مقالات

نبذةٌ عن اهتمام الشيخ الصدوق (رض) بالجانب السندي

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريا بركات

يظنُّ بعضُ الباحثين أنَّ الاهتمام بالجانب السندي وإسقاط الأحاديث المرويَّة بنقدها سنديًّا وتضعيفها، هو منهج مستورد من بعض المدارس الفكريَّة الأخرى التي تخلَّفت عن سفينة النجاة ولم تلتزم باتِّباع أهل البيت عليهم السلام.. ويعتقد هؤلاء الباحثون أنَّ تضعيف الأحاديث يؤدِّي إلى تضييع الميراث الديني المرويِّ عن أهل البيت (عليهم السلام) بحُجَّة ضعف الأسانيد.. ويتصوَّرون أنَّ الذي استورد هذا المنهجَ هم الأصوليُّون، وأنَّ منهج المحدِّثين القدماء والأخباريِّين كان أكثر سلامةً وأقربَ إلى الصواب.

وما ذهب إليه هذا القسمُ من الباحثين، ليس بصحيح، والشواهد على خطئه كثيرة في كتب الحديث والتراث الدينيِّ المرويِّ عن أهل البيت عليهم السلام.

وأريد في هذا المقال أن أقتصر على عدَّة شواهد من منهج رئيس المحدِّثين في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أقصد: الشيخ الصدوق محمَّد بن علي بن بابويه القمي (ت 381 هـ) رضوان الله عليه؛ لما لهذا الشيخ الجليل من مكانة عند جميع الباحثين في علوم الحديث، ولكون أولئك الباحثين الذين نريد أن نناقشهم يعتقدون بسلامة منهج الشيخ الصدوق، ولا يجعلونه في عداد الذين أخطؤوا في هذا المجال حسب تصوُّرهم.


كان الشيخ محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (ت 343 هـ) ، وهو شيخُ الشيخِ الصدوق، ممَّن يحكم على الروايات بالضعف بسب ضعف الراوي، فمن ذلك قول النجاشي في “رجاله” (ص334) ـ في ترجمة محمد بن عيسى بن عبيد ـ : “ذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنه قال: ما تفرَّد به محمد بن عيسى من كتُب يونس وحديثه لا يُعتمد عليه”.

أقول: وروايات (محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن) في “الكافي” أكثر من 320 رواية، بينما لا تجد رواية واحدة لـ (محمد بن عيسى عن يونس) في كتاب “من لا يحضره الفقيه”، مما ينبئك عن أنَّ الشيخ الصدوق ملتزمٌ بالتضعيف السندي الذي صدر من ابن الوليد، مع أنَّ الأصوليِّين لم يقبلوا هذا التضعيف واعتبروه من أخطاء ابن الوليد ومن تبعه. وبالتدقيق في أسانيد كتب الصدوق الأخرى، نجد أنَّ الشيخ الصدوق أكثر الرواية من طريق (محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن) ، وهذا يؤيد أنَّ الشيخ الصدوق يعتمد منهج النقد السندي في كتابه “من لا يحضره الفقيه”، فلايورد فيه الأحاديث التي يعتقد أنها ضعيفة سنداً، بينما يوردها في كتبه الأخرى التي لم يؤلِّفها لغرض الفتوى والاحتجاج.

وقد قال الشيخ الصدوق (رض) في مُقدِّمة كتابه “من لا يحضره الفقيه”: “ولم أَقْصِدْ فيه قصدَ المصنِّفين في إيراد جميعِ ما روَوْه بل قصدتُ إلى إيراد ما أُفتي به وأَحكُم بصحَّتِه وأعتقد فيه أنَّه حُجَّةٌ فيما بيني وبين ربِّي تقدَّس ذِكرُه وتعالت قدرتُه”. انتهى.

أقول: فكلام الشيخ الصدوق واضح في أنه يعتقد أنَّ المحدِّثين والمصنِّفين يوردون في كتبهم كلَّ ما وصلهم من غير تمييز بين الصحيح والضعيف، وبين ما يحكمون بصحَّته وما يحكمون بضعفه وعدم صلاحيَّته للاعتماد في مقام الحكم والفتوى.. وهذا يدلُّ على أنَّ الشيخ الصدوق يعتقد أنَّ قسماً من الروايات التي في كتُب الحديث هي روايات ضعيفة لايصحُّ الاحتجاج بها والإفتاء في ضوئها.. وقد قال الصدوق (رحمه الله) ـ في المقدِّمة نفسها ـ : ” وجميع ما فيه مُستخرَجٌ من كتُبٍ مشهورةٍ عليها المعَوَّلُ وإليها المرجعُ…”، ثمَّ ذكر بعض تلك الكتب التي أخذ منها..

فيتحصَّل من ذلك أنَّ مجرَّد وجود الرواية في الكتب المعتبرة، ليس سبباً كافياً لصحَّتها في نظر الشيخ الصدوق، بل هو يهتمُّ بالسند ويُسقط الروايةَ من الحُجِّية بسبب الضعف السندي حتى وإن كانت موجودة في كتاب مُعتبر.

وقال الشيخ الصدوق في “الفقيه” 2 : 90 ـ 91 :
“وروى الحسن بن راشد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “قلت: جعلت فداك؛ للمسلمين عيدٌ غير العيدين؟ قال:نعم يا حسن، وأعظمهما وأشرفهما، قال: قلت له: فأيُّ يوم هو؟ قال: هو يوم نصب أميرالمؤمنين عليه السلام علماً للناس، قلت: جعلت فداك وأي يوم هو؟ قال: إنَّ الأيام تدور، وهو يوم ثمانية عشر من ذي الحجة، قال: قلت: جعلت فداك وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟ قال: تصومه يا حسن وتكثر فيه الصلاة على محمد وأهل بيته عليهم السلام، وتبرأ إلى الله عز وجل ممَّن ظلمهم حقَّهم، فإنَّ الأنبياء عليهم السلام كانت تأمر الأوصياء باليوم الذي كان يقام فيه الوصي أن يُتَّخذ عيداً، قال: قلت: ما لمن صامه منا؟ قال:صيام ستين شهراً، ولا تدع صيام يوم سبعة وعشرين من رجب فإنه هو اليوم الذي أُنزلت فيه النُّبوة على محمَّد (صلى الله عليه وآله) وثوابه مثل ستين شهراً لكم”.

ثمَّ ذكر الصدوق خبراً آخر، ثم قال مُعلِّقاً على الخبر أعلاه: “وأمَّا خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإنَّ شيخنا محمد بن الحسن (رضي الله عنه) كان لا يصحِّحه ويقول: إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني، وكان كذَّاباً غير ثقة، وكلُّ ما لم يُصحِّحه ذلك الشيخ (قدَّسَ اللهُ روحه) ولم يحكم بصحَّته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح”.

وهذا الكلام صريح في أنَّ الشيخ الصدوق يعتمد التضعيف السندي لردِّ الرواية وترك الاعتماد عليها.
إلاَّ أنَّ الشيخ الصدوق روى الخبر نفسه (والذي اختار تركه وعدمَ صحَّته) في كتابه الآخر “ثواب الأعمال” ص74 ، من غير تعليق عليه بالتضعيف، بل روى بجانبه خبراً آخر مؤيِّداً له من طريق شيخه محمد بن الحسن، وهو ينتهي أيضاً إلى الحسن بن راشد، وفي الباب نفسه من كتاب “ثواب الأعمال” ثلاث روايات. وهذا يعني أنَّ الشيخ الصدوق كان ـ كغيره من المصنِّفين ـ في غير كتابه من لايحضره الفقيه، يمكن أن يروى خبراً وهو يعتقد أنَّه ضعيف غير صالح للاعتماد والاحتجاج.

وفي كتاب “من لا يحضره الفقيه” 4 : 34 ـ 35 برقم 5023 ، رواية عن الإمام الصادق عليه السلام في مجال الحدود، ردَّها الشيخ الصدوق بضعف وهب بن وهب الراوي عن الإمام الصادق عليه السلام. و وهب هذا هو أبو البختري القرشي الذي كان من المصنِّفين (من أصحاب الكتُب) ، ومع ذلك كان عامِّياً مُتَّهماً بالكذب.. وحُكم الشيخ الصدوق بتضعيفه موافق لحكم المشهور، ولعلَّه محلُّ إجماع.

نكتفي بهذا القدر من الشواهد التي يتحصَّل منها أنَّ النقد السندي وردَّ الروايات بسبب ضعف رُواتها، هو منهج قديم اعتمده الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد رحمهما الله.

وثمَّة شواهدُ كثيرةٌ على أنَّ هذا المنهج هو المعتمد لدى قدماء المحدِّثين من أساطين مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وأنَّهم استقوا ذلك ممَّا رووه عن أهل البيت عليهم السلام.. بل هو منهج العقلاء جميعاً، وقد أرشد إليه القرآن الكريم أيضاً.. وللتفصيل مقام آخر.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى