أسئلة وأجوبةالتعليممقالات

احداث ايلول ـ سبتمبر…

لقد توقف العديد من العلماء والمفكرين في الغرب، وفي العالم أمام أحداث 11 أيلول ــ سبتمبر، لكي يقدموا قراءات غير سياسية، ومختلفة عن زوايا نظر المحللين السياسيين. وكانت في رؤيتهم أن هذه الأحداث ينبغي أن تقرأ في إطار المنظور الكلي إلى العالم، وعلى قاعدة المدة الطويلة للتاريخ، وبمنهجيات غير تلك التي اعتاد عليهم معظم الناس في النظر لمثل هذه الأحداث الكبيرة والفاصلة، وإنما بمنهجيات قادرة على تكوين تصورات شاملة، وتفسيرات كلية وجامعة. فلم يكن مقنعاً لهؤلاء العلماء و المفكرين تلك النظرات والتحليلات التي قد يعتبرونها بأنها قاصرة من جهة أحادية الرؤية، ولحظية الموقف، ومحدودية الأفق، ولا تلامس إلا ما هو قريب ومباشر ونسبي. فهؤلاء العلماء والمفكرون تستوقفهم عادة وباهتمام الأحداث الكبرى والمؤثرة على مجريات التاريخ الإنساني العام، والتي بامكانها أن تغير مسارات الأفكار، وتقلب حركة المفاهيم، وتدفع بالعالم لأن يطرح على نفسه أسئلة المستقبل والمصير. كما إن هؤلاء العلماء والمفكرين يجدون في مثل هذه الأحداث مجالاً حيوياً لاختبار النظريات والمنهجيات والمفاهيم، وهكذا البراهين والاستدلالات، واكتشافها والتعرف عليها من جديد، فبعضها تتأكد قيمتها وفاعليتها وتماسكها بعد هذه الأحداث، وبعضها الآخر يظهر عليها الضعف والقصور والتهافت. و هذا ما يظهره لنا التاريخ الإنساني ويعرفنا عليه، فقد ارتبط مصير النظريات و المنهجيات والمفاهيم، صعوداً وهبوطاً، تقدماً وتراجعاً، بقاء وفناء، بأحداث كبرى كانت شديدة الفاعلية والتأثير على مستوى الاجتماع الإنساني، ومستوى الفكر الإنساني. فعصر النهضة في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي ارتبط بأحداث كبرى في ذلك العصر منها سقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية سنة 1435م، وسقوط الأندلس سنة 1492م، واكتشاف أمريكا في نفس السنة. كما ارتبط عصر الأنوار في القرن الثامن عشر بالثورة الفرنسية التي وصفها المؤرخون الأوروبيون بالثورة الكبرى سنة 1789م، وهكذا ارتبطت الحداثة هناك في القرن التاسع عشر بالثورة الصناعية. ومن التاريخ المعاصر يبرز واضحا ما آلت إليه الماركسية التي تصدعت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وأحداث سنة 1989م وفي مقدمتها سقوط جدار برلين. وهذه القاعدة تجري أيضا على التاريخ الإسلامي وبدون التوغل في العصور القديمة و الاقتراب من العصور الحديثة والمعاصرة فإننا نلاحظ أيضاً ارتباط مصير النظريات والمنهجيات و المفاهيم صعوداً وهبوطاً ببعض الأحداث الكبرى، فمع سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م تلاشت نظرية الجامعة الإسلامية التي كانت نظرية المصلحين المسلمين في نهضة العالم الإسلامي، ومع نجاح الثورة المصرية سنة 1952م صعدت الفكرة القومية، ومع نكسة حرب حزيران ـ يونيو 1967م تراجعت الأفكار القومية والعلمانية، ومع انتصار الثورة في إيران صعدت الأفكار الإسلامية. إلى غير ذلك من أحداث تؤكد ارتباط مصير النظريات والأفكار بأحداث تحرك الواقع وتغير اتجاهاته ومصائره.

وفي هذا السياق تأتي أحداث 11 أيلول ــ سبتمبر التي فتحت ومازالت نقاشات فكرية وفلسفية في غاية الجدية، واكتسبت هذه النقاشات أهمية من جهة موضوعاتها وقضاياها، ومن جهة نوعية الأشخاص المشاركين والمنخرطين فيها، وهكذا من جهة استشرافاتها. ومن طبيعة النقاشات التي ترتبط بأحداث هي من نوع وحجم أحداث أيلول ـ سبتمبر أن تتعدد حولها وجهات النظر وقد تتباين أو تتصادم. ومن هذه النقاشات ما فتحته المجلة الفلسفية البريطانية في عددها الصادر خلال الربع الأول من سنة 2003م، حيث أعلنت في أحد مقالاتها عن نهاية وموت فلسفة ما بعد الحداثة، وحسب ما جاء فيها: يؤسفنا أن نعلم قراءنا بوفاة ما بعد الحداثة المريضة منذ سنوات عديدة، والتي لفظت أنفاسها أخيراً بسبب الجراح القاتلة التي أصابتها أثر أحداث 11 سبتمبر2001م… نحن نعتقد أن حركة ما بعد الحداثة وصلت إلى المحطة الأخيرة، وبالتالي هي لم تعد قادرة على أن تنتج شيئا مهما. وهذا النقد لفلسفة ما بعد الحداثة يتوجه أساساً للمبادئ التي ترتكز عليها هذه الفلسفة كالنسبية والشك واللانهائية، وتصوير أن هذه الفلسفة غير قادرة على فهم وتحليل وتفسير أحداث أيلول ـ سبتمبر، أو التعاطي معها. وفي اتجاه آخر من هذه النقاشات ما طرحه المفكر الفرنسي مارسيل كونش في محاورة فكرية معه وردت في كتاب صدر هذا العام بعنوان “اعترافات فيلسوف” حيث وجد أنه قد حان الأوان لتشكيل فلسفة كونية تناسب جميع الشعوب وتتجاوز تناقضاتها وصراعاتها، وتؤدي إلى اندماج المجتمع البشري و انتشاله من أحقاده واضغانه سواء كانت عرقية و قومية أم دينية وطائفية، فالبشر متحدون في تكوينات طبيعتهم الإنسانية. ولتشكيل هذه الفلسفة الكونية الجديدة يدعو كونش إلى إيجاد طريقة توحد فلسفة الغرب وفلسفة الشرق حول بعض المبادئ الأساسية والمشتركة التي يمكن للبشرية أن تتمحور حولها. ويعتبر كونش أن بلورة فلسفة جديدة للبشرية هو ما ينبغي أن يكون الرد على أحداث 11 سبتمبر في حجمها ومستواها. ويقارب هذا الرأي ما طرحه الدكتور محمد أركون في الكتاب المشترك مع عميد كلية العلوم الاجتماعية والاقتصادية بالمعهد الكاثوليكي في باريس جوزيف مايلا وقد صدر الكتاب في هذه السنة، وهو بعنوان “من منهاتن إلى بغداد..فيما وراء الخير والشر” حيث يرى أركون بأنه ينبغي على حكومة الولايات المتحدة أن تفهم هذه الكارثة على أساس أنها نداء يائس صادر من الأعماق، إنه نداء يدعو إلى توليد فكر جديد وممارسة سياسية جديدة على مستوى العالم كله، والمطلوب حسب رأي أركون هو تحويل هذا الحدث المأساوي إلى حدث تدشيني أي يدشن تاريخاً جديداً من التضامن، وليس التصارع بين الأمم والشعوب. ويدعو أركون إلى أن لا يكون الرد الأمريكي عسكرياً وحربياً لأن المشاكل والتحديات التي أثارتها أحداث سبتمبر لها طابع فلسفي وروحاني، و الطريقة التي يفضلها أركون هي الطريقة القائمة على معالجة المشاكل والقضايا من جذورها وبأسلوب إنساني متضامن مع آلام البشر ومعاناتهم. أما عن تفسيره لهذا الحدث فإنه يكشف حسب رأيه عن ذلك الصراع الطويل الذي اندلع في حوض البحر الأبيض المتوسط منذ ظهور الإسلام قبل خمسة عشر قرناً، والذي كان سبباً لتراجع وانحسار المسيحية في الشرق. ومنذ ذلك التاريخ ابتدأت الخصومة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، ثم تعمقت مع الحروب الصليبية، وتجددت مع الحروب العثمانية، وامتدت إلى الحروب الاستعمارية، وصولاً إلى الصراع الطويل بين العرب وإسرائيل. لهذا فإن زخم التاريخ والعداء المستحكم بين الطرفين الإسلامي والأوروبي هما اللذان قادا حسب رأي أركون إلى مثل أحداث سبتمبر. وعلى هذا الأساس يحاول أركون أن ينخرط في نقد جذري للإنغلاقات المزمنة كما يصفها داخل التراث الإسلامي، ونقد جذري من جهة أخرى لانحرافات الحداثة الغربية. و أما المعركة الجارية فهي في رأي أركون غير متكافئة على الإطلاق لأنها تتم بين مجتمعات مسحوقة وتعيش أسوأ ظروفها التاريخية والانتكاسية، وبين مجتمعات قوية ومتقدمة تفرض خياراتها الفلسفية والسياسية على العالم كله.
وبخلاف هذه الرؤية الفلسفية و الأخلاقية التي تحدث عنها مارسيل كونش و محمد أركون، و التي قد يصنفها البعض في إطار الفلسفية المثالية، هناك من يدفع بعودة فلسفة المفكر الإنجليزي توماس هوبز الذي تقوم فلسفته على التشكيك في الطبيعة البشرية ويعتبرها ميالة إلى الشر والأنانية، وأن أشد ما يحرك الناس هو الرغبة في القوة والخوف من الآخرين، وبالتالي لابد من تحكيم القوة وفرض السيطرة في العلاقات بين الناس. وحسب هذه الفلسفة فان سياسة الأخلاق والقانون لا تجدي نفعاً، والاحترام لا يفرض إلا بالقوة. وهذه الفلسفة تمثل في الوقت الحاضر جوهر السياسات الأمريكية. وعودة هذه الفلسفة كان على حساب الفلسفات التي ترتكز على نزعات أخلاقية وترى إمكانية تربية وتهذيب الطبيعة البشرية لكي تصبح ميالة إلى الخير ونابذة للشر.
والمفارقة اللافتة في هذه النقاشات الفكرية والفلسفية هو ما يظهر عليها من تباعد أو تمايز بين أنظمة التفكير الأوروبية و أنظمة التفكير الأمريكية، أو بين النزعات الفلسفية الأوروبية والنزعات الفلسفية الأمريكية. ومنشأ هذا التباعد أو التمايز هو أن أوروبا قد اختبرت فلسفاتها وجربتها على الأرض ودخلت في سجالات ونقديات طويلة ومعمقة حولها، لذلك فان رؤيتها لهذه الفلسفات ومنازعها واتجاهاتها تتصف بالنضج والإدراك. في حين أن أمريكا لم تختبر تلك الفلسفات وتجربها في محيطها وعالمها وتاريخها لذلك فان رؤيتها هي أقل نضجاً وعمقاً. ولعل هذا ما يفسر اندفاع الأوروبيين أو بعضهم إلى تبني فلسفات أخلاقية وإنسانية في مقابل اندفاع الأمريكيين إلى تبني فلسفات تنزع نحو القوة والهيمنة1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الثلاثاء 25 مارس 2003 م، العدد 13359.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى