى وإذا آمن له بهذا التنزيه ، فهل يستطيع أن يؤمن أيضاً بأنه يستكمل بصفته أو يمتدح بعبث أو يستطيل بظلم ؟ .
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وتعالى المسلم أن يدين لربه بهذه العقيدة .
وتعالت عقيدة التوحيد في الإسلام عن مثل هذا الإسفاف وهذا الالتواء 8 .

  • 1. لودفيج فيور بارخ ص 15 .
  • 2. ص 17 نفس المصدر السابق .
  • 3. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآيات: 10 – 16، الصفحة: 268.
  • 4. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 30، الصفحة: 324.
  • 5. يقول علم الفلك الحديث : أن أرضنا هذه التي نحيا ونعيش عليها يبلغ متوسط قطرها سبعة آلاف وتسعمائة وسبعة وعشرين ميلا، وتبلغ كتلتها خمسة آلاف مليون مليون طن . وهي أعداد كبيرة بل وهائلة إذا قيست إلى ما يألفه الإنسان من مسافات وأوزان.
    ولكن العلم يقول ايضاً : وكتلة الأرض هذه التي قدرناها بهذا العدد الضخم لا تزيد على جزء واحد من ثلاثمائة واثنين وثلاثين ألف جزء من كتلة الشمس!! فهي إذن صغيرة جدا إذا قسناها بالشمس ، وكذلك الكواكب السيارة التي تدور حول الشمس . واكبر هذه الكواكب هو المشتري ، وكتلته على ما يقولون اكبر من الأرض ثلاثمائة وسبع عشرة مرة . ولكنه على ضخامته لا يبلغ جزءاً من ألف جزء من كتلة الشمس .
    و يقولوا علم الفلك الحديث : إن أرضنا تبعد عن الشمس بثلاثة وتسعين مليون ميل ، أي بنحو من ثمان دقائق يقطعها الضوء بسرعته العظيمة ـ وابعد السيارات عن الشمس هو كوكب ( بلوتو ) وقد قدروا متوسط بعده بثلاثة ألاف وستمائة وسبعين مليون ميل ، أي بنحو من خمس ساعات ونصف بسرعة الضوء وهي أبعاد شاسعة سحيقة لا عهد للإنسان بمثلها .
    ولكن العلم يقول أيضاً : إن قرب النجوم إلينا لا يصل نوره إلى الأرض إلا بعد أربع سنين ضوئية! ويقول كذلك : إن قطر مجرتنا يبلغ نحواً من مائة ألف سنة ضوئية!! فما يكون قدر مجموعتنا إذن وما قدر أبعادها وأبعاد مدتها إذا قيست بهذه المسافات الهائلة؟. أليست ـ كما قلنا ـ إنما تحتل بقعة صغيرة من هذه الحدود السحيقة؟!.
    وكشف العلم إن مجرتنا تحتوي على مائة ألف من ملايين النجوم من ملايين الشموس وأن بعض هذه النجوم يكبر شمسنا مئات المرات حجماً ويفوقها مئات المرات بهاءاً ولمعاناً .
    وكشف إن في هذا الفضاء الرحب ألوفا من ملايين المجرة الواحدة منها على ما يناهز هذه الأعداد نجوما ، وتقول مؤلفة كتاب ( مع النجوم في تطوراتها) : ” لعلها ( وتعني المجرات”) تبلغ مئات الملايين ” .
    و وجد إن الأقمار تتحرك حول نفسها وحول كواكبها ، ووجد إن الكواكب تتحرك حول نفسها وحول الشمس ، وان الأقمار تتبعها كذلك في هذه الحركة .
    ووجد إن الشمس تتحرك حول نفسها وتتحرك نحو ( النسر الواقع ) ، وان المجموعة بكواكبها وأقمارها تتحرك بحركة الشمس في ذلك الاتجاه .
    ووجد إن المجرة تتحرك حول نفسها كذلك وان الشمس وتوابعها والبلايين من النجوم التي تملأ أكناف المجلاة تتحرك ايضاً بحركتها!!.
    ثم وقف ليس يدري ما وراء ذلك . لعل حشد المجرات هذا الذي رآه رأي عين يؤلف مجرة للمجرات؟!.
    لعل لهذا الحشد أمثالا كثيرة في الكون تبلغ الملايين أو مئات الألوف من الملايين؟!
    ولعل هذه الحشود أيضاً تتحرك حول نفسها وحول شيء آخر؟!
    وقف العلم ليس يدري ، فان المرقب الذي تمكن من صنعه إلى الآن لم يتجاوز مرآته مائة بوصة أو مئتين . وما ندري ما سيثبته لنا إذا بلغت مراته المئات أو الالوف من البوصات !!.
    إن العلم يسير بانتظام ، ويكشف إن كل ما في الكون يسير على نظام . ويقفز العلم ويتقدم ، وينمو ويمتد ، ويطرد تقدمه في كل وجه ، ويطرد فوزه في كل تجربة. ويقف الإنسان الكنود الجحود . الإنسان الذي يزعم لنفسه الحصافة والذكاء مدهوشاً مذهولاً ، يسبح بحمد العلم لأنه كشف عجيبا ، ولا يسبح بحمد الله لأنه خلق عظيماً!!.
    يرى في الكشف ما يدل على عظمة الكاشف، ولا يجد في الخلق ما يستحق إن يدل على وجود الخالق!!.
    مئات ألوف من ملايين النجوم تسير في مداراتها العظيمة وبسرعتها المدهشة ثم لا يصطدم بعضها ببعض ولا يقترب بعضها من بعض. و ألوف من ملايين المجرات تتحرك طول الدهر ولا تهدا حركتها ولا تخف سرعتها ثم لا يخرج شيء منها ولا من نجومها عن سبيله ولا ينفرط عن نظامه .
    يرى الإنسان ذلك كله ولا يشك فيه ، ثم لا يدله هذا القانون على واضع ولا يرشده هذا التدبير إلى مدبر!!.
    انه افتئات على العقل وخروج على حكمه .
  • 6. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، الآيات: 15 – 17، الصفحة: 361.
  • 7. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 7، الصفحة: 459.
  • 8. كتاب : الإسلام منابعه ، مناهجه ، غاياته للشيخ محمد أمين زين الدين .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى