مقالاتمناسباتمنوعات

الجهل المركب.. الداء العضال… دراسة تحليلية

قيل: إنَّ العاقل هو مَن يُشخِّص الداء، ويتعرَّف على الدواء، ويسعى إلى تناوله. فالوقوف عند المرحلة الأُولى، أو الاقتصار عليها وعلى الثانية، أو عدم المثابرة والجدّ في الثالثة، كلُّ ذلك ليس من العقل بشيء. وكلّما كبرت روح الإنسان وتسامي عقله، صار همّه وهمّته أكبر؛ لذا فالمفكّر المؤمن صاحب الهمّ الكبير، يرى بعين بصيرته ما لا يراه غيره، ويسعى لِما لا يسعى له سواه.

ولقد تعدّدت الأدواء والأمراض الفكرية والاجتماعية في واقعنا المعاصر، وتنوعت تنوعاً غريباً لم يعد يخفى على مَن لديه أدنى تأمل ومراقبة للواقع المعاصر، بل شعر بالخطر حتّى مَن ليس لديه باع في مجالات الفكر، فمرحلة تشخيص الأمراض صارت من الوضوح بحيث استشعر خطرها الكثير الكثير. لكن التلكؤ والتباطؤ في المرحلتين اللاحقتين، أعني: معرفة الدواء المناسب، ووضع الخطط لجعله في متناول الأيدي، فقليل من المفكّرين في واقعنا المعاصر مَن استطاع معرفة الدواء ووضع الخطط الملائمة؛ لجعله ميسوراً لمن يسعى إليه. ولا أظنُّ الأمر بهذه السهولة إلّا لمن امتلك قواعد التفكير السليم، وبنى بنيانه العقلي على أساسٍ متين من القواعد المحكمة القائمة على مُسلّمات العقل والمنطق السليم.

ولعلَّ الأصعب من كلّ هذا وذاك، هو اكتشاف القواسم المشتركة التي تُعدُّ أُصولاً ومنابع للأمراض الفكرية في المجتمع، وأوجاع تلك الأمراض المستعصية لها، فمعرفة مناشئ المرض والوقاية منها تُعدُّ أُولى خُطوات تشخيص الداء. لكن معرفة تلك القواسم المشتركة لا يُؤتاها إلّا ذو حظٍ عظيمٍ من المقدرة الفكرية التحليلية، وقليل ما هم.

ويُعدُّ الجهل منبعاً وقاسماً مشتركاً للكثير من الأمراض الفكرية والاجتماعية، بل لا توجد رذيلة ومنقصة إلّا وللجهل منها حصة الأسد، فباب الجهل باب أوسع من أن تُحيط به مقالةٌ في سطور. لكن أسوأ أوجه الجهل وأدنى أقسامه، وأبشع صوره هو الجهل المركب، بل هو الداء القاتل، والمرض العضال الذي أعيى المصلحين، وأتعب المرشدين حتّى وُسِمَ بأنّه: “الداء العضال”، فكان الصخرة الصماء التي تكسّرت عندها أحلام الطامحين للإصلاح. فما هو هذا الداء المستفحل؟

قسّم المفكرون والمناطقة والفلاسفة الجهل على قسمين: أحدهما: الجهل البسيط، ثانيهما: الجهل المركب. فالجهل البسيط الذي لا تركيب فيه هو أن يجهل إنسانٌ شيئاً، وهو مُطّلع على جهله، فهو يعلم بذلك الجهل، فليس في نفسه إلّا جهل واحد بذلك الشيء.

أمّا الجهل المركب: فقد قيل في تعريفه بأنّه: “هو خلو النفس عن العلم، وإذعانها بما هو خلاف الواقع، مع اعتقاد كونها عالمة بما هو الحقّ، فصاحبه لا يعلم، ولا يعلم أنّه لا يعلم؛ ولذا سُمِّي مركباً” فسبب تسميته بـ(الجهل المركب)؛ لأنّه مركب من جهلين، جهل بالواقع ونفس الأمر، وجهل بذلك الجهل، أي: إنّه يتوهم كونه عالماً، والحال أنّه جاهل لا علم له.

فالجهل المركب عكس الجهل البسيط؛ لأنّ الجهل البسيط هو: أن يجهل الإنسان شيئاً وهو مُطّلع وعالم بجهله، وواقف على ذلك، أمّا في الجهل المركب، فهو غير ملتفت إلى جهله، بل يحسب أنّه من أهل العلم بذلك الأمر.

ولا يظنُّ ظانٌّ بأنّ الأمر يتوقف عند حدٍّ معينٍ، أو علمٍ معينٍ، فهذا من الجهل المركب أيضاً، بل الأمر سيال في كلِّ اختصاص في مجالات الحياة المتعددة، فقد يظنُّ المبتدئ بالطب أنّه أصبح طبيباً حاذقاً، والحال أنّه ليس كذلك. وقد يظنُّ مَن سمع كلمات من هنا وهناك، أنّه صار مفكّراً، والواقع خلاف ذلك، وقد يتوهم شخص أنّه صار قانونيّاً، والحال أنّه في بداية البدايات من علم القانون، بل قد يتوهم أحدهم أنّه على خُلقٍ رفيع، والحال أنّه لا خُلق له، وهكذا. وهنا مكمن الخطر؛ لذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما هلك امرؤ عَرف قدر نفسه“. ثُمّ قال الإمام (عليه السلام): “ما أخالُ رجلاً يرفع نفسه فوق قدرها إلّا من خَلل في عقله“. فمنشأ الجهل المركب على هذا هو وجود خلل في تقييم الإنسان لنفسه؛ وما ذلك إلا لعدم الرشد في القوى العقلية لسبب ما.

  • الجهل المركب في القرآن والسنّة

لقد أشار القرآن الكريم والسنة المطهرة تصريحاً وتلويحاً، إلى هذا المرض الفتاك الذي لا يحسُّ بخطره إلّا العالمون في مواطن كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:

  1. قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ).

قال الشيخ الطوسي في تبيانه: “يحسبون: أي يظنون أنّهم يفعلون الأفعال الجميلة، والحسبان: هو الظنُّ، وهو ضدُّ العلم” إشارة إلى وقوعهم في الجهل المركب. وقال صاحب تفسير الكاشف: “ويتلخّص المعنى بأنّ أخسر الناس صفقةً، وأخيبهم سعياً، هو الجاهل المركب، الذي يرى جهله علماً، وشرَّه خيراً، وإساءته إحساناً” وفي الوسائل، عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل الآية المتقدِّمة، قال عليه السلام: “هم النصارى، والقسيسون، والرهبان، وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة، والحرورية، وأهل البدع

وعلّق السيّد الطباطبائي في ميزانه على الروايات الواردة في ذيل الآية بأنّها جميعاً من باب الجري والانطباق، بمعنى أنَّ ما ذُكر لها من مصاديق هي نماذج، فمن الممكن أن تنطبق على غيرهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، والجامع لجميع المصاديق إنّما هو الجهل المركب، فيظنُّ أصحابها جهلاً أنَّهم محسنون، والحال أنّهم واقعون في الوهم والضلال.

  1. قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَـٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ ) ، فقد قال صاحب  زبدة التفاسير  في ذلك: “فإنّ الجاهل بجهله على خلاف ما هو الواقع، أعظم ضلالةً وأتمُّ جهالةً من المعترف بجهله، فإنّه ربما يُعذر وتنفعه الآيات والنُّذر
  2.  ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: “إنَّ عيسى بن مريم عليه السلام، قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بأذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه. فقيل: يا روح الله، وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كلَّه له لا عليه، ويوجب الحقَّ كلَّه لنفسه، ولا يوجب عليها حقاً، فذلك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته“.

وكلُّ ما ذُكر في الأحمق ظاهراً هي من لوازم الجهل المركب، فهو لتوهمه العلم يُصاب بالعُجب، ويتبع ذلك أن يرى لنفسه فضلاً، ويوجب لها حقاً؛ لذا عبَّرت بعض الروايات عن جاهل كهذا بـ(ميِّت الأحياء).

  1. جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة في صفات الفُسَّاق قوله: “وآخر قد تسمَّى عالماً وليس به فاقتبس جهائل من جُهَّال، وأضاليل من ضُلّال… فالصورة صورة إنسانٍ، والقلب قلب حيوانٍ، لا يَعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العَمى فيصدُّ عنه، وذلك ميِّت الأحياء“.

 وأخيراً، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): “الناس أربعة: رجل يعلم ويعلم أنّه يعلم، فذاك عالم تعلَّموا منه، ورجل يعلم ولا يعلم أنّه يعلم، فذاك نائم فأنبهوه، ورجل لا يعلم ويعلم أنّه لا يعلم، فذاك جاهل فعلّموه، ورجل لا يعلم ولا يعلم أنّه لا يعلم فذاك أحمق فاجتنبوه“. فواضح أنَّ المقطع الأخير يُشير إلى الجهل المركب، والأمر باجتنابه؛ لذا يقول أحد المفكِّرين بشأن هذا الحديث الجليل ما نصه: “السؤال الذي يُثار هنا يرمي إلى تقصّي السبب، الذي جعل الأحاديث ـ الواردة في هذا الباب بشأن التعامل مع أصناف الجهال ـ توجب على الواعين من أبناء المجتمع تنبيه الغافل، والجاهل البسيط، في حين لا توجب عليهم شيئاً، إزاء المصاب بالجهل المركب، بل وتحثهم على رفضه واجتنابه؟

وجواب ذلك: هو أنّ الجهل المركب أخطر أنواع الجهل، وهو في الحقيقة داء لا دواء له، فالشخص الذي لا يعلم ويتصور أنّه يعلم مصاب ببلاءٍ خطيرٍ، هو الشعور بأنّه يعلم، ومثل هذا المرض إذا اتخذ طابع المرض المزمن يتعذَّر علاجه… إنَّ الأحمق الحقيقي ليس المصاب بعاهة في دماغه، ويعجز عن إدراك الأُمور؛ بسبب مرض جسدي… وإنّما الأحمق الحقيقي هو مَن يتمتع بدماغ سالم، إلّا أنَّ مرض العُجب والإحساس بأنّه يعلم هو الذي يفسد عليه عقله” مَن هم أكثر الناس إصابةً بهذا المرض؟

لا يخفى أنَّ الإنسان العالم الواقف على حقيقة علمه كيفاً وكماً، والذي عرف قدر نفسه، هو بمنأى عن هذا الداء العضال، وكذا مَن وقف على جهله وقلَّة زاده المعرفي وأنّه بحاجةٍ إلى التعلُّم. قال الإمام الكاظم (عليه السلام): “ما جَهِل ولا ضاع امرؤ عرف قدر نفسه“، أمّا الحالة الوسطى، وهي أنَّ يكون للإنسان حظٌّ من العلم وحصيلةٌ منه، فهنا يشيع هذا الداء كثيراً عند هذه الطبقة من الناس، ولنُسمِّهم (أنصاف المتعلِّمين)، الذين لم يقطعوا شوطاً في العلوم، فهؤلاء هم أكثر الناس وقوعاً به؛ لذا قال أحد الأكابر ما نصه: “وإنَّ الجهل المركب يكون عند أُناس هم بين بين، وهم الذين خرجوا قليلاً من بساطة العوام، وتقحَّموا في الجوَلان في ميدان العلم، بأقدام مرتعشة حتّى في مباديه، فهم يُقلقون العالم، ويشوّهون العلم، تارةً بالتقليد الأعمى في المسموعات الموافقة للأهواء، وتارةً بالوسوسة والتشكيك في كلِّ شيءٍ” .

إذاً؛ فعلى المتعلِّم أيّ متعلمٍ كان، وفي أيِّ اختصاصٍ في بدايات التعلُّم والطلب أن يحاذر كلَّ الحذر في هذه المرحلة، بأن يعرف حقيقة معلوماته، وأنّها مهما بلغت فهي كالقطرة في المحيط الخضم، ولا يغتر بإغرار الشيطان إيّاه. فهذه المرحلة تكاد أن تكون أشدُّ مراحل طلب العلم حساسيةً؛ لذا اشتُهر على الألسن أنّ غاية العلم هو الاعتراف بالجهل. وقد نُقل عن الحكيم سقراط قوله: تعبتُ في تحصيل العلم حتّى علمتُ أنّي لا أعلم.

  • الخروج عن الاختصاص

ثُمّ إنّ الأمر لا يقتصر على أنصاف المتعلمين، بل الأخطر والأدهى من ذلك عندما يتطفل غير ذوي الاختصاص على غير اختصاصاتهم، فترى مثلاً عالماً في التاريخ يعطي آراءً في الكيمياء، أو عالماً في الفيزياء يتكلَّم في الاقتصاد، أو خبيراً بالقانون ينتقد آراءً فلسفية أو اجتماعية، فهذه الحالة من أشدّ الحالات خطورةً، فعندما يتعدى تأثير الجهل المركب حامله؛ ليشمل الآخرين ليوقعهم في الضلالات؛ تكون هي الغاية القصوى للجهل، وخصوصاً إذا كان الجاهل المركب يمتلك مواصفات أُخرى، تُعدُّ عوامل مساعدة لتسويق جهله، كاللباقة، أو المركز الاجتماعي، أو السياسي، أو… فالأمر سيكون أكثر تعقيداً؛ لذا ورد التحذير المتبادل لكلا الطرفين ـ أعني الملقي والمتلقِّي بضرورة التثبت والتدبر.

فعلى المتلقّي  وهو السامع أو الآخذ للمعلومة  مسؤولية جسيمة في اختيار القناة الصافية، والنبع الطاهر الذي يستقي منه علمه؛ إذ الأمر ليس بهذه الدرجة من العفوية والسذاجة، فلم تترك الشريعة هذا الأمر دون أن تُوليه أهميةً كبيرةً، والأمر عقلائي قبل أن يكون شرعيَّاً، فما من عاقلٍ يرومُ التعلَّم، والتدرج في مدارج الكمال، إلا واهتمَّ بأمر معلِّمه، وعمَّن يأخذ معلومته، ومع ذلك وردت النصوص الشرعية لتؤكِّد وتحثّ على هذا الأمر العقلائي، ففي (علل الشرائع) أخرج الشيخ الصدوق، عن عبد العظيم الحسني، عن علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنّه قال: “قال عليّ بن الحسين : وليس لك أن تسمع ما شئت؛ لأنَّ الله تعالى يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)”، وورد في كتاب الكافي عن زيد الشحّام، عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل قول الله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ) قال الراوي: “قلت: ما طعامه؟ قال علمه الذي يأخذه عمَّن يأخذه“، فالمعلومة عُدَّت غذاءً للروح؛ فليُحاذر الإنسان في غذائه الروحي، كما يُحاذر في غذائه المادي، بل الأمر أشدُّ وأخطر. بل عُدَّ التلقِّي  تلقِّي المعلومة في بعض النصوص عبادةً، ففي الكافي أيضاً، عن الحسن بن عليّ بن يقطين، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: “مَن أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده؛ فإنّ كان الناطق يؤدي عن الله (عزَّ وجلَّ) فقد عبد الله؛ وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان“، فكم ممَّن يؤدون اليوم عن الشيطان، بل إنَّ بعض الفضائيات في عالمنا المعاصر صارت عين الشيطان ولسانه ويده.

أمّا الملقي (المتكلِّم): فنصوص الشريعة زاخرة بالتحذير له بأن يتوخى الدقة، وأن يقول ما يعلم، وأن لا يخوض فيما لا يعلم، ونحن نكتفي بقول الله تعالى: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام قوله في ذيل تلك الآية: ” وليس لك أن تتكلّم بما شئت؛ لأنَّ الله تعالى قال: (وَلَا تَقْفُ…) الآية”.

وفي وصية الإمام علي (عليه السلام) لابنه محمّد بن الحنفية، قال: “يا بني، لا تقلْ ما لا تعلم، بل لا تقلْ كلَّ ما تعلم؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى قد فرض على جوارحك كلّها فرائض، يحتجُّ بها عليك يوم القيامة، ويسألك عنها…”. فالناطق والمتكلّم بغير علم جاهل مركب، وقد أوقع غيره في شراك جهله.

  • أعراض الجهل المركب وتبعاته

لا يخفى أنَّ لكلِّ مرضٍ مادي يصيب الجسم أعراضاً خاصة يُعرف بها، ويُميز بواسطتها عن غيره، والأمر كذلك في الأمراض الروحية التي تُصيب النفس والروح، فلكلِّ داءٍ من دوّي الروح علامات وأعراض يُعرف بها، وسبق أن قلنا: إنّ الجهل المركب عُبّرَ عنه بأنّه (الداء العضال)، أو (الداء الذي أعيى الحكماء) فما هي أعراض هذا المرض؟ وما هي تبعاته التي تُصاحبه وتنتج عنه؟ ويمكن تلخيص تلك التبعات بما يلي:

  1. الجهل المركب مانع من قبول الحقِّ والرجوع إليه، بل يصل الأمر بالجاهل المركب إلى معاداة العلم وأهله، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قوله: “بالجهل يُستثار كلّ شرٍّ“، وقوله (عليه السلام): “الناس أعداء ما جهلوا” و”مَن جهل شيئاً عاداه” و”ما ضادّ العلماء كالجهال، فقبول الحقِّ يعني قبلَ كلِّ شيءٍ الجهل به، ثُمّ قبوله والإذعان له، والجاهل المركب لا يرى نفسه جاهلاً فكيف يذعن للحقِّ؟!
  2. الجهل المركب يقتل الدافع لدى الإنسان لطلب العلم؛ إذ إنَّ الإنسان بفطرته طالب للكمال، رافض للنقص، والعلم كمال، وكفى لكونه كمالاً أن يدَّعيه مَن لم يتصف به، فإذا رأى الإنسان نفسه عالماً، وهو جاهل مركب، فلماذا طلب العلم حينئذٍ؟!
  3. الجهل المركب يُميت القلب، وقد عُبِّر عن المصاب به بـ(ميِّت الأحياء)، فقد سبق أن نقلنا قول أمير المؤمنين في وصف الفُسَّاق، قوله: ” وآخر قد تسمَّى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جُهَّال، وأضاليل من ضُلّال، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقَّ على أهوائه… فالصورة صورة إنسانٍ، والقلب قلب حيوانٍ… وذلك ميِّت الأحياء
  4.  إنَّ الجهل المركب يُعدُّ منشئاً للكثير من الرذائل، والقبائح النفسية: كالعجب، والغرور، والتكبر، ففي ذيل قول أمير المؤمنين في نهج البلاغة: “… واعلموا أنَّ المؤمن لا يُصبح ولا يُمسي، إلّا ونفسه ظنون عنده فلا يزال زارياً عليها، ومستزيداً لها…”.
  • الجهل المركب حالة حيوانية

إنَّ من أفضل نعم الله تعالى على الإنسان أن ميَّزه عن باقي أجناس الحيوانات بالعقل، تلك الجوهرة التي ارتفع بها الإنسان من حضيض الحالة الحيوانية، ليصل إلى مراتب يطمع بها حتّى الملائكة المقربين، فبالعقل تتحقق إنسانية الإنسان، ولولاه لصار الإنسان صنفاً من صنوف الحيوانات ليس إلّا. فما دام الإنسان سائراً بهدي العقل السليم فهو إنسان، فإن أهمل ذلك فقد رجع إلى الحالة الحيوانية؛ لذا وردت الأحاديث الجمَّة في مدح العقل، وذمِّ الجهل؛ لأنَّ الجهل عبارة عن تغييب لدور هذه الجوهرة النفيسة، فقد ورد في كتاب الكافي الشريف، عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام أنَّه قال: “لما خلق الله العقل استنطقه، ثُمّ قال له: أقبلْ. فأقبل. ثُمّ قال له: أدبرْ. فأدبر، ثُمّ قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمَن أُحبُّ، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وإيّاك أُعاقب، وإيّاك أُثيب“.

ومن مظاهر تغييب العقل الواضحة، هي حالة الجهل المركب؛ لأنَّ الجهل المركب هو إعمال للوهم أي يتوهم الإنسان ويزعم ويحسب أنّه عالم، والحقيقة خلاف ذلك والوقوف عند الوهم حالة حيوانية، تشترك فيها جميع الحيوانات مع الإنسان، قال صاحب كتاب (المنطق): “العلم الوهمي يحصل عليه كغيره من الحيوانات بقوة الوهم، وهي ـ هذه القوة ـ موضع افتراق الإنسان عن الحيوان، فيُترك الحيوان وحده يُدبر إدراكاته بالوهم فقط… ثُمّ يذهب هو ـ الإنسان ـ في طريقه وحده، متميزاً عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حدَّ لها ولا نهاية” . وعبّر شارح أُصول الكافي عن ذلك بقوله: “الجهل على قسمين… والثاني: الاعتقاد بالشيء اعتقاداً فاسداً، ويقال له: الجهل المركب، والغيّ والغواية: الضلالة، وهذا أشدّ من الأوّل؛ لأنّه من الأمراض المهلكة للحياة القلبية، والأسقام المبطلة للحقيقة الإنسانية“. فيتبين إلى هنا أنَّ حقيقة الإنسان بعقله، وبه يُسمَّى الإنسان إنساناً، وإلّا فهو كالبهيمة، وعلى هذا فـ”الإنسان إنسان بالقوة إذا لم يعلم ولم يجهل جهلاً مركباً، فإذا علم كان إنساناً بالفعل، أو جهل جهلاً مركباً كان حيواناً، بل أسوأ منه

  • في علاج الجهل المركب:

أجمع أهل المعرفة على أنّ من أصعب الصعاب، معالجة الجهل المركب؛ لذا فقد ورد في مطلع المقال تسميته بـ(الداء العضال)، فالجاهل بجهل كهذا، جمع بين الجهل والاعتقاد، وخلط معهما العُجب والهوى والغرور، فبالحقيقة أنَّ الجهل المركب عبارة عن عدَّة أمراض جُمعت في واحد؛ لذا كان من المتعذر تطبيب مَن أُصيب به، لكن مع هذا التعذر والصعوبة ذُكرت بعض الأُمور التي يمكن أن تكون علاجاً لهذا الداء المعضل، ويمكن تصور العلاج في مرحلتين اثنتين: المرحلة الأُولى: منع حصول هذا الداء بتجفيف منابعه إن أُولى المراحل لمعالجة هذا الداء الخطير هو تحاشي الأُمور التي تولد جهلاً مركباً عند الإنسان والتي منها:

  1. اتباع الهوى: فالهوى من أخطر مزالق الفكر “فعندما يحبُّ الإنسان شيئاً ويتعلق به، تعمى بصيرة عقله، وتُصم مسامع فكره، وبالتالي لا يقدر أن يتبين أو يدرك مواضع الضعف في محبوبه المعشوق، وهكذا الحال بالنسبة لخصيصة المقت وعليه؛ لو أراد أن يُميّز مواطن الضعف والقوة في نظرية ما، ويفكّر فيها تفكيراً صائباً، فعليه أن يتحرر من الميول والرغبات النفسية؛ لأنَّ هذه الميول والرغبات، تؤثر في اعتقاده شاء أم لم يشأ، وعلى سبيل المثال لا الحصر أنَّه اشتُهر عن العلّامة الحلي عندما أراد أن يُفتي فيما إذا كان ماء البئر قد أصبح نجساً، هل يمكن تطهيره أو لا؟ أمر بردم بئر منزله أوّلاً، ثُمّ بدأ بمطالعة النصوص الفقهية في هذا الصدد، ثُمّ أفتى بعد ذلك بأنَّه لو أصبح ماء البئر نجساً، أمكن تطهيره طبقاً لما جاء في الكتب الفقهية. فالعلّامة الحلي كان يعلم أنَّه لو لم تُردم بئر منزله، لأثّر وجودها في رأيه وفتواه بصورة لا إرادية، وهذه حقيقة لا تُنكر، فالإنسان لا يمكنه أن يُدرك الحقائق العقلية حقَّ الإدراك، أو يُبدي رأياً صائباً فيها إلّا إذا رُدمت بئر ميوله ورغباته النفسية، وتحرّر ذهنه من قيد هواها. وعليه؛ فكلَّما تحرّر ذهن المحقق أو الباحث من الميول والرغبات النفسية، اقترب من الصواب، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: أقرب الآراء من النهى، أبعدها من الهوى”
  2. الظنُّ: وهو أن يبني الإنسان معلوماته، وخصوصاً المعلومات المصيرية على علمٍ، لم يصل إلى درجة عالية من الوضوح والكشف عن الواقع، فيتصرف على أساس ذلك العلم، تصرف الجازم المتيقن “وأَوّل ما يُوصي به القرآن لتصحيح العقيدة، هو تجنب الاعتماد على هذا المنزلق، ويؤكّد على أتباعه بعدم بناء عقائدهم وآرائهم على دعائم الظنِّ والشك، والتسليم بشيء دونما تأكد من صحته وثبوته، ففي نظر القرآن أنَّه لا يحقُّ لمسلم أن يقتفي شيئاً، أو يجعله مداراً لعمله، ما لم يثبت له أنَّه قطعي وثابت… وقد ردَّ القرآن على منكري المعاد، بأنَّهم معوزون إلى الدليل على إنكار الحياة بعد الموت [أي: إنَّ إنكارهم لم يقمْ دليل عليه] وأنَّ اعتقادهم لا يقوم على أساسٍ علمي، وإنَّما يقوم على الظنِّ والحدس بقوله: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)” .

ولعلَّ أغلب مشاكل عالمنا المعاصر اليوم تأتي من هذه الخاصرة الرخوة، فأصبح البعض يستبيح الدم والعرض والمال، لا لشيء إلّا لاتباع الظنِّ والهوى، وهذا من الطامات التي حذّر منها أُولو النُهى، وكلّ ذلك يُعدُّ مصدراً للجهل المركب، وينبوعاً له.

  1. التعصب: وهو مأخوذ من العصب، قال ابن فارس: “العين والصاد والباء، أصل صحيح يدل على ربط شيء بشي ، وكأنَّ المتعصِّب يحاول أن يرتبط بفئته التي شعر بالانتماء إليها على كلِّ حالٍ، أصابوا أم أخطأوا، أحسنوا أم أساءوا؛ ولهذا كان التعصُّب أحد منابع الجهل المركب؛ لأنّ المتعصِّب لا يعتقد أنَّه على خطأ البتة، بل يرى نفسه مُصيباً مُحسناً على كلِّ حالٍ، ولا يعلم أنَّه في تعصبه إنّما يتبع هواه وميول نفسه، وقد عبَّر أمير المؤمنين عليه السلام عن الشيطان، بقوله: “إمام المتعصبين، وسلف المتكبرين الذي وضع أساس العصبية“. فلا بدَّ إذا أراد الإنسان أن يتخذ موقفاً ما  من مراعاة أُسس العقل والدين المتينة، وعدم اتباع الهوى والعصبية دفعاً للجهل، وابتعاداً عن شِراكه المُهلكة.
  2. عدم الاختيار العلمي والدقيق لمصادر المعلومات: فلا مبالغة إن قلنا: إنَّ هذا الأمر إن لم يكن أهمّ الأُمور التي ذُكرت في هذه المرحلة، فهو لا يقلُّ أهميةً عنها؛ لأنَّ الكثير من المعلومات والاعتقادات والأفكار بل والمواقف العملية والعلمية تُبنى على معلومات استُقيت من مصادر موبوءة، لها مواقف مسبقة تعمل ضمن أيديلوجية معينة، ولها أهداف غير نبيلة؛ ولذلك شدّد أهل البيت عليهم السلام على التدقيق والتثبت في مصادر العلم، وسبق أن نقلنا قولي الإمام الباقر عليه السلام، حيث يقول في تفسير قول الله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ)  حيث سأله السائل: “ما طعامه؟ قال عليه السلام: علمه الذي يأخذه عمّن يأخذ” وقوله (عليه السلام): “مَن أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده…” فكما أنَّ الانسان لا يأكل كلَّ ما يصادفه في الطريق، بل يتخير من الأطعمة أطيبها، وأشهاها، وأنظفها، بل وينظر إلى مَن أعدّها وهيّأها، ويُراعي المكان الذي تُباع فيه، هل هو مكان تُراعى فيه الشروط الصحية أو لا؟ فليكن التدقيق في مصادر المعرفة أشدُّ وآكد؛ لأنَّ غذاء الروح أعظم أهمية؛ إذ إنّه باقٍ مع الإنسان، بل هو الذي يكوّن شخصية الإنسان ويحدد ملامحها ويرسم مصيرها الأبدي. فهناك الكثير الكثير من منابع المعلومات ومصادرها تصنع بقصدٍ مُسبق حالة الجهل المركب لدى الإنسان، وتحاول أن تُسيّره وفق أهدافها وأغراضها، من دون توخي للحقيقة والواقع. ولا مبالغة إن قلنا: إنَّ هناك مصانع ضخمةً، لإنتاج وصناعة الجهل المركب في زماننا المعاصر، تنصب شباكها في كلِّ مكانٍ؛ محاولةً منها لاصطياد أكبر عدد ممكن من بني البشر.

وهناك منابع أُخرى للجهل المركب، يطول بذكرها المقال، كالتسرّع في الأُمور، وعدم التثبت والدقة، و…، تركنا الكلام عنها اختصاراً. المرحلة الثانية: محاولة علاج هذا الداء بعد حصوله وقد ذُكرت لذلك عدَّة حلول نوجزها بالخطوات التالية:

  1. عرض المعلومات على ذوي الاختصاص: فصاحب الاختصاص خبير باختصاصه، ولا بدَّ أن يختار المرء المختص العاقل الكيّس الذي لا يتكلَّم وفق هواه وميوله النفسية، وخصوصاً في الأُمور المصيرية، كالعقائد والأُمور الراجعة إلى دين الإنسان؛ إذ إنَّها تُحدد مصيره، وترسم طريق حياته الدنيوية والأُخروية، فإنَّ أحدنا إذا أراد شراء بيتٍ أو سيارةٍ يسأل كثيراً ويتردد، ويتحرّى ذوي الخبرة ليسألهم، وإذا أقدم على الشراء بدون مشورةٍ، وكانت السلعة معيبةً، فإنَّه سيتعرَّض للّوم الشديد، والعتاب المرّ على تركه المشورة، مع العلم أنَّ البيت أو السيارة ممكن أن يعوّضا، ولا يترتب على نقصهما كبير أثر في الدنيا والآخرة. فما بالك بالعلم الذي له مساس بالحياة الدنيا والآخرة على حدٍّ سواء، كالعقائد وما يتعلق بها، والأُمور الدينية، أو بعض المواقف السياسية الضخمة؟!

لذلك؛ نرى بعض خُلَّص أصحاب الأئمّة يعرضون دينهم، وعقائدهم على الأئمّة عليهم السلام؛ ليصحّحوا لهم الخطأ والاشتباه إن وجد أو ليقرّوهم عليها إن كانت تامَّةً.

فقد ورد في (الكافي) الشريف عن إسماعيل بن جابر، قال: “قلت لأبي جعفر عليه السلام: أعرض عليك ديني الذي أُدين الله (عزَّ وجلَّ) به؟ قال: هات. قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلّا الله…” الحديث. وهكذا فعل عبد العظيم الحسني الذي كان من أجلَّة أصحاب الإمام الجواد والإمام الهادي (عليهما السلام)، ومن أحفاد الإمام الحسن الزكي (عليه السلام)، ووكيلاً عن الأئمّة عليهم السلام في منطقة الري، ومع هذه الجلالة نراه يعرض دينه على الإمام الهادي (عليه السلام)، كلُّ ذلك منهم رجوعاً إلى ذوي الخبرة والبصيرة، والعقل والدين.

  1. الاستعانة بالمشورة: “فمَن استبدّ برأيه هلك، ومَن شاور الرجال شاركها عقولها“، على حدِّ قول أمير المؤمنين (عليه السلام). فغالباً ما تظهر للإنسان عيوب آرائه، ونقاط الضعف فيها، حينما يتم تداولها مع أشخاصٍ من ذوي العقل والمروءة، وقد ذُكرت للمشاور صفات عديدة يطول المقام بذكرها، منها: أن يكون من ذوي العقل، وأن يُعطي أخاه محض الرأي، وأن لا يكون الرأي ناشئاً من هوى، أو عصبيةٍ، أو مصلحةٍ دنيويةٍ، و…
  2. الاستعانة ببقية العلوم: وهذه الطريقة قد اقترحها صاحب كتاب جامع السعادات، وتتلخص بطرح احتمالين لحصول الجهل المركب، فيقول ما نصه: “ثمَّ إنَّ المنشأ له إن كان اعوجاج السليقة ، فأنفع العلاج له تحريض صاحبه على تعلُّم العلوم الرياضية من الهندسة والحساب؛ فإنّها موجبة لاستقامة الذهن لأُلفه ـ لأجلها ـ باليقينيات؛ فيتنبّه على خلل اعتقادها، فيصير جهلها بسيطاً، فينتهض للطلب

إذ بدراسة العلوم اليقينية كالهندسة والرياضيات يتضح للجاهل المركب، قيمة اليقين ومعناه أوّلاً، وقيمة معارفه التي كان يظنُّ أنّها يقينية ثانياً. وليكن مسك ختام الحديث حديثاً ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، إذ يقول لرجل: “إِنَّكَ قَدْ جُعِلْتَ طَبِيبَ نَفْسِكَ وبُيِّنَ لَكَ الدَّاءُ، وعُرِّفْتَ آيَةَ الصِّحَّةِ ودُلِلْتَ عَلَى الدَّوَاءِ، فَانْظُرْ كَيْفَ قِيَامُكَ عَلَى نَفْسِكَ

الشيخ محمد الكروي القيسي

المصدر: http://imamhussain.org/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى